حقائق خمس ربما تفسر “خنق الإصلاح التعليمي” في المنطقة العربية؛ ومصر بالطبع جزء منها:
١-إن الابتكارات في التعليم في أمريكا اللاتينية -مثالا-نتجت عن الترويج للإصلاح السياسي الذي أصبح ممكنًا بفضل الطبيعة شبه الديمقراطية لتلك الأنظمة السياسية، ومن هنا جاءت الفرص التي توفرها أمام السياسيين لمناشدة الناخبين الذين لديهم مقترحات لتحسين التعليم، ومن خلال خدمات مدنية ذات كفاءة معقولة تولد كلاً من الإرادة والقدرة على الإصلاح.
يطرح مثال أمريكا اللاتينية مسألة الإصلاح التعليمي في الأنظمة العربية وما إذا كان متعمدا ومدارا بعناية من قبل النخب، أو أنه مجرد منتج ثانوي للسلطة العامة، بما في ذلك الآثار السلبية للزبائنية والمحسوبية بدلاً من الخدمات المدنية البحتة.
٢-إن التركيز على خلق اقتصادات المعرفة والعدد الكبير من “الرؤى” طويلة المدى للدول العربية (مصر والسعودية ٢٠٣٠، والإمارات ٢٠٥٠) كما فرضها حكامها وصاغتها شركات استشارية دولية؛ يشير إلى أن هؤلاء الحكام يفكرون في كيفية تحقيق الإصلاحات التعليمية دون إضعاف أو حتى إزاحة أنفسهم.
٣-تشير أدلة أخرى إلى أن القائمين بصنع السياسات في المنطقة يحاولون إعادة تشكيل الأنظمة التعليمية بأسلوب مستنير من دول استبدادية أخرى، والتي قد تكون الصين على وجه التحديد ودول شرق آسيا بشكل عام مفتاحًا لها، والكامن خلف هذا قد يكون: إحداث قنوات توظيف انتقائية في النخب السياسية والاقتصادية، كما فعل الحزب الشيوعي الصيني، وكما يبدو في مصر الآن التي تجتذب شريحة محدودة من الشباب الذي ربي على عين النظام ليكون جزءا من بيروقراطيته وبديلا عن القائم منها.
وربما يكون أيضا -الاتجاه نحو هذه النظم – بديلاً جذابًا للمهمة الصعبة والخطيرة سياسياً المتمثلة في تحديث واسع للتعليم العام الشامل.
ونلفت النظر إلى أن من العوامل السياقية ذات الصلة بإصلاح التعليم العربي التحول من النماذج التعليمية الليبرالية إلى النماذج الاستبدادية، ومثله الواضح التحول نحو النظم الآسيوية التي يحكمها الانضباط والنظام. الانحياز ليس فقط للنماذج الآسيوية المفترضة، ولكن أيضًا للنماذج الاستبدادية بشكل عام، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع.
هذا التحول إلى أنظمة تعليمية متعددة يفسر التنوع أو بالأحرى تجزئتها وتوزعها بين نظم متعارضة متناقضة فيما بينها من جهة الفلسفة التي أسست عليها.
٤-خصخصة التعليم: أصبح التعليم في كل مكان عملاً تجاريًا، وفي بعض الحالات كبير وناجح من الناحية المالية.
تخدم الخصخصة أغراضًا أخرى أيضًا، بما في ذلك عولمة التعليم الوطني، والتي بدورها تبشر بالوعود بتحسين الجودة وتعلم اللغة الأجنبية والمكاسب المرتبطة بها في مكانة الأمة وحكومتها.
وبينما تدرك الحكومات العربية هذه الفوائد المحتملة، فإن معظمها تخشى الخصخصة أيضًا؛ خوفًا من الأنشطة المستقلة من أي نوع، فهم قلقون من أن التنظيم غير المباشر بدلاً من التحكم المباشر في التعليم سيؤدي إلى إنتاج عدد أقل من أنواع مواطنين يريدون والمزيد ممن لا يريدونه.
٥-نلفت النظر إلى أن جوانب الاقتصادات السياسية العربية المعترف بها الآن على أنها أعاقت التنويع الاقتصادي والنمو قد أعاقت أيضًا التحسينات في تسليم السلع العامة، وأهمها التعليم.
هذه الحقائق وغيرها كثير مما انتهى إليها كتاب :”الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي” -الذي صدر من أيام قليلة باللغة الانجليزية يجعل من الممكن فهم سبب استمرار ضعف أداء التعليم العربي، ولماذا كان شديد المقاومة للإصلاح، وما هي احتمالات تحقيق الأهداف المعلنة للإصلاح، أو على العكس من ذلك، للضغط من أسفل لتوليد مطالب لا تقاوم من أجل تغيير حقيقي، ربما ليس فقط في التعليم، ولكن أيضًا للأنظمة السياسية التي تتحمل مسؤولية كبيرة عن حالتها الحالية غير الملائمة؟
ميزة الكتاب الأساسية أنه يتجاوز النقاش الفني أو نقص التمويل الذي يغلب على إصلاح التعليم ليربطه بسياقاته الأوسع التي يتحرك فيها، والتي تدور بشكل أساسي حول هيكل توزيع الثروة والسلطة في المجتمع- أي مسألة تغير العقد الاجتماعي الذي قامت عليه هذه الأنظمة؛ فقد كان تركيزهم المهني الأساسي -في مرحلة مابعد الاستقلال- هو الخدمة المدنية بتوفير موظفين للبيروقراطية الحكومية، وهو المظهر الملموس للعقود الاجتماعية التي دعمت هذه الأنظمة الاستبدادية والتي تحمي الخريجين من المنافسة الدولية.
دفع النمو السكاني، وتدهور المالية العامة، وتوسيع نطاق الخصخصة، والتغييرات الأخرى في السياسات المرتبطة بتكثيف العولمة في أواخر الثمانينيات في العديد من البلدان العربية؛ دفعت لتقويض جدوى السياسات التعليمية التي يتم تسخيرها للاقتصادات السياسية القديمة.
فقدت الصيغة القديمة للتحضير للتوظيف العام وغرس القومية أهميتها، في حين أن العولمة بما في ذلك توفير معلومات مقارنة حول الأداء التعليمي، قد كثفت الضغط من أجل الإصلاح، وهنا تحول التركيز المهني من الخدمة المدنية إلى التوظيف في القطاع الخاص؛ ذلك المصطلح الشامل والطموح الذي يصف هذا التغيير المأمول باعتباره إنشاء “اقتصاد المعرفة” الذي يشير إلى أن الاقتصاد المعني يجب أن يكون قادرًا على المنافسة عالميًا. وهذا بدوره يتطلب أن يفي التعليم بالمعايير العالمية، وهو هدف طموح يثير معضلة سياسية حول أفضل السبل للتوفيق بينه وبين الأداء الفعلي.
المعضلة تتأتي من التحول في المقصد من النظام التعليمي من تخريج موظفين يتم دمجهم في بيروقراطية الدولة إلى خريج يتعامل مع اقتصاد المعرفة بما يعنيه من ضرورة ترجمة قيم وأسس اقتصاد المعرفة في السياسة والمجتمع، وهي نفس المعضلة التي نواجهها في التحرر الاقتصادي منذ الثمانينات والمتمثلة في إمكانية تحقيقه دون تحرر في المجال السياسي، وهي الصيغة التي ثبت فشلها بالانتفاضات العربية ٢٠١١/٢٠١٠.
بعبارة أكثر وضوحا إذا تبت بالانتفاضات العربية فشل الفصل بين التحرر الاقتصادي وقرينه السياسي، فإن من المتوقع أيضا عدم القدرة على الفصل بين اقتصاد المعرفة وما يمثله من قيم تقوم على الإبداع والتفكير النقدي …إلخ. يقول محررا الكتاب –هشام العلوي وروبرت سبرينغبورغ – :”إن التحول من التعليم كتحضير للخدمة المدنية إلى النمو المدفوع تقنيًا بقيادة القطاع الخاص هو باختصار إثبات أنه يمثل مشكلة ومحفوفًا بالمخاطر السياسية، ناهيك عن عدم تحقيقه بعد”.
هناك تداعيات كثيرة للصيغة الجديدة: الاندماج في اقتصاد المعرفة نكتفي منها باثنتين يشير إليها الكتاب في فصله الأول:
١-صعوبات غرس الهوية الوطنية والولاء السياسي في نفوس الطلاب، فقد كان سهلا أن تفعل ذلك عندما كان عدو الأمة “الإمبريالي” واضحًا للجميع، وبالتالي فهو وسيلة مفيدة يمكن من خلالها تجانس أفكار الطلاب وهوياتهم السياسية ذات الصلة، ولكنها مسألة أخرى تمامًا عندما يكون الأعداء المزعومون أقل وضوحًا، وليسوا أشرارًا بطبيعتهم، ويتغيرون كثيرًا.
٢-حتى فكرة القومية العربية أصبحت إشكالية، خاصة في تلك البلدان، مثل المغرب والجزائر والسودان والعراق، مع أقليات عرقية ولغوية مهمة، أو في مصر، حيث تنافست العروبة دائمًا مع الهوية المصرية.
التعليم والديمقراطية
السؤال الأساسي الذي يطرحه إسحاق ديوان في الفصل الثاني من الكتاب: لماذا لا يكون التعليم في المنطقة العربية فارقا في الدفع بقيم الحرية في المجالين السياسي والاجتماعي؟
ومن هذا السؤال يفرع ثلاثة أسئلة يحاول أن يجيب عليها تجريبيا: هل الأفراد الأكثر تعليما أكثر تحررًا اجتماعيًا وسياسيًا في المنطقة العربية مقارنةً بالمناطق الأقل تعليماً؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل يتناسب مكسب التحرر مع ما هو موجود في مناطق أخرى من العالم؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، كما وجد، ما الذي يفسر التأثير التحرري المنخفض للتعليم في المنطقة – هل هو الثقافة أم السياسات؟
يقدم لنا إسحاق من خلال تحليلات معمقة لاستطلاعات الرأي ثلاث حقائق صادمة: الأولى أن الفئة المتعلمة تميل إلى أن تكون في الجانب المنخفض من التحرر؛ ليس فقط في المنطقة العربية، ولكن أيضًا في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وفي البلدان المصدرة للنفط أيضا.
الثانية: الأنظمة الاستبدادية في المنطقة تتلاعب بقطاعاتها التعليمية من أجل تعزيز قيم الطاعة واحترام السلطة بطرق تعزز حكمها.
الثالثة: المصالح الاقتصادية للمثقفين، والخوف من العقوبات التي تفرضها الأنظمة الاستبدادية إذا كان يُنظر إليها على أنها تدعم المعارضة السياسية، تلعب أيضًا دورًا في منعهم من تبني السلوكيات السياسية التحررية.
وينتهي إلى أن الافتقار إلى الديمقراطية يقلل عوائد التعليم، وهو الذي يقود إلى عدد من النتائج والظواهر أهمها:
١-من الواضح أن قيم المتعلمين تميل إلى أن تكون قريبة جدًا من قيم غير المتعلمين، فهناك فرق أربع نقاط مئوية على الأكثر بين المتعلمين وغير المتعلمين (باستثناء المغرب)، وفي العديد من البلدان، أقل من ذلك بكثير.
المردود السياسي للتعليم مرتفع في المغرب، ومن ناحية أخرى فهو قريب من الصفر في ليبيا وقطر واليمن والمملكة العربية السعودية.
٢-القيم السياسية أقل تحرراً في المنطقة العربية منها في بقية العالم، وهذه القيم ليست فقط في المنطقة العربية أقل مما هي عليه في بقية العالم، ولكنها علاوة على ذلك لا ترتفع مع التعليم بقدر ما هي في بقية العالم، ونتيجة لذلك تزداد فجوة القيم مع مستوى التعليم.
٣-من خلال مقارنة الرسوم البيانية للمنطقة العربية مقارنة بالدول الأوروبية؛ تظهر خاصيتين مهمتين: أولاً، القيم السياسية في العالم العربي متحفظة بين المتعلمين، مقارنةً بالأوروبي، مما يوضح أن العوائد التحررية للتعليم منخفضة جدًا في المنطقة.
ثانيًا: تميل قيم غير المتعلمين في المنطقة إلى أن تكون مماثلة لتلك الخاصة بغير المتعلمين في أوروبا، وبالتالي فإن قيم المتعلمين هي التي تبرز على أنها “استثنائية”.
٤-لم تتغير هذه الأنماط كثيرًا بمرور الوقت؛ فالخطوط في الرسوم البيانية تميل إلى أن تكون مسطحة على مستوى المجموعات في المنطقة العربية ، مما يشير إلى تغيير طفيف بمرور الوقت.
٥-عند التركيز على المنطقة العربية من منظور مقارن، وجدت أن الالتزام بقيم الديمقراطية قد أعاقه الانحياز للوضع الراهن، والذي كان قوياً بشكل خاص بين المتعلمين، ولكنه كان واضحًا أيضًا بين الشباب والطبقة الوسطى.
وهكذا يكثف ديوان خلاصاته بالقول: “التعليم يحدث تحررا في الديمقراطية أكثر بكثير مما هو عليه في البلدان التسلطية في جميع بلدان العالم”. ولا يوجد شيء استثنائي حول المستوى المتدني للقيم السياسية الفردية بين المتعلمين في الدول العربية؛ كما هو الحال في جميع البلدان غير الديمقراطية حيث تميل هذه القيم إلى أن تكون أكثر محافظة.
الصفقة الاستبدادية
في أدبيات دراسة المنطقة؛ تم تطوير ثلاث آليات يمكنها تفسير الفجوة التحررية للمتعلمين العرب: أولاً يجادل البعض بأن استثنائية المنطقة ترجع إلى عوامل ثقافية، ولا سيما ثقافتها الإسلامية التي تدفع كلاً من انخفاض الطلب على الديمقراطية والقيم السياسية الفردية المحافظة. ثانيًا الأعمال التي تركز على طبيعة التعليم التلقينية والدعاية السلطوية باستخدامه، وتزعم أن المستبدين من أجل تعزيز الرقابة الاجتماعية يستخدمون التعليم بشكل منهجي كأداة للتلقين.
ثالثًا، وضع فرع آخر من الأدبيات نظرية عن وجود صفقة استبدادية بين المواطنين والحكام، حيث يقبل المتعلمون تقليص أصواتهم مقابل مزايا اقتصادية واجتماعية و / أو سياسية، فيهتمون أكثر من غير المتعلمين بالامتناع عن التعبير عن المعارضة في الأنظمة الاستبدادية القمعية، لأنهم يخاطرون بفقدان عائدهم الأكبر للتعليم.
يغلب إسحاق ديوان الصفقة الاستبدادية بين الأنظمة والمتعلمين علي البعد الثقافي ومسألة التلقين في تفسيره لانخفاض القيم التحررية للمتعلمين العرب؛حيث يتنازلون بموجبها عن حقوقهم السياسية مقابل مزايا اقتصادية أو اجتماعية، كما يمكن أن ترتبط مصلحة المتعلمين بتشكيل تحالف مع المستبدين لعدة عوامل أبرزها أن الأنظمة تبذل جهودًا لاستمالة المتعلمين، من خلال وظائف القطاع العام، والإعانات من مختلف الأنواع، حيث كان خلق طبقة وسطى حديثة للعديد من الأنظمة روايتها الرئيسية التي تضفي بها الشرعية.
كما أن المتعلمين سيخسرون أكثر في معارضة الأنظمة القمعية غير الديمقراطية، حيث تكون الدولة هي رب العمل الرئيسي.
من هذا المنظور، يمكن أن يكون فشل المجتمعات العربية في إحراز تقدم سياسي مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بالقيم السياسية للمتعلمين.
وعلى أي حال، فإن بروز القيم السياسية التحررية للمتعلمين على أنها متدنية بشكل خاص في المنطقة العربية هو سبب عميق للقلق لأن تداعياته لن تقتصر علي المجال السياسي فقط لكنها ستمتد إلي المجالات الأخري كافة.
إلا أن إسحاق لا يناقش مدى تأثير تراجع عوائد هذه الصفقة في ظل تقلص موارد الدولة وتحولها نحو القطاع الخاص وتنويع أشكال الاقتصاد، وهو ما يستحق المتابعة.
ونختم فنقول: يظهر التعليم كمجال يجب أن تتركز فيه الإصلاحات، ليس فقط على جودته من منظور الإنتاجية الاقتصادية، ولكن أيضًا على الصفات الاجتماعية والسياسية التي يجسدها، والأهم كيف يمكن ربط إصلاح التعليم عند الجمهور العربي بزيادة الطلب على الديمقراطية في المجتمع.