أعلنت الصين تخلصها من الفقر نهائيًا بعد برنامج دشنته عام 2013، وبذلك تكون قد نجحت في إطعام سدس سكان العالم. وفي الطريق حققت النسب الأكبر للنمو في العالم، وتجاوزت كوارث وأوبئة مثل كورونا، وسارس. لكنها- في الوقت نفسه- صاحبة النصيب الأكبر من اللامساواة وتفاوت الدخول بين الفقراء والأغنياء، رغم المعتقدات الصينية الاشتراكية التي طالما تشدق بها مؤسسو الدولة الأكبر.
وفي خضمّ نهضة غير مسبوقة وصراع عالمي على أشده، أصبحت بكين أحد أهم لاعبيه، أشاد الرئيس شي جينبينج خلال خطاب في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني منذ أيام، بمسار بلاده “الذي لا رجوع عنه” من مستعمَرة مُهانة إلى قوّة عظمى، مؤكداً انتهاء “عهد التنمّر” على بلاده.
فكيف تحقق ذلك؟
أنتجت السياسات الماوية في بدايتها قدرًا ضئيلاً من اللامساواة، ولكنها في الوقت نفسه، ذهبت بعيدًا في الانقطاع عن العالم. واتبعت سياسة المزارع الجماعية، وحصول الدولة أغلب الأحيان على كامل المحصول طمعًا في إرضاء الزعيم. وذلك أدى في بعض السنوات إلى حد المجاعة، ووفاة من 10 إلى 40 مليون شخص في الفترة بين عامي 1959-1961.
ولكن مع وفاة مؤسس الحزب الشيوعي، ماوتسي تونج، عام 1976، وتولي الإصلاحي دنغ شياوبينغ دفة الحكم، تغير الموقف تمامًا. إذ بدأ الزعيم الجديد إعطاء الفلاحين مساحة من الاختيار، تتعلق بنوع المحصول، واحتكار الدولة شراء وبيع المنتجات الزراعية، ورفع الأسعار. لتبدأ التنمية من الريف، لا بتشييد المصانع، كما يحلو للبعض أن يردد.
يقول كبير الاقتصاديين في بنك ستاندارد تشارترد ديفيد مان، “منذ نهاية السبعينيات إلى الآن، رأينا أكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ”. وذلك بعد أن انتقل الزعيم دنج شيئًا فشيء إلى الصناعة، والتطور التكنولوجي. ولم يتبع طريقة القفزات الكبرى التي أثبتت فشلها مع ماو، ثم الاتحاد السوفيتي لاحقا.
استعادة العلاقات الرأسمالية للحفاظ على الحزب
عن أسباب الخروج من مرحلة ماو وضرورته والإخلال بالقسم الشيوعي إلى نهج رأسمالي، يقول مؤلف كتاب الفيل والتنين روبين ميرديث: “ربما لم يصن دنج ذكرى ماو. ولكنه فعل ذلك بهدف الحفاظ على كيان الحزب نفسه الذي قاده ماو، فالتنمية بقدر يبلغ 8% سنويا، أو الاحتجاجات الجماهيرية. التي يمكنها ببساطة الإطاحة بالحزب كليا”.
وبناءً عليه استأنف دنج العلاقات الرأسمالية التي حاول ماو محوها، عبر فتح مناطق بعينها للمستثمرين الأجانب. وكذلك التطلع إلى تجربة جارته سنغافورة الحداثية، إلى جانب التعاون مع المحميات الاستعمارية السابقة مثل هونج كونج، ومكاو. فضلاً عن استيراد التكنولوجيا من تايوان كونها محمية أمريكية.
استغلت بكين إرثها من التخلف، كما يقول المفكر الشيوعي ليون تروتسكي في “السير للأمام”، عبر أعداد الفلاحين الغفيرة. والذين لم يعرفوا سوى الحكم المطلق لأكثر من ألفي عام، لإخراج العمالة من بينهم، من أجل ما يسمى بالتراكم البدائي.
وفي هذا الشأن يقول الناشط الدولي في ملف العدالة أو يونج لو: “في الثمانينات قامت الدولة الصينية بتجنيد 300 مليون مهاجر من الريف إلى المدن الكبرى. للعمل كعمالة هي الأرخص من نوعها في المناطق الاقتصادية، وبشكل أقرب إلى الاستعباد، وهي ميزة استغلها النظام، لتطوير الاقتصاد الوليد”.
يونج لو يرى أن “تخلف الصين أيضًا جعلها قادرة على القفز فوق مراحل التطور. عبر استبدال الوسائل والأساليب القديمة للتنمية بأخرى رأسمالية متقدمة”.
ضرب يونج مثالاً على ذلك “باعتماد الدولة الصينية التكنولوجيا المتقدمة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية. بدلاً من اتباع كل خطوة من خطوات المجتمعات الرأسمالية الأكثر تقدمًا، بدءًا من استخدام خطوط الهاتف للاتصال عبر الإنترنت أولاً. فقامت بتركيب كابلات الألياف الضوئية في جميع أنحاء البلاد مرة واحدة تقريبًا”.
أنجزت الصين تحديثًا رأسماليًا استغرق 100 عام في دول أخرى، ولكنها في الوقت نفسه تعتمد على الشركات متعددة الجنسيات. والتعاقد من الباطن مع الشركات التايوانية والصينية الخاصة، ولكنها في الوقت نفسه عملت على تطوير صناعات خاصة بها. فكانت التنمية لديها ذات مسارين متناقضين، بعكس التجربة السوفيتية التي اعتمدت منهج رأسمالية الدولة كطريقة واحدة للنمو.
عوامل قوة النمو الاقتصاد الصيني
ولكن هناك بُعدٌ ثانٍ للعملية التنموية، يشير إليه يونج في كتابه الشهير “صعود الصين”، وهو ما أطلق عليه “التراكم المستقل”. إذ دأبت بكين منذ بداية نهضتها على توجيه الاقتصاد، وتمويل البحث والتطوير، والحفاظ على سيطرة غير مباشرة على القطاع الخاص، الذي يمثل الآن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي. كما تقوم الدولة بشكل منهجي بإجراء هندسة عكسية لنسخ التكنولوجيا الغربية لتطوير صناعاتها الخاصة.
القطاع الخاص يمثل أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي في الصين، كما تقوم بإجراء هندسة عكسية لنسخ التكنولوجيا الغربية لتطوير صناعاتها الخاصة
كما تتمتع الصين بمزايا لا تمتلكها دول أخرى، وهي الضخمة، ليس فقط في حجم المنطقة، ولكن في عدد السكان. وذلك مكنها من تقسيم العمل إلى ثلاثة أجزاء من البلاد، هي قوانجدونج التي تعتبر منطقة تحضير الصادرات كثيفة العمالة. ودلتا تشجيانج وهي أيضًا موجهة للتصدير، لكنها أكثر اتساعًا في رأس المال. وحول بكين، طورت الدولة الصينية التكنولوجيا الدقيقة المتقدمة، المتعلقة بقطاع الاتصالات، وصناعة الطيران. وهو التنوع الذي يعد جزءًا من استراتيجية واعية للدولة لتطوير نفسها كقوة اقتصادية.
الصين ورشة الأعمال الشاقة في العالم
غير أن يونج يعتبر أن تلك الطريقة في التطوير جعل الصين بمثابة ورشة الأعمال الشاقة في العالم. وهو ما أبقاها في أسفل سلسلة القيمة العالمية، ويضرب المثال على ذلك بهاتف Apple. إذ تقوم الصين فقط بتجميع جميع الأجزاء التي تم تصميمها وصنعها في الغالب خارج البلاد.
كما كشفت أزمة شركة “ZTE”، عن مثال آخر على الضعف والتبعية التنموية النسبية. وذلك عندما اتهمت إدارة ترامب المؤسسة الصينية للاتصالات بانتهاك عقوباتها التجارية على إيران وكوريا الشمالية. وقتها فرض ترامب حظرًا تجاريًا على الشركة، ومنعها من الوصول إلى البرامج المصممة أمريكيًا والمكونات عالية التقنية. وهو ما هدد الشركة بالانهيار بين عشية وضحاها.
في الوقت نفسه، تعاني الصين من نقاط ضعف أخرى يمكن التعرف عليها إذا نظرت إلى ناتجها المحلي الإجمالي. فإنها تعد ثاني أكبر دولة في العالم، ولكن بقياس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، فستظل دولة ذات دخل متوسط.
ويقول البنك الدولي إن دخل الفرد في الصين ما زال في مستوى نظيره بالدول النامية. وهو يكاد يبلغ ربع الدخل في الاقتصادات المتقدمة. وحسب بنك سنغافورة للتنمية، فإن متوسط الدخل الفردي السنوي في الصين لا يكاد يبلغ 10 آلاف دولار، مقارنة بحوالي 62 ألف دولار في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فبالوتيرة الحالية ستسهم الصين بنسبة 35% من النمو الاقتصادي العالمي، أيَّ أكبر مساهمة من أي دولة أخرى. ولفهم الأمر بشكل أوقع، فإنّ أهمية بكين للنمو العالمي أصبحت تبلغ 3 أضعاف أهمية الولايات المتحدة.
كورونا وتحويل الأزمات إلى مكاسب
وخلال جائحة كورونا التي بدأت من الصين، وكان الجميع يراهنون على تخلفها عن الركب العالمي لسنوات. ضربت بكين مثالا على كيفية استغلال الأزمات لصالح قوتها العالمية، وبينما كانت تتعامل مع الفيروس بحزم. كان للولايات المتحدة أداء متباطئ بفضل الرئيس السابق المثير للجدل دونالد ترامب.
وأدت الأزمة الصحية -التي اعتبرت أكثر الأزمات الاقتصادية حدة منذ الحرب العالمية الثانية إلى نكسات شديدة. ولكن كانت الصين وتحديدا من منطقة ووهان، أول دولة تخرج من الأزمة وهي الأكثر استفادة اقتصاديا وسياسيا، بحسب تقارير اقتصادية.
وعليه استغل مسؤولو الحزب تلك الأزمة ليقدموها دليلاً على قوة النظام الاستبدادي في الصين وزعيمها شي. ووصل الأمر إلى الإعلان عن خطط لنشر كتاب بست لغات عن مقاومة الصين للفيروس يصور الرئيس الصيني على أنه “قائد قوي يرعى الناس”.
واستغلت إنتاجها المبكر للقاح كورونا في تحسين علاقاتها بالدول، وإظهار نظامها بشكل إنساني، يحاول التغطية على انتهاكاته في الحرية والتعبير. وكذلك الاتهامات التي وجهت له بالمسؤولية عن المرض في بداية الأزمة.
كذلك عملت بكين على زيادة إنتاج السلع المتنوعة لإغراق السوق، بينما الشركات الغربية تعاني من تداعيات كورونا. كما تعد الصين نفسها لتكون ملاذاً لرأس المال الأجنبي خاصة بعد انتعاش أسواقها قبل أسواق المنافس الغربي.
شي جينبينج وحلم استعادة الإمبراطورية
وبشأن المستوى السياسي لإدراك حالة الاقتصاد، فيُعاب على النظام الحالي إخلاله بفرص انتقال السلطة سلميًا. إذ تخلى الزعيم شي جينبينج عن سياسة دنج في الحكم الجماعي، وأعاد حكم الفرد. وهو ما يؤدي إلى أزمات سياسية بين فصائل الحكم حول خلافته، بحسب المراقبين.
وحول شخصية شي يقول يونج لو: “إن شي هو دم أزرق رجعي، مصمم على استعادة هيمنة الماضي الإمبراطوري للصين وإعادة بناء ما يسمى بالسلالة السماوية. وهو ما يبرر تحفيزه لرجاله على إنتاج عدد كبير من المقالات والرسائل الجامعية، والمقالات التي تمجد هذا الماضي الإمبراطوري كجزء من تبرير مشروعهم في أن يصبحوا قوة عظمى”.
ويختلف “شي” عن سابقيه بتبنيه فكرة استعادة الإرث التاريخي، خاصةً كونه ينتمي لطبقة النبلاء، الذين حكموا الدولة بعد عام 1949. وهو ما دفعه للإطاحة بشباب الحزب الشيوعي المتعلمين المثقفين.
هذا النفس القومي الإمبريالي زاد فرص تأجيج الصراع وجعله على أشده عالميًا، وهو ما يفسر التوتر الدائم مع الولايات المتحدة. وهي المعركة التي يضطر فيها “شي” للتراجع تكتيكيًا مثلما حدث في أزمة ZTE. ثم العودة لساحة الصراع بقوة من خلال استغلال الأزمات العالمية، كما هو الحال مع كورونا.
يظهر هذا النفس خلال خطاب “شي”، الذي تحدّث فيه بعمق عن التاريخ لتذكير مواطنيه الفخورين في الداخل، والمنافسين والأعداء في الخارج بصعود أمّته، وصعوده شخصياً. ورأى “شي” الذي رسم خطاً تاريخياً خلال خطابه من حقبة الخضوع لحروب الأفيون إلى النضال من أجل تأسيس “ثورة اشتراكية”. أن الحزب حقق “تجديداً وطنياً” و”انتشل عشرات الملايين من الفقر” و”غيّر مشهد التنمية العالمية”.