اتخذت أزمة سد النهضة منحنى آخر منذ أعلنت إثيوبيا بدء الملء الثاني، باعبتاره إجراءً يجعل كافة خيارات مصر والسودان مفتوحة.

وتضمنت التحركات المصرية مع الفاعلين الدوليين ومجموعة حوض النيل والاتحاد الأفريقي، خلال الفترة الماضية، اتفاقيات عسكرية وأمنية واستخباراتية مع أوغندا وكينيا وبوروندي ورواندا وجيبوتي، بالإضافة إلى إجراء تدريبات عسكرية مع السودان قرب الحدود مع إثيوبيا، خاصة منطقة بني شنقول التي يقام عليها سد النهضة، وهو ما أوحى بأن القاهرة لديها استعداد لكافة الحلول.

في 6 يوليو الجاري، أعلنت إثيوبيا بدء الملء الثاني لسد النهضة بدون اتفاق مسبق مع مصر والسودان. وفي 8 يوليو، فشل مجلس الأمن في فرض اتفاق ملزم للدول الثلاثة لحل الخلاف، ودعت أغلب الدول للعودة إلى المفاوضات، ودعم وساطة الاتحاد الأفريقي.

ورفضت دول من بينها روسيا والولايات المتحدة والصين التلويح بالخيار العسكري. في المقابل، طالبت مصر بمفاوضات مُزمَّنة، تتضمن اتفاقًا ملزمًا قانونًا، سواء عبر مفاوضات مباشرة أو وساطات دولية وإقليمية.

صراعات المياه والدبلوماسية

وبعدما عاد وزير الخارجية المصري سامح شكري من نيويورك، حيث اجتمع بعدة أطراف دولية لشرح الموقف المصري من أزمة السد. انتقل إلى بروكسل، وهناك واصل لقاءات مع عدة أطراف أوروبية، في محاولة لإيجاد اختراق دبلوماسي جديدة لأزمة سد النهضة.

وبالنظر إلى الصراعات الدولية حول أزمات المياه، فإنّ الخريطة لا تخلو من أثر لتلك النزاعات، خلال الأعوام القليلة الماضية. فبالإضافة إلى سد النهضة، ثمة نزاع بين تركيا وكلٍّ من العراق وسوريا حول نهري دجلة والفرات. وكذلك نزاع بين الولايات المتحدة والمكسيك حول نهر الكولورادو، وبين الهند وبنغلاديش حول أنهار الجانغ وبراهمابوترا ومغنا. ونزاع بين زامبيا وبوتسوانا وزيمبابوي وموزمبيق حول تقاسم مياه نهر السنغال، ونزاع بين الهند وباكستان حول نهر الاندوس، وغيرها.

تأخذ تلك النزاعات إطارًا تفاوضيًا بالاعتماد على الدبلوماسية ولا تميل للأطر العسكرية، لاعتبارات ليس من بينها قدرة الدول العسكرية، بقدر تفضيل الخيارات الأكثر نجاحًا والأقل تكلفة على المديين القريب والبعيد.

لذلك، تقول باتريشيا ووترز، أستاذة القانون والمؤسسة لمركز دندي لقانون وسياسة وعلوم المياه في اسكتلندا، إنَّ الأمن المائي يتعلَّق بشكل أقل بطريقة تفكير الأمن العسكري، وبشكل أكبر بفهم المزيد حول ما يعنيه التعاون القانوني.

وتقول ووترز، في ورقة بعنوان “إعادة تأطير حوار الأمن المائي”: “ينتقص التركيز على الجانب العسكري من مهمة إيجاد قواعد قانونية جديدة وفعالة ونظم إدارة”.

هذا الخطاب المتفق على ضرورة الاستناد إلى الأطر القانونية والدبلوماسية لحل أزمات المياه، يجعل من الخيارات العسكرية طرحًا غير مجدٍ للطرفين. وهو ما يتسق مع التوجه الغربي، وفي المقدمة موقف واشنطن، الرافض للخيار العسكري في أزمة سد النهضة.

وفي أحدث مواقف واشنطن، قال صاموييل وربيرج، المتحدث الإقليمى باسم وزارة الخارجية الأمريكية مساء أمس الأحد، إن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن الحل الدبلوماسي هو الحل الوحيد لقضية سد النهضة، و”أنه ليس هناك حل بديل أو حل عسكري، ولا يمكن أن نتخيل أي حرب جديدة في القارة الأفريقية”.

مصر والسودان تؤكدان ضرورة التوصل لاتفاق ملزم في ملف سد النهضة

القدرات العسكرية لمصر

ويبدو أن إبراز القدرات العسكرية لمصر، عبر تقارير صحفية وأوراق بحثية، دفع البعض لترويج الخيار العسكري في التعامل مع أزمة سد النهضة.

وهم يستشهدون في ذلك بتصريحات مسؤولين مصريين يتحدثون عن عدم التهاون في الأمن المائي لمصر، ومنها 3 تصريحات في غضون أسبوع، الأول للرئيس عبدالفتاح السيسي خلال افتتاح قاعدة 3 يوليو البحرية، وبعدها بيومين حذر المتحدث العسكري من اختبار رد فعل القوات المسلحة في ظل قدراتها العالية للردع، والثالث قول وزير الدفاع الفريق أول محمد زكي إن القوات المسلحة بما تمتلكه من قدرات قتالية وأسلحة متطورة قادرة على ردع كل من تسول له نفسه المساس بأمن مصر.

ويمكن قراءة التلويح المصري باستخدام القوة على أنه ورقة ضغط للقاهرة مع القوى الفاعلة لحسم موقفها، إزاء منطقة تموج بتغيرات قد تقود لصراع غير منتهي، أو التعاون من أجل الضغط على إثيوبيا للتراجع عن مواقفها المتعنتة، وفرض حالة الأمر الواقع من أجل التحكم في سريان المياه.

وتحدث خبراء عسكريون عن قدرة القاهرة على تنفيذ ضربة عسكرية محسوبة، وبالتركيز على سلاح الجو. وذلك في الوقت الذي تموج فيه إثيوبيا بأزمات داخلية، كما أنها لا تزال معتمدة في قوتها العسكرية على أسلحة ومعدات قدمية تعود للحقبة السوفيتية، وهو ما يجعلها غير مستعدة لخوض أيَّ حرب شاملة مع مصر، في مقارنة للترسانة المتطورة التي تمتلكها مصر من المقاتلات والمعدات الأمريكية الحديثة.

يتضح من ذلك، أن القدرات العسكرية لمصر متوفرة للتعامل مع الأخطار الأمنية. بيد أن الفرصة لا تزال متاحة للتسوية السلمية لقضايا المياه، أو الاعتماد على ما بات يعرف دوليًا بـ”دبلوماسية المياه”.

محددات العمل العسكري

وتبدو دوافع الخيار العسكري ضيقة، لأسباب تتعلق بالأضرار المادية لتحطم السد على دولتي المصب (مصر والسودان)، بالإضافة إلى حسابات أخرى، تتعلق بالأطراف الممولة للسد، أو تلك العاملة في مرحلة الإنشاء والتشغيل، والدول المستفيدة من استكمال المشروع، والمستثمرة بالمناطق القريبة من السد.

ولا تقتصر المصالح الدولية في المنطقة على الحكومات، بل تمتد بالأساس للشركات متعددة الجنسيات التي تمتلك رؤوس أموال ضخمة في إثيوبيا، ومنها الشركات العاملة في سد النهضة على رأسها شركة “ساليني” الإيطالية وشركات مقاولات واستشارات فرنسية وصينية، تعمل في الأعمال الكهرومائية في موقع السد، وهو ما يؤثر على قرارات القوى الفاعلة.

كما أن أغلب التقارير الدولية قللت من شأن إمكانية حسم الضربة العسكرية للنزاع القائم على إدارة المياه في النهر بشكل عام، سواء جرّاء إنشاء وتشغيل سد النهضة، أو فيما يتعلق بخطط إثيوبيا لإنشاء سدود أخرى على النيل الأزرق مستقبلاً.

من ضمن هذه التقييمات، تقرير لوكالة “بلومبرج” الأمريكية، الذي خلص إلى أن استخدام مصر للخيار العسكري لحل أزمة سد النهضة ربما يكون غير واقعي، فضلاً عن تأكيد مشروع شمال أفريقيا، بمنظمة مجموعة الأزمات الدولية عن أن الخيار العسكري لا يدعم فرص التوصل إلى أي تسويات مستقبلية.

تبعات الخيار العسكري

ويقول معهد “ستراتفور” البحثي الأمريكي، إن هناك عقبات يجب وضعها في الحسبان إذا فكرت مصر في استخدام القوة العسكرية في أزمة سد النهضة.

فيما تحدثت تقارير أخرى عن إمكانيات الأسلحة التي يمتلكها الجيش المصري ومواقع انطلاق الضربات العسكرية المحتلمة من الأراضي السوداني، خاصة مع انطلاق تدريبات ومناورات “حماة النيل” بين مصر والسودان في الفترة الأخيرة وتحريك معدات عسكرية ثقيلة مصرية إلى الأراضي السودانية للمرة الأولى منذ حرب اليمن.

لكن معهد كارينغي أكد في تقرير أن تنفيذ مصر قصفاً جويًا ضد سد النهضة، سيكون من شأنه التورط في مواجهة عسكرية بين مصر وإثيوبيا، وهو ما قد يخلف خرابا ودمارا لمناطق واسعة؛ جراء الفيضانات المحتملة من تدمير جسم السد، خاصة في المناطق الحدودية السودانية التي تبعت 20 كيلو متراً عن موقع السد.

وتتفق هذه التقديرات مع تصريحات سابقة لوزيرة الخارجية السودانية مريم المهدي، حين استبعدت اللجوء لعمل عسكري. وقالت في نهاية أبريل الماضي: “لا مجال للحديث عن الخيار العسكري. نحن الآن نتحدث عن الخيارات السياسية”.

مريم الصادق المهدي

قدرة مصر الدبلوماسية

ويعول مراقبون على قدرة مصر الدبلوماسية لحسم مواقف القوى الدولية لصالحها، باعتبار ذلك يُقليل المخاطر والآثار المحتملة من رد الفعل السلبي للمجتمع الدولي ضد مصر، إذا ما نفذت الحل العسكري.

ولا تبدو فكرة اللجوء للقوة من أجل التعاون المستقبلي والحوار جديدة، إذ يعزز هذا الاتجاه التجربة المصرية في السلام مع إسرائيل، حيث نجحت مباحثات السلام؛ إثر تفوق الآلية العسكرية المصرية في حرب أكتوبر، بل استطاعت أيضاَ الدبلوماسية المصرية استعادة طابا بالتحكيم الدولي واللجوء إلى القانون الدولي، رغم الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي.

خياران دبلوماسيان

هنا يبقى خياران بعد تأزم الموقف، الأول يتعلق بإعلان مصر والسودان الانسحاب من الاتفاق الإطاري، ومن ثم اللجوء إلى اتفاقية عنتيبي، وهي اتفاقية إطارية موقعة بين بعض دول حوض نهر النيل في أوغندا عام 2010، من دول: إثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا، وانضمت إليها بورندي في عام 2011، لكنها لم تدخل بعد حيز التنفيذ الفعلي.

وتنص الاتفاقية على مبدأ الانتفاع العادل والمنصف، من موارد مياه المنظومة المائية لنهر النيل. غير أن لجوء مصر لهذا الخيار يسقط حقها في المطالبة بالحصة التاريخية في مياه نهر النيل – التي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويا من المياه، وفقا لاتفاقية عام 1959 – وهو الأمر الذي جعل كل من السودان ومصر تحجمان عن التوقيع على هذه الاتفاقية الإطارية لدول حوض نهر النيل.

أما الخيار الثاني، فهو جولة مفاوضات مُزمَّنة (محددة المدة)، تنتهي باتفاق ملزم بشأن مراحل الملء وإدارة مشتركة في تشغيل السد، يدعم هذا الخيار تقرير لخبراء بريطانيين بعنوان “صيانة النيل مستقبلا” كشف عن إمكانية تعاون مصر وإثيوبيا لإنشاد وإدارة وتشغيل سدود على نهر النيل، وأن ثمة وثائق متداولة بين الدولين تفيذ بمناقشة هذا الخيار قبل سنوات من تدشين سد النهضة.