تسألني ابنتي: “هو ليه الناس لما بتتجوز بتخلف؟” فأخبرها: “لأنَّ الناس اتعوِّدت على كده.. يخلصوا تعليم يشتغلوا يتجوزوا يخلفوا ثم يخلفوا طفل تاني عشان ما ينفعش يبقى فيه طفل وحيد بلا أخوات”، فتنظر لي باستغراب وتعاود السؤال: “هم مين اللي عودهم على كده؟” فأقول لها: “الناس والمجتمع.. عشان بنخاف من حكم الناس علينا”.
(1)
الجيزة عام 1997
في مراحل تعليمي الأساسية كنتُ في مدرسة مشتركة، نتشارك مع الأولاد حصص الأنشطة والتربية الدينية، حيث يجب ضم المجموعات الصغيرة في حصص واحدة تقليلاً لعدد الحصص ووقت مدرس المادة، في الصف الأول الإعدادي في حصة النشاط اخترت التخصص في المجال الصناعي لأنني أردت أن أعرف فائدة كل أداة من أدوات أبي التي لدينا في المنزل.. كنت الفتاة الوحيدة التي تجلس بين الأولاد لا يلتفت لي المدرس إلا قليلا، في حصة الألعاب أجلس وسط الفتيات نشاهد الأولاد يلعبون كرة القدم، نكتفي بالتشجيع ومراقبة الأكثر وسامة بينهم وأشطرهم، أتحسر أنا ومروة –التي يلعب أخوها كابتن للفريق – نجلس بينما نريد أن نلعب، هي حصة ألعابنا أيضًا، لنلعب أي لعبة جماعية، فيما بعدُ استطعنا أن نقنع أستاذ حسام بأن يخصص لنا ملعبًا آخر نلعب فيه كرة قدم.. لعبنا مباراة واحدة حقا ولكننا كنا نشعر بشيء أكثر من البهجة.. الآن أستطيع أن أفسر أنه كان: “التمتع بالمساواة”، كانت مباراة وحيدة؛ لأن الناظر رأى أن كرة القدم هي لعبة للأولاد فقط.
(2)
يقولون دائمًا للفتيات إن الأمومة غريزة، نتلقى الهدايا على شكل عرائس نرعاها ونصنع لها سريرًا وننظم شعرها ونطعمها، يخبرونا أن الهدف الأسمى للزواج لأي فتاة هو الخلفة، لا شيء آخر أهم، حتى وإن كانت الفتاة لها أولويات أخرى.. ششش الخلفة فقط.. اصمتي أنتِ لا تعلمين شيئًا عن نفسكِ.. هي بداخلكِ.. تلك الرغبة في أن تكوني أمًّا، نحن أدرى منكِ فاصمتي وسيري مع بقية الفتيات في الطابور المقدر لهن.
( 3)
المنوفية 2001
أسافر لحضور زفاف فتاة من بنات العائلة، لم تتجاوز السادسة عشرة، اُجبرتْ على الخروج من التعليم الفني لتتزوج رجلاً ثلاثينيًا، تبتهج أمها كثيرا، حيث إن العريس ذو مال ووظيفة في إحدى دول الخليج، لا تستمع لتوسلات ابنتها بأن تستكمل تعليمها في المعهد الفني التجاري بعد الدبلوم، فالزواج هو الهدف و”البنت إيه لو مش هتتجوز وتبقى أم يعني.. هتعمل إيه يعني؟”.. تجلس الصغيرة مربوطة اليدين فعليًا بقطع من القماش حتى تجف الحناء في كفوفها ليلة زفافها، الآن هي أم لثلاثة أبناء أحياء وآخرين ماتوا في بطنها؛ لأن جسدها الصغير لم يحتمل الحمل مبكرًا، ولم تكن هي نفسها مستعدة لدور الأم، وكانت تريد أشياء أخرى. منذ سنة شاهدتها تجلس أمام عتبة بيت خالنا لتقديم العزاء في وفاة أحدهم، ذابلة نحيلة تهش الذباب عن صغيرها تُقبل عليَّ حين تراني لا تتحدث مع أحد إلا للضرورة، تبتسم كثيرا ولكنها غير سعيدة.
(4)
مشهد تخيلي حدث بالفعل
أم لأول مرة، وحدها مع رضيع لا يزيد عمره على أيام، كل الصديقات رحلنَّ وكل الجارات المتطوعات للمساعدة ذهبنَّ لمتابعة حياتهن، حتى أمَّها كان يجب أن تعود لترعى بيتها وأبوها “لأن الأب أيضًا كالأطفال يحتاج لمن يضع الطعام أمامه”، وهذه عادة مرعبة غريبة لا تمت للحب بصلة، المهم هي الآن وحدها مع رضيعها.. لم تنم جيدًا منذ أمس منذ أن رحلت أمها، صدرها أيضًا يؤلمها من الرضاعة، الصغير يبكي، فماذا ستفعل؟ هل ستتركه هي أيضًا وترحل؟ وأين سترحل؟ هذا بيتها وحياتها التي اختارتها.. وماذا سيفعل الرضيع دونها.. تتجه نحوه تحمله، تبدأ في هدهدته وتنظيفه وإطعامه، تتحمل وجعها والصداع الذي يلف رأسها كالضباب، ليس لأن غريزة الأمومة تحركت بداخلها، ولكن لأنها إنسانة وهذا ما يفعله البني آدمين، عدم القسوة على صغير ليس له غيري، يحتاج لمن يطمئنه ويرعاه، تنظر حولها: ولا أحد غيرها موجود.. قررت أن تتحرك نحوه وتتحمل المسئولية.
اقرأ أيضًا: هل الأمومة غريزة؟.. وقائع تعذيب الأطفال تخبرنا بالعكس
هل لو حدث الأمر مع الأب هل سيترك صغيره ويرحل؟ مطلقًا.. الأمر مرتبط بالأنسانية وليس بالأبوة أو الأمومة، يقولون لنا إن الأمومة غريزة وأن الأبوة تُكتسب مع وقت، حسنا هذا مفهوم خاطئ تماما، ما يحرك الأم نحو صغيرها هو إنسانيتها نحوه وهذه الإنسانية موجودة أيضا بداخل الآباء.. نحن فقط تربينا على أن الرعاية والحب هي غريزة بداخلنا وليست لديهم، لو جربنا وتركنا الرضيع مع أبوه ومع عدة نصائح بسيطة سيتعامل فعليا ولن يتركه.
(5)
في مسلسل “ليه لأ” الجزء الثاني تم طرح قضية الاحتضان بشكل جميل وراقٍ وكيف لا تتقبل الأسر الأخرى الطفل اليتيم بينها، وكيف يكون الاحتضان مفيدًا للطفل وللأم، وسارعت كثيرات يتحدثن عن دعمهن للفكرة، وأنها حل لمشاكل كثيرة للطرفين، سواء الطفل أو الأسرة التي تحتضن، حسنا كل هذا جميل وإنساني.
ولكن كثيرين وبعد سنوات، وحين يبدأ الطفل في النمو والكبر ويكف عن كونه “كيوت”، وتصبح عنده مشاكل كأيّ طفل يبدأ مراهقته- تبدأ الأسرة في التراجع عن الاحتضان، أو أن تنجب الأم ابنًا لها بعد سنوات من العلاج فتبدأ في نبذ الطفل المحتضن، بعضهم يعيد الطفل مرة أخرى للدار، وبعضهم ينبذ الطفل أو يعامله بشكل سيئ.. لنطلق عليهم: “المجموعة الأولى”.
أعرف كثيرين أيضا يتحمسن لتبني جرو لطيف، ذي وجه جميل، جذاب، وحين يكبر ويحتاج للذهاب للطبيب أو “هيبر” لأنه في فترة التزاوج يلقون به في الشارع أو يكلموني لإعادته مرة أخرى؛ لأنهم لم يعودوا قادرين على التعامل معه، حينها أترجم الكلمة بيني وبين نفسي: أنتم لستم قادرين على تحمل المسئولية، هؤلاء “المجموعة الثانية”
نفس طريقة تفكير المجموعة الأولى هي نفس طريقة حياة وتفكير المجموعة الثانية، وربما يكون بعض منهم في المجموعتين.
اقرأ أيضًا: ما لا تقوله الأمهات عن الأمومة المستحيلة وأوهام “ست الحبايب”
أين إذًا غريزة الأمومة في هذه الحالات؟ ليست هناك غريزة بل إنسان، هل هناك بداخلك إنسان أم شخص أناني لا يجيد الاهتمام ولا تحمل المسئولية، لا يعرف ما هو مقبل عليه في حالات الاحتضان أو التبني؟، هناك أمهات كثيرات لا يتحملن أبنائهن ويعنفونهم ويمارسن عليهم أنواعا عديدة من الإيذاء النفسي والابتزاز العاطفي، وصولا للضرب والحبس والحرمان من التعليم أو الزواج المبكر، ولا أحد يستطيع أن يحاسبهم، لأنهم أبوه أو أمه وكأنها حصانة تمنع عنهم المحاسبة أو المراجعة، وتكفل لهم المزيد من القهر.. الفشل في التعامل مع الأبناء كبني آدميين مستقلين عنا والسعي دائمًا لابتزازهم وإلا تكن ابنًا عاقًا، والسعي دائما للتحكم فيهم وتعنيفهم لأنهم “عيالنا بتوعنا”، أين غريزة الأمومة إذا؟ ما اختفى في هذه الحالات ليس الغريزة وإنما الإنسانية.
(6)
تقسيم الأدوار منذ طفولتنا يشوِّه أشياء جميلة كثيرة، مثل أن الأب يظل بعيدا عن الأبناء بدعوى أن الرعاية دور الأم، وأن دوره العمل والفلوس لشراء البامبرز وفيزيتا الدكتور لمتابعة الصغير.. لكن لو حدث العكس وتربينا على أن هذا دور الطرفين فسيكون هناك تواصل بين الأب والأطفال، سيقضي وقتا سعيدا بينهما، سترتاح زوجته وتنام قليلا فتختفي عصبيتها ويقل اكتئاب ما بعد الولادة، سينعم برضيعه وهو يحمله والآخر يناغي وينظر له.. كل شيء يستطيع الأب أن يفعله للرضيع ما عدا الرضاعة الطبيعية، ولكنه ما يحدث أنَّ الأب يذهب للنوم في غرفة أخرى؛ لأنه لا يتحمل بكاء الرضيع، ولأنه ليس دوره بل دور التي كانت تلعب بالعرائس صغيرة.
نحن نسير في طابور محدد، حدده لنا المجتمع: الزواج أهم هدف، والإنجاب هو الهدف الوحيد للزواج، والأمومة غريزة، وإعلانات السمن والزيوت والطعام توجه للنساء، وكذلك إعلانات مساحيق تنظيف الأرضيات والتطهير موجهة للسيدات، ومساحيق الغسيل توجه للنساء فقط، وكأن الرجل لا يستطيع غلق باب الغسالة والضغط على الزرار، عبلة كامل المحجبة الممتلئة في إعلانات مسحوق الغسالات العادية وغادة عادل الشيك النحيلة لمسحوق غسالات الأوتوماتيك، والعرائس لعب للفتيات والسيارات لعب للأولاد، هكذا تسير الأمور ويجب أن تظل.