الحرية المدنية أو الاجتماعية هي، باختصار شديد، أن يكون الحاكم وكافة مؤسسات الحكم تحت تصرف الشعب، وذلك باعتبار الشعب- في المعنى الحديث- ليس حشوداً من الرعايا، وإنّما هو مالك الوطن ملكية فعلية على وجه الحقيقة، وليس على وجه الافتراض النظري أو التخيلي، فليس مستأجراً ولا ضيفاً ولا مُقيماً إقامةً عابرة، وإنّما هو مالك وصاحب سيادة ومستقل الإرادة ونافذ الكلمة، يعلو على حُكّامِه ولا يعلو حُكّامُه عليه، يختارهم ولا يختارونه، ويراقبهم ولا يراقبونه، ويحاسبهم ولا يحاسبونه، ويعزلهم متى شاء ولا يعزلونه، ويملي عليهم إرادته باعتبارها الإرادة الوطنية العامة ولا يملون عليه إرادتهم باعتبارها عنوان الحكم الفردي المطلق.

وكذلك، فإن الحرية المدنية والاجتماعية تعني أن يتمتع كل فرد بحقه كاملاً في حرية التفكير، ثم حرية التعبير، ثم حرية الإرادة، ثم حرية القرار، ثم حرية الفعل المسؤول، وذلك كله من دون وصاية من خارج ضميره وعقله وذوقه واختياره، وصاية قد تتمثل في سطوة التقاليد، أو سلطة المجتمع، أو نفوذ المال، أو هيمنة الثقافة السائدة، أو شيوع حالة ذهنية جماعية تميل إلى صبّ جميع الأفراد في قالبٍ واحد، أو قوالب متشابهة، لا يملكون إزاءها حق الاختلاف أو حرية الاختيار.

أما نقيض الحرية المدنية أو الاجتماعية- فهو بالبديهة- أن يكون الشعب تحت تصرف الحاكم أو تحت سطوة المجتمع، وأن يضع الحاكم سلطته في مواجهة مع الشعب أو مع فئات منه، وكذلك أن يضع المجتمع سطوته في تناقض مع حقوق الأفراد أو بعضهم.

اقرأ أيضًا:

كلام عن الديمقراطية

تاريخ الإنسان هو- من بعض وجوهه- كفاح متواصل عبر آلاف السنين ضد هذين المصدرين من مصادر الطغيان على حريته؛ طغيان الحكم بكل أشكاله ومعه بصورة متزامنة ومتوازية طغيان المجتمع بكل أشكاله، سواء طغيان الكثرة ضد القلة أو طغيان الأغنياء ضد الفقراء أو طغيان أصحاب الجاه والنفوذ المادي والأدبي ضد العامة والبسطاء، ويدخل في هذا النفوذ نفوذ الأفكار الذي تمارسه منذ الأزل طبقات من الكهنة ورجال السحر ورجال الدين والمفكرون والمثقفون والإعلاميون، الذين يرون مصالحهم في خدمة النوعين من الطغيان سواء طغيان الحكم أو طغيان المجتمع. فلم يتورَّع كثيرون عبر مراحل التاريخ المختلفة من استخدام السلاح في مواجهة شعوبهم تماماً مثلما كانوا يستخدمونه في مواجهة أعدائهم الخارجيين، وكذلك لم تتورّع أكثر المجتمعات من استخدام سطوتها في قهر المتميزين من أفرادها كما لو كان تميزهم جريمة.

غاية ذلك كله أن تكون السلطة سواء سلطة الحكم أو سلطة المجتمع مصدر أمان لكل من تشملهم بحيث يتمكن الناس في ظلالها من تنمية إنسانيتهم وتحسين معيشتهم والارتقاء بمستوي ذكائهم الروحي والعقلي والضميري والوجداني.

تاريخ الإنسان- على وجه العموم- هو تاريخ السعي الدؤوب لفهم السلطة وترويضها وترشيدها وتهذيبها، لتكون سلطة عامة حتى لو كانت وراثية، ولتكون مملوكة ملكية عامة لا شخصية ولا عائلية ولا فئوية ولا طائفية، ولتكون ممنوحة من الشعب لمن يمارسها، وليست ممنوحة من السماء أو من المورث أو بوضع اليد، ولتكون مشروطة بقوانين ودساتير وليست برغبات ونزوات، ولتكون مؤقتة غير دائمة ولا مخلّدة، ولتكون مما يجوز نقله وتداوله وليس حكراً ولا حصراً، ولتكون في خدمة مصالح وطنية محل اتفاق وليست خادمة لمصالح خاصة شخصية كانت أو فئوية. وغاية ذلك كله أن تكون السلطة سواء سلطة الحكم أو سلطة المجتمع مصدر أمان لكل من تشملهم بحيث يتمكن الناس في ظلالها من تنمية إنسانيتهم وتحسين معيشتهم والارتقاء بمستوي ذكائهم الروحي والعقلي والضميري والوجداني.

في عام 1858م نشر المفكر البريطاني جون ستيورات ميل كتابه (في الحرية) (On Library)، ثم في1912 م تمت إعادة نشره مع كتابين آخرين له في مجلد واحد، وكتبت السياسية والناشطة النسائية ميلسنت جاريت فاوسيت مقدمة المجلد، ثم بعد ذلك بما يقرب من مائة عام أو يزيد تمت ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية ونشرته وزارة التعليم العالي، تحت رقم 581 في سلسلة الألف كتاب عام 1966م، حيث صدر الكتاب في مجلدين، ترجمه عبد الكريم أحمد، وللأسف لم ترد في الكتاب أي معلومة عن شخصه الكريم، وبحثت عنه فلم أعثر علي شيء، وراجع الكتاب المؤرخ المصري القدير دكتور محمد أنيس، لكنّه اكتفى فقط بالمراجعة مثلما اكتفى المترجم بالترجمة؛ فصدر الكتاب عندما صدر أول مرة من دون مقدمة لا مِن المترجم ولا من المراجع، ثم في عام 2018 م أعاد المركز القومي للترجمة نشر المجلدين والكُتب الثلاثة مع مقدمة بقلم الدكتور مصطفى النشار أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة.

السؤال الآن: لماذا هذا الكتاب، ولماذا هذا الكاتب، ولماذا الآن؟

الجواب بعضه شخصي وبعضه عام.

أما السبب الشخصي فقد عثرت على الكتاب بالمصادفة من باعة كُتب الأرصفة خلال سنوات دراستي الجامعية في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، وفي السنوات ذاتها كنتُ قد عثرتُ مع الباعة أنفسهم على كُتيّب يحمل عنوان (الحرية في الإسلام) من تأليف فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر 1876- 1958م، وهو عبارة عن محاضر تم نشرها في 76 صفحة، كان قد ألقاها في تونس عندما كان يعمل قاضياً شرعياً في مدينة بنزرت عام 1909م، وقد فهمت من الكتاب الأول ما فهمت وما دخل في تكوين وعيي وفكري، وكذلك كان كتيب الخضر حسين، مع ملاحظة أنّ كتاب جون ستيوارت ميل أسهل في لغته وأيسر في فهمه، وكذلك مع ملاحظة أن كتيب الخضر حسين كان مُرهِقاً لي في فهمه واستيعابه، ثم بالمصادفة كذلك عثرت قبل ثلاثة أعوام على طبعة جديدة لكتاب “ميل” في المركز القومي للترجمة، ففرحت بها واقتنيت عدة نسخ لي وللأصدقاء، وقد أردت فقط أن أقول إن فهمي النظري للحرية بدأ، أول ما، بدأ بهذين الكتابين مع تأثير كبير لجون ستيوارت ميل.

مثلما كان القرن الـ 19 للتحرر من العثمانيين، ومثلما كان القرن الـ 20 للتحرر من الأوروبيين، فإنّ القرن الـ21 للتحرر من الديكتاتوريات الوطنية، سواء كانت جمهورية أو وراثية، وسواء كانت مدنية أو عسكرية، وسواء كانت علمانية أو دينية

ثم السبب العام هو أن كاتب هذه السطور يظن إلى حد اليقين أن هذه المنطقة- وفي قلبها مصر- كانت وما زالت تسعى، بالوعي أو بالغريزة، نحو الحرية بكل تجلياتها، هكذا كنّا ونحن نتحرر من الرابطة العثمانية، ثم هكذا كنّا ونحن نتحرر من الاستعمار الأوروبي، ثم هكذا نحن نسعى للتحرر من سطوة وغشم نظم وطنية مستبدة، ومثلما كان القرن الـ 19 للتحرر من العثمانيين، ومثلما كان القرن الـ 20 للتحرر من الأوروبيين، فإنّ القرن الـ21 للتحرر من الديكتاتوريات الوطنية، سواء كانت جمهورية أو وراثية، وسواء كانت مدنية أو عسكرية، وسواء كانت علمانية أو دينية.

بهذا المعنى، فإنَّ قضية الحرية- بكل تجلياتها- إنما هي قضية مستقبل، وبالقدر ذاته هي قضية هوية ووجود وحياة ومصائر أفراد وأقدار شعوب وخيارات واقع عملي، لَيْس عنه بديل إلا المزيد من التردي الذي لم ينقطع مساره، والذي لم يفلت منه شعبٌ واحد من شعوب هذه المنطقة، عربية كانت أم شرق أوسطية.

نعود إلى جون ستيوارت ميل (1806- 1873م) وإلى كتابه (في الحرية) (On Liberty)، فهو يعرِّف الحريةُ بأنَّها القيود التي يضعها المواطنون على السلطة التي يُسمح للحكام بممارستها، وذلك عن طريقين:

الطريق الأول: الحصول من الحكام على الاعتراف بضمانات معينة تسمى الحريات، ويُعتبر انتهاك الحاكم لها أو تجاوزها أو الافتئات عليها خروجاً صريحاً عن واجبه، وهنا فإنّ مقاومة الحاكم والتمرد عليه، فيما يتعلق بخروجه على الحريات يُعتبر أمراً مشروعاً.

الطريق الثاني: إقامة كوابح دستورية (Checks) تجعل من رضا المجتمع أو من يمثلونه شرطاً ضروريًا لا بد أن يحصل عليه الحاكم، قبل ممارسة بعض سلطاته.

لكن جون ستيوارت ميل لا يكتفي بتقييد سلطة الحاكم، ولكن يسعى لترشيد سلطة الشعب، أو تقييد سلطة الأغلبية؛ ذلك أنَّه من الناحية العملية، فإنّ إرادة الشعب ليست إرادة كل الشعب على نحوٍ جامع شامل، ولكنها تعني القسم الأكثر نشاطاً والأكثر تأثيراً في غيره من الشعب، أو هم الأقلية المنظمة التي تنجح في إقناع الناس بالانضمام إليها فتصبح بهذا أغلبية.

والسؤال: لماذا تقييد سلطة الشعب؟

الجواب: لأنَّه حدث ويحدث كثيراً أن يرغب بعضٌ من الشعب في اضطهاد بعضَه الآخر، وهذا خطر يستدعي الاحتياط ضده؛ لأنه نوع من إساءة استخدام السلطة لا يختلف عن انحراف الحكام في استخدام السلطة الممنوحة لهم، وهنا يصك جون ستيوارت ميل مصطلح (طغيان الأغلبية)، وهو من المساوئ التي يلزم المجتمع أن يحتاط لها، ويحذر منها.

عندما يكون المجتمع نفسه هو الطاغية، فهو يُمارس بصفته الجماعية طغياناً على الذين يتألف منهم أو على بعضٍ منهم، وهذا الطغيان الاجتماعي عادة ما يكون أسوأ بكثير من كافة أنواع الاضطهاد السياسي

فعندما يكون المجتمع نفسه هو الطاغية، فهو يُمارس بصفته الجماعية طغياناً على الذين يتألف منهم أو على بعضٍ منهم، وهذا الطغيان الاجتماعي عادة ما يكون أسوأ بكثير من كافة أنواع الاضطهاد السياسي، فالاضطهاد الاجتماعي عقوباته أشد قسوة، وفرص الهروب منه محدودة ومقاومته أصعب، وهو ينفذ إلى الأعماق والتفاصيل حتى يستعبد الروح ذاتها.

ومن ثمّ، فإنّ الحماية ضد طغيان الحاكم لا تكفي، بل للحفاظ على الحريات وحمايتها يلزم أيضاً مواجهة طغيان الرأي العام والمشاعر السائدة التي تجعل المجتمع أكثر جنوحاً نحو قهر أفراده أو بعضهم، وإملاء الأفكار والسلوك عليهم، من دون حوار أو إقناع؛ اكتفاءً بالقمع والقهر المادي والأدبي.

وهنا يؤكد جون ستيوارت ميل؛ يجب أن تكون هناك حدودًا يقف عندها، ولا يتجاوزها، تدخل الرأي الجماعي في استقلال الفرد، وإيجاد هذه الحدود والمحافظة عليها من الافتئات والانتهاك، أمر لا غنى عنه لحماية الفرد من الطغيان الاجتماعي، مثل حمايته من الطغيان السياسي.

اقرأ أيضًا: تسقط الديمقراطية.. عصر الأزمة

أظنُّ هذه الفقرة وما فيها من فكرة لم تكن مسبوقة بهذا الوضوح في الصياغة القوية لفظياً وأخلافياً وفلسفياً: الفرد سيد، كامل السيادة، على نفسه وعلى جسده وعلى عقله وعلى كل ما يخصه هو فقط ولا يخص أحداً غيره أو سواه، وفي هذه الخصوصيات ليس للمجتمع من سلطان عليه، سواء بالإكراه المادي أو الأدبي، وكل ما تملكه سلطة الحكم أو سلطة الرأي العام، هو معارضة الفرد ومناظرته وإقناعه وإغرائه من دون إكراه ومن دون إجبار، إلا في حالة واحدة هي أن تنطوي أفكاره وسلوكه على اعتداء على حقوق الآخرين، فهنا يلزم السلطات أن تتدخل وتؤدي واجبها في حماية الناس من خطره.

طبعاً، المقصود بالفرد هنا هو الإنسان المميز الناضج العاقل الرشيد القادر على التفكير الحر المسؤول، أما من هم غير ذلك، ومثلهم الأطفال، ومثلهم المراهقون، ومثلهم كل من لديه قصور عقلي، فإن على ذويهم التدخل الدائم لرعايتهم وحمايتهم من أنفسهم ومن غيرهم.

الخطأ الأخلاقي الشنيع الذي سقط فيه جون ستيوارت ميل هو أنه اعتبر الشعوب الخاضعة للاستعمار غير ناضجة لحكم نفسها، مثلها مثل الأطفال والقاصرين والمراهقين، فأجاز وضعها تحت حكم استبدادي استعماري، بشرط أن يكون الهدف هو تحسين أحوال هذه الشعوب بالتدريج

الخطأ الأخلاقي الشنيع الذي سقط فيه جون ستيوارت ميل، وهو من مفكري الإنجليز في القرن الـ 19، حيث بلغ الاستعمار البريطاني ذروته، وحيث كان هو شخصياً من رموز الإدارة الاستعمارية في الهند، هذا الخطأ هو أنه اعتبر الشعوب الخاضعة للاستعمار غير ناضجة لحكم نفسها، مثلها مثل الأطفال والقاصرين والمراهقين، فأجاز وضعها تحت حكم استبدادي استعماري، بشرط أن يكون الهدف هو تحسين أحوال هذه الشعوب بالتدريج؛ لتتمكن بعد ذلك من حكم نفسها.

ويعود جون ستيورات ميل لإيضاح حدود الحرية الفردية، فليس منها التهرب من دفع الضرائب، أو التهرب من التجنيد، أو التهرب من أية واجبات عامة يفرضها القانون.

بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فليس الفرد حراً في الركون إلى السلبية أو العزلة، بحيث يقوده ذلك إلى الامتناع عن القيام بأيّ واجب اجتماعي، فالامتناع عن فعل الواجب هو خطأ تماماً مثل الإقدام على الفعل المذموم والضار بالآخرين. (لهذا هو يرفض مقاطعة الانتخابات العامة مهما كانت سيئة، وأنا تمشياً مع مذهبه أذهب لكل انتخابات رغم يقيني أنها ليست انتخابات إلا في الشكل فقط).

في خاتمة تعريفه للحرية يذهب جون ستيوارت ميل إلى معنيين أحلي وألذ من بعضهما البعض:

المعنى الأول: لا قيمة للحرية ما لم تبدأ من الضمير الداخلي العميق بأوسع المعاني وأشملها، الحرية المطلقة للتفكير والشعور والإحساس في جميع القضايا العلمية والعملية والتأملية والمعنوية والفلسفية والدينية.

المعنى الآخر: لا معنى لحرية الضمير الداخلي العميق ما لم يكن مسموحاً لك ولي وله ولكل إنسان فرد كائناً من يكون، حرية تنمية ذوقه ومواهبه ومشاعره، وأن نعيش تفاصيل حياتنا الدقيقة بما يتفق مع طبائعنا الخاصة.