مسكينات نحن أم ملكنا من القوة ما لا نتخيل؟

في أحد مكاتب البريد بمدينة صغيرة تابعة لمحافظة الجيزة، وقفت سيدة شابة تُعارك الكثيرين والكثيرات، صوتها جلل وكأنها تخطب في الجموع، تُدافع بشراسة عن دورها للوصول إلى الشباك، واضحة في موقفها، وأنها لن تسمح لأحد أن يأخذ مكانها، ومعها اشتبكت أصوات عِدة.

تحول الموقف لحالة من الضوضاء التي قد تصل إلى الصمم، ولا شيء يحدث سوى العراك الصوتي، والضوضاء والضجيج، وأنا اختبئ في ركن من المكان الضيق في انتظار أن أنتهي من طلبي.

كان الموقف عبثي بشكل كبير، تلك العركة التي يمكن أن تنتهي ببساطة شديدة، إذ قرر الموظف المسئول عن إدخال المواطنين وأعطى لكل شخص رقم، فيتم حسم الموقف والحفاظ على الطاقة، في ذات الموقف جاءت امرأة مسنة ترغب في السؤال عن حاجة لها، لكن المرأة الشرسة لم تسمح لها حتى بكت السيدة.

بعد ساعة ونصف غادرت الضجيج. وقد أنهيت إحدى خطوات نقل ابني من مدرسة إلى مدرسة. لكن خطوة أخرى بانتظار بمكتب بريد آخر، فتوجهت لمكتب بريد المعادي بشارع 9 الشهير.

لم يحتج الأمر أي توضيح لأرى أن مسئولية التعليم وتفاصيلها تؤول إلى النساء في الغالب، وفى مكتب بريد المعادي كان الأمر أكثر تنظيمًا، الموظف يحدد طوابير هذا لحوالات المدارس وهذا للحوالات العادية وهذا لكذا وكذا.

حين أنهيت وقتي في الوقوف في طابور الشارع، دخلت إلى المكتب لأجد طابور آخر في انتظاري، لم يكن طابورًا بالمعني الحرفي، كانت حالة أخرى من الفوضى، وأيضا كان لى نصيب من الضجيج، والنساء يتعاركن على دورهن داخل الطابور.

تدخلتُ وامرأة أخرى واستطعنا تنظيم الدور، وقد كانت النساء متعاونات إلى حد ما، مما مرر الوقت في هدوء.

لكنني خرجت أُفكر كثيرًا من الذي أرسى فكرة الصوت العالي كأداة للحفاظ على الحق؟

حالة من الضعف التي نسعى لموارتها بضجيج يُخفي ضعفنا وقلة حيلتنا، نستخدم الصوت العالي لنظهر بعكس ما نبدو من الضعف، ما الذي جعل تلك المرأة الشابة الأولى تقف لترفع صوتها وتتعارك لأكثر من ساعة ونصف دون توقف، بينما هدأت النساء في مكان آخر المفترض أنه يميل لطبقة اجتماعية أرقى؟

التعليم أم التربية؟ الفقر أم الغنى؟

المرض مزمن والعلاج يحتاج وعي، مجددًا نتحدث عن تربية البنات في بلادنا، البنت التي يتم تأصيل مفاهيم الضعف والاتكال منذ صغرها، لكنها لتخرج للحياة لتفعل كل شيء، لكن عليها أن تظل ضعيفة، وأن تتراجع أمام سطوة الذكر.

لا أعرف متى نما في مصر فكرة أن المرأة ضعيفة، ونحن لدينا العشرات من نماذج القوة منذ إيزيس وماعت وحتحور وكليوباترا، وشجرة الدر.

الكاتب والمنتج الفني حسام علوان وهو محب لجمع الأنتيكات أسعده الحظ بخطابات لفتاة خرجت في أول بعثة مصرية للفتيات للتعليم بإنجلترا، وكان ذلك في 1926، الخطابات التي عرض بعض منها على صفحتها الشخصية عبر موقع التواصل الفيس بوك مُدهشة، وتكشف عن وعي وتقدم للنساء والأسر، لكن الأمر الآن مختلف.

 

“الغجرية ست جيرانه”

المثل الشعبي الذي تم تدشينه في زمن ما “الغجرية ست جيرانها” أسس بقوة لأهمية الصوت العالي، وأكد عليه “خدوهم بالصوت ليغلبوكوا” نرى أن المجتمع رجالًا ونساء اعتمد الصوت العالي أهم وأول أداة عند التشابك مع الآخرين.

قد تتراجع هذه المفاهيم كلما تغيرت الطبقة الاجتماعية، فالمال يعطى اطمئنان وقوة داخلية، ونحن نربي بناتنا نعلمهن أن يخفضن صوتهن، نربي البنات ونجردهن من أدوات الحياة، الشهادة من أجل عريس أفضل، الاهتمام بالمظهر من أجل عريس أفضل، كل شيء من أجل عريس أفضل، لا تنمية للمهارات ولا الهوايات، لا تعليم لحرفة أو مبادئ حرفة.

نربي نساءنا على الضعف ثم نُلقي بهن في بحر الحياة، فتجد المرأة نفسها وحيدة بلا سند، تعليم غير حقيقي، مفاهيم متضاربة، وهدف للحياة أولي ووحيد أن تجد رجلًا ينفق عليها، لكن نساء كثيرات يتزوجن ويقمن هن بالإنفاق على البيت، لكنها تظل في البيت لأنه ضل راجل ولا ضل حيطة.

قضت السيدة الشابة ساعة ونصف من العراك بصوت عال، ولم تصل إلى دورها، خرجت من المكتب وهي ما زالت تتعارك.

مازالت تستخدم كل أدواتها وهو الصوت للوصول إلى حقها، صخب يعطل العقل، ويربك لكننا مسكينات، الغالبية تربين على الضعف، ولا يملكن غير اللسان، تتعارك وتفرض رغبتها وتأخذ ما لها وما لغيرها، ذلك أنه حتى استخدام مهارة الكلام والصوت العالي ليست متوفرة للكثيرات.

الضجيج الذي تصنعه النساء في يومهن وتفاصيله تجعلنا نسأل ألم يحن الوقت لتكون المناهج التعليمية حقيقية تهتم وتوجه الفتيات؟

ألسنا بحاجة حقيقية لتعليم وتوعية النساء ليوجهن الحياة بضرر أقل، وقوة أكبر، ألا نحتاج لبرامج توعوية واسعة النطاق، أم سنظل نحفر بداخل النساء كونهن ضعيفات ثم تخرجن للحياة ويواجهنها بضعفهن فلا يحدث سوى الفوضى والضجيج، وآخرون يمصمصوا الشفاه ويقول انظر إلى النساء.