على الرغم من التوقعات المصرية بشأن موقف دولي سلبي نسبيًا من مسألة طرح أزمة سد النهضة على مجلس الأمن الدولي، يبقي أن مشهد الجلسة الافتتاحية جاء صادمًا إلى حدٍ بعيد للجمهور العادي في مصر والسودان، فمن ناحية ساد اعتقاد أنَّ الجلسة الافتتاحية بمثابة نهاية المباراة، والمسألة الثانية كانت مواقف الدول وطريقة صياغتها لموقفها، حيث تم اعتبارها من جانب الجمهور بالعدائية الشديدة، إزاء الحقوق العادية للبشر في توافر المياه وعدم التحكم في جريانها.

السيسي
السيسي

قبل جلسة مجلس الأمن كنَّا نلحظ تصاعدًا للتوتر في كل الأوساط الاجتماعية المصرية بشأن مصير البلد والناس، وهو ما خلق حالة ضاغطة على الرئيس عبد الفتاح السيسي، والذي خصص جزءًا من خطابه الأخير بهذا الشأن، والذي قدّم فيه رسالة مزدوجة أحدها للخارج والآخر للداخل، في السياق الخارجي استمر في تقديم نوايا مصر الحسنة بشأن دعم التنمية في إثيوبيا إلى حد طرح فكرة المساعدة في مسألة الطاقة الكهربائية لإثيوبيا، وأنه لا يقوم بأي نوع من أنواع التهديد، ولكنه يحافظ على مقدرات الشعب المصري. أما على المستوي الداخلي فقد تفاعل فيه إيجابيًا مع قلق الشعب، مشيرًا إلى أنَّ التلاعب في المقدرات المائية المصرية يعني غيابه والجيش معا، وهو أمر بعيد عن الواقع، حيث بدا الرئيس مطمئنًا للمقدرات المصرية، وحاول نقل هذا الاطمئنان للجميع.

يُمكن قراءة رسالة السيسي من أكثر من زاوية، خصوصا تحت مظلة مشهد مسارات ومخرجات موقف مجلس الأمن، حيث بدا المشهد الدولي واضحًا في عدائيته وأنانيته، خصوصًا من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن

في هذا السياق، يُمكن قراءة رسالة السيسي من أكثر من زاوية، خصوصا تحت مظلة مشهد مسارات ومخرجات موقف مجلس الأمن، حيث بدا المشهد الدولي واضحًا في عدائيته وأنانيته، خصوصًا من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فروسيا مثلاً توظف أزمة سد النهضة لإعادة تموضعها في القارة الإفريقية، بينما تعاني الصين من تصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي نتيجة قيامها ببناء سدود أعلي نهر الميكونج على حساب دول مثل تايلاند وفيتنام وغيرهما، من هنا فهي لا تريد خلق سابقة في طرح قضايا السدود والأنهار على مجلس الأمن.

على الصعيد الداخلي يبدو المشهد العراقي مؤثرًا على إدراك ووعي المصريين بعمق الأزمة، فهم يتابعون عن كثب التعالي التركي الذي يتهم العراقيين بعدم ترشيد استهلاك المياه، بينما تعطش الأراضي العراقية، وتنفق الماشية، ويهجر العراقيون قراهم بسبب شح المياه.

يبدو المشهد العراقي مؤثرًا على إدراك ووعي المصريين بعمق الأزمة، فهم يتابعون عن كثب التعالي التركي الذي يتهم العراقيين بعدم ترشيد استهلاك المياه، بينما تعطش الأراضي العراقية، وتنفق الماشية

وتحت مظلة فشل المباحثات مع إثيوبيا عبر ما يزيد على عقد، وعبارة السيسي في خطابه “شاء من شاء وأبي من أبي في رسالة لأطراف قامت بتهديد مصر مؤخرا” ، لا يغيب الخيار العسكري عن الأفق لدي غالبية الشعب المصري، سعيًا وراء تغيير قواعد اللعبة، رغم التداعيات السلبية المتوقعة لهذا الطريق الوعر، وذلك طبقًا لتقدير أن الخسائر والتداعيات في الحالتين واحدة أي أن تحكم إثيوبيا بذهنيتها العدائية تجاه مصر  في جريان نهر النيل دون أي أطر أو محددات قانونية، هي حالة مساوية في الأثر والنتائج على حياة المصريين لتداعيات الخيار العسكري بما يحمله من إمكانية لفرض عقوبات اقتصادية على النمط الذي جري للسودان.

ويمكن القول إنه حتى هذه اللحظة فثمة أسباب موضوعية تجعل هذا الخيار مطروحًا في مصر، رغم عدم وجود دواعم له على المستويين الإقليمي والدولي، وتتبلور هذه الأسباب في النقاط التالية:

  • أن شواهد السياسيات الإثيوبية في إطار المباحثات بشأن سد النهضة فضلاً  عن مكونات الذهنية العدائية تجاه مصر تجعل من الصعوبة بمكان الوصول إلى صيغ تعاونية في إطار تنموي شامل مع هذه الدولة.
  • تملك إثيوبيا محططًا كبيرًا لبناء سدود متفاوتة التخزين تسعى إلى ألا تخرج نقطة مياه خارج أراضيها، وهو ما تم التصريح به من جانب المسؤوليين الإثيوبيين.
  • يبدو مشروع سد النهضة إحدى أدوات إعادة تقاسم الموارد المائية لنهر النيل، المتبقية من الاستهلاك الإثيوبي له في قطاعي الزراعة وتربية الماشية.
  • إن السلوك الإثيوبي سيكون بمثابة الموديل أو النموذج الذي سيتم اتباعه في عدد من دول النيل الأخرى التي تريد أن تبني سدودا مثل أوغندا وجنوب السودان.
  • الرفض الإثيوبي المؤثر على جنوب السودان في عدم إقامة مشروعات جمع الفواقد المائية في منطقتي جوجلي ومستنقعات مشار، وهي المشروعات التي تجعل الاستفادة من ١٥ مليار متر مكعب من المياه ممكنة.
  • إن التضخيم من مسألة التداعيات السلبية للخيار العسكري تتجاهل أن هناك مصالح دولية مهمة مع مصر، وأن عقوبات على مصر سوف تؤثر على هذه المصالح، كما تؤثر على الدور المصري في القضية الفلسطينة، وهي مسألة قد لا تكون في صالح إسرائيل.
  • إن التهديدات التي وصلت القاهرة من جانب واشنطن بشأن الخيار العسكري قد تجعل القاهرة تنسحب من علاقات دافئة مع إسرائيل، خصوصا أن الرأي العام المصري ما زال يستهجن علاقات ذات طابع تعاوني مع إسرائيل، بل إن تقدير قطاع واسع من النخب المصرية أن معاهدة كامب ديفيد قد أضعفت مصر وليس العكس، ويدللون على ذلك بأن التعنت الإثيوبي ورائه إسرائيل بهدف إضعاف الدولة المصرية، وتحجيم قدراتها الشاملة.
  • إن الموقف الأمريكي من الأزمة تمت بلورته في أطر هي معادية لمصر بالكامل في ضوء محددين، الأول الحفاظ على توازن عسكري لصالح إسرائيل في الشرق الأوسط، ودعم إثيوبيا كدولة قائد في منطقة القرن الإفريقي مسموح لها بهيمنة إقليمية تمتد نحو الخليج شرقًا ومصر شمالا. ولعل عدم اتخاذ واشنطن موقفا حاسما من إثيوبيا في تصرفها الأحادي بملء ثانٍ لبحيرة السد دون اتفاق  قانوني ملزم، يثبت ما ذهبنا إليه،  خصوصا مع طرح حلول إجرائية أو جزئية، أو في تهديد مصر، فضلاً عن هدف أمريكي مضمر وهو تحييد القدرات المصرية تدريجيًا في قلب قواعد اللعبة، وبالتالي تنحصر خيارات القاهرة في الاستسلام للمخطط الإثيوبي في الهيمنة المائية على الإقليم.
  • إن الموقف الروسي المساند للمظلة الإفريقية في مباحثات بلا أفق مع إثيوبيا، سوف ينقلب بالكامل إذا حسمت القاهرة خياراتها في التحالف مع موسكو ضد واشنطن، طالما أنَّ الأخيرة لا تتفاعل مع التهديد الوجودي لمصر، ويتم تصنيف أزمة سد النهضة من جانب مسؤول في الخارجية الأمريكية على أنه مجرد صراع جيوسياسي بين دولتين على المكانة الإقليمية ويتجاهل أمرين، أن مصر سمحت ببناء السد رغم فشل التفاوض، وأن تهديد الأمن المائي للمصريين يشكل تهديدًا للحق في الحياة للشعب المصري.

من المتوقع خلال الفترة القادمة إعادة ترتيب الأوراق المصرية في مستويات النخب السياسية الضيقة، على مستوى إستراتيجي خصوصا أن الموقف السوداني قابل للانضغاط لحد كبير

إجمالا سيكون من المتوقع خلال الفترة القادمة إعادة ترتيب الأوراق المصرية في مستويات النخب السياسية الضيقة، على مستوى إستراتيجي خصوصا أن الموقف السوداني قابل للانضغاط لحد كبير؛ لأسباب متعلقة بسيولة المعادلة السياسية في السودانية، وطبيعة التحديات التي تواجهها خصوصا على الصعيد الأمني الداخلي، وطبيعة تداعيات الجوار السوداني المباشر لإثيوبيا.

أما على صعيد الفواعل غير الرسمية المصرية فمن المطلوب أن تضاعف جهودها في معركة تبدو طويلة أمام إثيوبيا من جهة، بهدف تفكيك خطاب المظلومية الإثيوبية التي تبدو عناصره تم هندستها إسرائيليًا، وهي مؤثرة في السياقين الإفريقي والعالمي.

ويُمكن في هذا المجال ذكر مبادرة الأحزاب المصرية التي تتحرك حاليًا في بعثات طرق أبواب لسفارات الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وغيرها من منصات التأثير مثل مكتب الاتحاد الإفريقي بالقاهرة.

وفي سياق موازٍ، يكون من المطلوب إعادة الاعتبار للمكون الإفريقي في الهوية المصرية، وهي مهمة ملقاة على عاتق قطاعات الإعلام والتعليم والثقافة حتي يمكن أن نكسب معركة النيل وغيرها من المعارك المتوقعة بشأن الحفاظ على عناصر القوة الشاملة للدولة المصرية.