لسوء الحظ، هناك تاريخ طويل للصراع على المياه، إذ تعود نزاعات المياه- حرفيا- إلى آلاف السنين، فوردت في الأساطير القديمة لبلاد الرافدين أنه في حوالي عام 3000 قبل الميلاد، قد عاقب الإله “آل”- أو “أيا”- البشر على خطاياهم، بأن سلط عليهم العواصف والطوفان لستة أيام. وفي القرن السادس قبل الميلاد سمم الأشوريون آبار المياه التي كان يشرب منها أعداؤهم، وفي عام 25 قبل الميلاد، قطعت دولة-أو مدينة لجش- قنوات المياه التي تروي أراضي دولة العدو- دولة مدينة “أما” المجاورة.
لم يتوقف الصراع على المياه طوال التاريخ المكتوب وإن اختلفت حدته، من العصور القديمة إلى العصور الوسطى، وصولا إلى العصر الحديث. ففي الحرب العالمية الثانية، قصفت السدود الكهرومائية في الاتحاد السوفيتي السابق، وقصفت قوات الاحتلال الأمريكية قنوات الري في فيتنام في الستينات، وهدد جنرالات إسرائيليون مرارا بقصف السد العالي، وفي السبعينات هدد صدام حسين بقصف سد في سوريا.
لدى “معهد المحيط الهادي” الأمريكي-ومقره كاليفورنيا- أكبر قاعدة بيانات مفتوحة المصدر لتاريخ الصراع والعنف المرتبط بالمياه. تغطي قاعدة البيانات فترة زمنية بطول 5000 سنة، ويتم تحديثها أسبوعيا، ويتضمن التسلسل الزمني الآن أكثر من 600 حالة عنف ذات صلة بالمياه والموارد المائية. وتتضمن قاعدة البيانات على ثلاثة أنواع من العنف المرتبط بالمياه: النوع الأول حيث تكون المياه سببا لنشأة الصراع، والنوع الثاني حين تستخدم المياه كسلاح في الصراع، والنوع الثالث حين تكون المياه هدفا للعنف وضحية للحروب.
تظهر القراءة في قاعدة البيانات أن معظم حالات الصراع على المياه في العصور القديمة كانت تحدث بين الدول أو الكيانات السياسية، وأن نصف النزاعات المبكرة تقريبا قد وقعت في أحواض الأنهار بمنطقة الشرق الأوسط، وأن العنف المرتبط بالمياه، قد تضاعف في السنوات العشرة الماضية مقارنة بالعقود السابقة.
ولا يزال التوتر قائما في حوض نهري دجلة والفرات بين العراق وتركيا وسوريا وإيران بسبب السدود، كذلك بين الهند والصين وبنجلاديش وباكستان في حوض نهر السند، ونهر الجانج، ولا تزال إسرائيل تسرق مياه الأنهار والخزانات الجوفية في فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، و استخدم “تنظيم الدولة الإسلامية” المياه كسلاح في العراق وسوريا، واستهدفت أنظمة وشبكات المياه في اليمن، وأدى التوتر بين أوكرانيا وروسيا بسبب المياه إلى حرمان الملايين في أوكرانيا من الوصول إلى مياه الشرب.
زادت حالات العنف المرتبط بالمياه في العشرين عاما الماضية، وتضاعفت الحوادث المسجلة مقارنة بالعقود السابقة، وخرجت المظاهرات احتجاجا على عدم كفاية إمدادات المياه أوتلوثها في مناطق متعددة، فتظاهر الآلاف في جنوب إفريقيا وبنجلاديش، وخرج العراقيون إلى الشوارع بعد نقل أكثر من 120 ألف إلى المستشفى بعد شربهم مياه ملوثة، وفي إيران خرج سكان مدينتي خرمشهر وعبادان في احتجاجات ضد تلوث مياه الشرب. ويزيد التوتر والصراع بين المزارعين والرعاة والصيادين، خصوصا في المناطق التي يضربها الجفاف، مثل غرب أفريقيا، فدخل المزارعون ورعاة البقر والصيادون في نزاعات عنيفة بسبب انخفاض منسوب نهر النيجر الذي يعيش على مياهه ملايين المزارعين والرعاة والصيادين في مالي والنيجر.
ويتزايد العنف المسلح في دول ضد النشطاء والسياسيين المدافعين عن الأرض والمياه والبيئة في جنوب إفريقيا، حيث قتل رجل بسبب دفاعه عن حقوق السكان في المياه، وفي هندوراس قتلت المناضلة “بيرتا كاسيراس” لأنها دافعت عن حق شعبها من السكان الأصليين في المياه ضد مشروع لإقامة سد يهدد حياتهم وسبل عيشهم ومستقبلهم، وقتل عشرات آخرين في الفلبين والبرازيل وسلفادور وكولومبيا. لكن يظل العنف المرتبط بالمياه حتى الآن محدودا، وفرديا، وداخل حدود الدولة نفسها، ولم يصل بعد إلى مستوى الحرب النظامية بين الدول.
في عام 1985 قال الأمين العام السابق للامم المتحدة “بطرس بطرس غالي”: “الحرب القادمة في الشرق الأوسط ستكون على المياه“، وبعد نحو ربع قرن قال “بان كي مون” في عام 2007 أن حرب مياه تدور رحاها في الشرق الأوسط، “لقد أريقت الدماء على المياه بالفعل في الشرق الأوسط “.
درس علماء المناخ تأثير تغير المناخ على كمية الأمطار، وشدة ودورية الظروف الجوية المتطرفة، وموجات الجفاف والفيضانات، وتقدم التقارير صورة مخيفة للآثار المحتملة لتغير المناخ على الزراعة، والموارد المائية، والبيئة وصحة البشر والحيوانات والطيور، وكل صور الحياة على الأرض.
وتفيد تقارير “معهد بوتسدام لبحوث آثار المناخ” أن أسوأ تأثيرات تغير المناخ ستكون على موارد المياه، وأنه إذا ارتفعت حرارة العالم بدرجتين مئويتين فقط، وهو ما يمكن أن نصل إليه خلال 20 إلى 30 عاما، فسوف يشهد العالم موجات حرارة غير مسبوقة، وعواصف أكثر شدة، وموجات أطول من الجفاف، ونقصا حادا في انتاج الغذاء.
من المتوقع ازدياد هطول الأمطار في مناطق من العالم بينما تضرب موجات من الجفاف الطويل مناطق أخرى، زيادة معدلات سقوط الأمطار على شرقي الصين وكولومبيا والإكوادور، في مقابل الجفاف الطويل والممتد غربي الصين وشمال وجنوب أفريقيا والبحر المتوسط والبحر الكاريبي وتشيلي والبيرو، ستتناقص إمدادات المياه في مناطق خطوط العرض المتوسطة والمنخفضة، فى حين يتوقع وفرا في المياه في المناطق المدارية الرطبة ومناطق خطوط العرض المرتفعة.
ويتوقع خبراء أن نقص كميات الأمطار المترتب على تغير المناخ، وزيادة أعداد السكان، والضغوط المتزايدة على الموارد المائية، ربما يؤدي إلى اندلاع صراعات مسلحة على الموارد المائية خصوصا في المناطق التي يتوقع أن تصبح أكثر جفافا. ويدللون على صحة توقعاتهم بموجة الجفاف الشديد، الذي ضرب منطقة شرق البحر المتوسط في الفترة من 2006-2008، وكيف أثر على قطاع الزراعة وأسعار المحاصيل الأساسية، وأدى إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية خطيرة في سوريا والعراق ولبنان.
تقول الأمم المتحدة أنه من أجل التحكم في تداعيات تغير المناخ نحتاج إلى عشر سنوات، وهو تفاؤل في غير محله، أولا، لأنه كان قبل أن تضرب جائحة كورونا العالم، وثانيا، لأن النزاعات على المياه تنتشر في قارات العالم الخمس، وتتصاعد في مناطق الجفاف. ومن المتوقع أن تتفاقم ما لم تتغير سياسة المياه في العالم. وحسب موقع صحيفة “ذي أتلانتيك” يتوقع خبراء أنه بحلول عام 2025 فإن 20% من الناس سيعانون من نقص في المياه، ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة نفسها سيعاني ما يصل إلى 5 مليارات شخص من نقص المياه بحلول عام 2050. .
نرى الآن الآثار الخطيرة لأزمة البيئة وعواقبها على الاستقرار والصراع الاجتماعي، يقول الباحثون إن الصراع على المياه، لا يقتصر على الاستهلاك البشري، فهناك تهديد كبير للتنوع البيولوجي بين الكائنات الحية في العديد من أحواض الأنهار في العالم، وخطر انقراض الأنواع يتراوح بين معتدل ومرتفع للغاية في 70 % من مساحة أحواض الأنهار العابرة للحدود، وندرك أنه ما لم يتم تغيير سياسات إدارة المياه، فسوف تزداد الأمور سوءا، وستزيد حدة الصراع على المياه.
ويكفي هنا أن نشير إلى دراسة قام بها فريق من مركز البحوث المشتركة(JRC)-التابع للمفوضية الأوربية- ونشر تقرير عنها في دورية ” تغير بيئة الكوكب”-( Global Environmental Change). درس فريق العمل الجولات السابقة من الصراع على موارد المياه، واستخدموا طرق الذكاء الإصطناعي والتعلم الآلي لفحص دور العوامل المختلفة التي أدت إلى إندلاع الصراع على المياه، الوصول إلى المياه العذبة، والإجهاد المناخي، والنمو السكاني، والظروف الاجتماعية والاقتصادية، وذلك في ضوء سيناريوهين مختلفين لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري: أحدهما معتدل، والآخر متطرف.
التقرير خطير للغاية: قدم فريق العمل مؤشرا يمكن عن طريقه التنبؤ بأين، ومتى، قد تندلع حروب المياه القادمة. يقول التقرير أن التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ ، جنبًا إلى جنب مع النمو السكاني، يمكن أن تؤدي إلى حال من عدم الاستقرار الإقليمي والاضطرابات الاجتماعية في المناطق التي تندر فيها المياه، ربما تكون أسباب التوتر والصراع الجيوسياسي متعددة ومعقدة، ولكن كما يوضح التقرير، يجب ألا نقلل من الدور الذي ستلعبه المياه في المستقبل.
يتوقع التقرير أن التنافس على موارد المياه المتناقصة سوف يؤدي في العقود المقبلة إلى تفاقم التوترات على نطاق عالمي، وأن التأثير المشترك لتغير المناخ والنمو السكاني يزيد من احتمال تصاعد الصراع في أحواض الأنهار العابرة للحدود في العالم بنسبة تتراوح بين 74.9٪ و 95٪ خلال فترة الخمسين إلى المائة عام القادمة. وأنه على المدى القصير والمتوسط مدى يتراوح بين 15 إلى 30 عامًا القادمة سوف تزداد مخاطر الصراع على المياه في عدد من المناطق. وأن تندلع الصراعات في المناطق التي توجد فيها مياه عابرة للحدود مثل البحيرات المشتركة أو أحواض الأنهار وخزانات المياه الجوفية المشتركة.
وتحدد الدراسة عددا من النقاط -تسميها النقاط الساخنة- في العالم، حيث يتوقع أن تؤدي قضايا المياه إلى توترات جيوسياسية، وربما صراعات عنيفة. النقاط الساخنة التي حددها التقرير، هي: حوض نهر النيل في أفريقيا، حوض نهر براهمابوترا- الجانج، وحوض نهر السند، وحوض نهري دجلة والفرات في العراق، في آسيا، وحوض نهر كلورادو في أمريكا الشمالية، وحوض نهري أورانج وليمبوبو في جنوب إفريقيا.
ويقول فابيو فارينوسي، رئيس فريق البحث، إن هذا لا يعني أن كل نزاع على المياه قد يتحول إلى صراع عنيف، ويضيف أن الأمر يتوقف على مدى استعداد الدول وجاهزيتها للتعاون والوصول إلى تسويات مرنة ومقبولة.
نورد هنا ملاحظتين على الدراسة: أولا، أنها استخدمت الحلقات التاريخية السابقة للنزاعات على المياه، وعالجت النتائج بالكومبيوتر، وهذا تحليل إحصائي ممتاز، لكنه لا يأخذ في الإعتبار التطورات المستقبلية التي يمكن أن تحدث، مثل التغييرات الجيوسياسية، و التي يمكن أن تؤدي إما إلى تفاقم- أو تخفيف -حدة النتائج التي توصلت إليها الدراسة. ثانيا، يعتمد التحليل على سيناريوهين لتغير المناخ، لكن المستقبل قد يحمل لنا سيناريو ثالث إذا بدأنا في الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري فورا، وهو أمر غير متوقع، أما إذا كانت النتائج التي توصلت إليها الدراسة صحيحة، وفشلنا في معالجة هذه المشكلات، فالمستقبل مخيف وينذر بمزيد من الفقر والعنف وتقسيم الناس.
وقال إريك سبروليس، عالم الموارد المائية بجامعة ولاية أوريجون الأمريكية، والمؤلف المشارك في الدراسة، إنه حتى في ظل وجود سد، يمكن لإتفاق الدول المتجاورة على تنظيم تدفق المياه وتوزيعها أن يضع حدا للصراع بينهما، ويضرب مثلا باتفاقية حوض نهر كولومبيا، المبرمة بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية، والذي يعتبرها من أكثر الإتفاقيات مرونة وتقدما في العالم.
وأكد “سبروليس” على أن أحد أسباب نجاح معاهدة حوض نهر كولومبيا بين الولايات المتحدة وكندا هو الاستقرار النسبي لإمدادات المياه في النهر وأستقرار مؤسسات الدول الموقعة. في المقابل، تشير النماذج المناخية إلى أحواض أنهار أخرى، مثل النيل في أفريقيا، ونهر أورينوكو في البرازيل، والأمازون في أمريكا الجنوبية، قد يواجهون ظروفًا أكثر جفافا، وما لم تنتصر الحكمة على الحماس، وينتصر العقل على بلاغة الخطاب، وتتوصل الدول المتنازعة إلى تفاهمات واتفاقيات حول المياه المشتركة، فنحن على موعد شؤم مع نوع جديد من الحروب.. حروب المياه.