عادة ما أخرج في الصباح الباكر لممارسة رياضة المشي السريع.
رياضة لها اسم: المشي الإسكندنافي.
تعرفت عليها منذ نحو عقد من الزمان. استخدم فيها عصاتين خاصتين، كعصاتي التزلج، تساعدان على توازن الجسم أثناء المشي، وتعتمد كل منها على وسادة مطاطية. ابتكرتها فنلندا في أربعينيات القرن الماضي، لكنها انتشرت في العالم منذ نحو ثلاثين عاماً فقط.
تساعد على تنشيط عمل عضلات الجسم الخاملة، لأنها، إذا ما مورست بشكل صحيح، تضبط حركة الجسم بشكل رائع، فالحركة المتناسبة بين اليد اليمني والرجل اليسرى أو بالعكس تنظم نبضات القلب وتقوي العضلات في الوقت ذاته.
رياضة تناسبني. تخُرجني إلى الطبيعة. لمدة ساعة.
أخرج وأمشي، سريعا، على امتداد نهر الآر، أعود بعدها لأشرب قهوتي وأتناول إفطاري وأبدأ في العمل.
قلت إنها تناسبني، لأن طبيعة عملي الأكاديمية، تتطلب مني في أوقات التحضير والكتابة الجلوس كثيرا. وزاد الأمر إلحاحاً مع جائحة الكورونا التي منعتني قيودها، وحالة الإغلاق التي فرضتها، من الذهاب إلى الجامعة، وحرمتني من سفر البحث الميداني، لأتحول إلى التدريس عن بعد وإجراء لقاءاتي البحثية عبر برنامج الزووم.
هذه الساعة، عندما أصر عليها، تُخرجني من الجدران إلى أحضان الطبيعة، في كل أطوارها.
في الربيع والخريف، في الصيف والشتاء.
لا يمنعني عنها سوى المطر، عندما يكون مُنْهَمِراً. لو كان رهاماً، أخرج ولا أبالي.
لكنه عندما يكون غزيراً يتركني منقوعة ماءاً. أفضل الاستحمام في البيت، لا تحت المطر.
——
عندما أمشي أرهف السمع.
أعشق صوت النهر- عجيجه. وخريره هادئاً، في الخريف، ثم ساكناً في الشتاء، أو نجيخه عندما يهدر متلاطما مضطرباً كما هو في هذه الأيام. موسم ممطر على غير العادة. ولذا يبدو غاضباً، ماءه عكره، معجونة بطين جرفها معه، ويمنعنا بطينه من السباحة فيه كما العادة في هذا الوقت من الصيف.
مع هديره استمع إلى أصوات الطيور بأنواعها.
طبعا الطيور لا تغرد من أجل إمتاعنا.
هذه ما يعتقده الإنسان. تغرد له! يا الله ما أشد نرجسية الإنسان.
يحسب أنه هو، هو فقط، مركز الكون.
ويظن، وبعض الظن هذيان، أن الكون بأسره مسخّر له. اعتقاد لا يتماشى مع الاتساع اللامتناهي لهذا الكون. تلسكوب هابل الفضائي (الذي تم إطلاقه في مدار أرضي منخفض عام 1990 ولايزال قيد التشغيل) كشف عن ما يقدر بنحو 100 مليار مجرة في الكون، ومن المرجح أن يرتفع العدد إلى حوالي 200 مليار مع تحسن تكنولوجيا التلسكوب في الفضاء.
كون يمتد، لا نهاية له. مليء بالمجرات، وعوالم وحيوات متعددة. والإنسان على كوكبنا الصغير يعتقد أنه هو مركزه.
نكتة.
نحن فيه ذرة.
ذرة لا أكثر ولا أقل.
ما علينا.
نعود إلى الطيور وتغريدها.
لعل الطيور وهي تغرد تحذر بعضها البعض من هذا الكائن، ذاك الذي كثيراً ما يؤذي، كثيرا ما يهدم، وغالباً لا يعبأ لما حوله.
لا للطبيعة. لا للطيور. أو للأشجار.
كم منكن نظرت إلى الشجرة على حافة الطريق وتأملتها؟ كم منكم نظر إليها فعلاً ككائن حي. حي. يستشعر وجودك من حوله؟
إذن. لا.
الطيور لا تغرد للإنسان.
تستخدم أصواتها للتواصل مع نظيراتها. تتكلم مع بعضها!
تحذر زملائها، رفيقها وفراخها من خطر محدق، ترسل رسالة تحذير إلى طائر دخيل، تُبلغ بمصدر للغذاء، تحدد مكان وجودها، وفي أوقات التزاوج ترسل رسائل مودة وغزل بحثاً عن رفيق. وفي غياب الضوضاء التي يتسبب بها الإنسان يمكن لأصوات الطيور أن تنتقل لمسافة عدة أميال.
أحاول في ساعة المشي الصباحية أن اصغي لأصوات الطيور. زقزقة العصافير. هديل الحمام. بَطبَطة البط. نعيق الغربان. تغاريد السنونو، الشحرور، والسماميات..
أصبحت قادرة على تمييز التغاريد في تواصلها.
تغريدة ممتدة. تتوقف لتقابلها تغريدة مشابهة من الضفة الأخرى للنهر.
واعترف أن الغربان تزعجني. صوتها ناعق. لكنها ذكية. ذكاء حاد. ولعلي أزعجها بوجودي كما تزعجني هي بصوتها.
أما هديل الحمام، فأحبه. منذ طفولتي. وكنت استيقظ على صوتها في بيتنا في صنعاء. كما أستيقظ على صوتها في الربيع والصيف في شقتي في سويسرا.
لكنها تصمت عندما أتوقف تحت شجرتها في ساعة المشي لأصغي إلى هَديلَها. كأني أقطع عليها ترانيمها الصباحية. ولذا اعتدت على التمهل عندما اسمع صوتها، وأمشي ببطء…ببطء أسترق السمع. قلت لكما أحب هَديلَها.
وفي الصيف، عادة ما أتوقف تحت جسر معروف على النهر في ساعة المشي. أتوقف لأراقب سرب السماميات وهي تحلق عالياً مجتمعة – تدور معاً في حلقات سريعة – لتتناول وجبة فطورها من الحشرات. في اليوم الواحد، يمكن لسرب سماميات أن يمسك بعشرين ألف حشرة. تخيلن؟ تخيلوا؟ وجبة عامرة بالبروتين.. . وكنت في المغرب وأنا مراهقة اتابع من نافذة غرفتي قبل إفطار رمضان وقت الغروب أسراب السماميات وهي تتماوج معاً في دوائرها.
هنا أو هناك، الحشرات وجبتها المفضلة.
—–
قلت لكما أن رياضة المشي السريع تناسبني.
وهي تناسبني بشكل أكثر إلحاحاً في مرحلتي العمرية الحالية.
في الإنجليزية يسمونها Menopause، وترجمتها الحرفية هي “انقطاع الدورة الشهرية”. وفي الألمانية يسمينها
Wech¬sel¬jah¬re، أي سنوات التغيير.
ونحن، في العربية، نسميها “سن اليأس”.
كأنها همٌ، أو مصيبة، حالة من الكآبة والحزن، حطت على المرأة، وعليها أن تنوح وهي تلطم عويلاً.
تسميه تبدو لي مرتبطة بقناعة سائدة أن الدور الرئيسي للمرأة هو الإنجاب.
فانقطاع الدورة الشهرية يعني وصول المرأة إلى السن الذي لا تستطيع فيه أن تنجب أطفالاً، لتصبح المرحلة مرحلة يأس!
غريب أمر هذه التسمية.
كأن المرأة أداة للتفريخ، وعندما تتوقف عن التفريخ، تنتهي سن صلاحيتها.
بالنسبة لي ليست سن يأس.
هي مرحلة من العمر.
طبيعية.
وجميلة كسابقاتها.
وكما أن النبيذ أنواع، فإن بعض المعتق منه، يظل أجمل نكهة.
كياقوت أحمر. فريد في تجليه.
هذا ما أشعر به في هذه المرحلة من عمري.
جذوري راسخة. لست في عجلة من أمري. أحيا بتعمد. أحب ما أعمله. وليأتي ما يأتي.
أعيش اللحظة.
هنا.
الآن.
هذا لا يعني أني رحبت بأعراض انقطاع الدورة الشهرية، وتغييراتها الهرمونية، والتعرق ليلي وهبات الحرارة الساخنة، وعدم المقدرة على النوم.
أزعجني كل هذا.
عندما بدأ ذلك في الحدوث لجأت إلى صيدلانية اثق فيها، التي نصحتني بتناول دواء طبيعي. وبالفعل اختفت مع الوقت تلك الأعراض. ولم تعترض طبيبتي على هذا الاختيار.
تماما كما أني لم أرحب بعودة الدورة الشهرية من جديد بعد انقطاع دام نحو عام.
كنت قد تصورت أنها غابت ولن تعود. وبالعامية السورية الدارجة “درب يسد ما يرد”. وبالمصرية، “كسرت وراها قلة” وأنا أزغرد. لكنها ردت.
عادت تخرج لي لسانها من جديد، فأخرجت لساني لها أنا الأخرى. لا بأس. وقتك سيأتي، وسنرى.
هي دورة طبيعية.
نعيشها كما تعيشها كل الكائنات العضوية على هذه المعمورة.
ما علاقة كل هذا برياضة المشي السريع؟
أحد الأعراض السلبية لإنقطاع الدورة الشهرية هو زيادة الوزن.
فانخفاض مستويات هرمون الإستروجين في المراحل المتأخرة من إنقطاع الطمث، يضعف وظيفة الهرمونات التي تتحكم في الشهية والشعور بالشبع.
بإختصار، قد يزيد وزن المرأة في هذه المرحلة.
وأفضل طريقة لتفادي ذلك هو النشاط الحركي ونظام غذائي صحي.
وبالعربي الفصيح، زاد وزني.
ابتسم الآن لكما.
ولذا تجداني عزيزتي القارئة عزيزي القارئ مواظبة كتلميذة مجتهدة على هذه الرياضة.
رياضة تناسبني. تخُرجني إلى الطبيعة. لمدة ساعة.
وهي تناسبني بشكل أكثر إلحاحاً في مرحلتي العمرية الحالية.
مرحلة نسميها بالعربية “سن اليأس”.
وأنا اسميها سن النضوج.
طبيعية.
كما الحياة بحلوها ومرها.
وجميلة مثل سابقاتها من المراحل العمرية..
ياقوت أحمر.
فريد في تجليه.