إذا ما تصفحت موقع Drive&Listen، الذي يتيح أخذ جولة افتراضية في أهم شوارع مدن العالم، واخترت العاصمة الكوبية هافانا. فإنك ربما تظن أن خطأ ما في برمجيات الموقع قد حدث وانتقل بك إلى فترة السبعينيات بدلا من الوقت الحالي. لكن خطأ لم يحدث، وكل ما في الأمر أن المعالم المعمارية المتشابهة والسيارات القديمة جعلت الأمر يختلط عليك. مرحبا بك في واحدة من آخر معاقل الشيوعية.
ما إن يُذكر اسم كوبا يتبادر إلى الذهن الكثير من الأشياء: الثورة الكوبية، فولجينسيو باتيستا، فيدل كاسترو، تشي جيفارا، راؤول كاسترو، السيجار الكوبي، المافيا، الشواطئ الساحرة، الملاهي الليلية، السكر. وإن كنت متابعا دوريا لأخبار الجائحة. فبالتأكيد قد مر عليك اسم كوبا من خلال لقاحها “عبد الله”. نعم الاسم صحيح وهو مقتبس من مسرحية بذات الاسم، بطلها شاب مصري من النوبة، من تأليف شاعر كوبا الشهير خوسيه مارتي.
لكن اسم كوبا مؤخرا تداول بشكل كبير، وما حدث جذب الكثير من الأنظار. لأننا لم نسمع عنه تقريبا طوال الستين عاما الأخيرة. تظاهرات تاريخية تجوب شوارع مدن الجزيرة الكاريبية الملاصقة للولايات المتحدة، التي مازالت محتفظة بإرث الشيوعية منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي.
احتجاجات نادرة
يوم الأحد 11 يوليو كانت مشاهد آلاف المحتجين في الشوارع مفاجئة للغاية. فالإنترنت، الذي دخل كوبا قبل أعوام قليلة فقط ولا يستخدمه سوى قلة لأسعاره المرتفعة، كفل انتشار العديد من مقاطع الفيديو للمتظاهرين، في هافانا وسانتياجو ومدن رئيسة أخرى.
في تلك التظاهرات طالب الكوبيون بالحرية وإسقاط الديكتاتورية وتحسين الأوضاع الاقتصادية التي تدهورت تدهورا حادا في ظل أزمة فيروس كورونا وتأثيراتها على السياحة المصدر الرئيس للعملة الأجنبية. إلى جانب العقوبات الاقتصادية التي أعاد فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بعدما رفعها سلفه باراك أوباما.
وبالطبع كان أول قرار اتخذته الحكومة الكوبية، بعد القمع والاعتقالات. هو قطع الإنترنت، فهم “لا يريدون أن يرى العالم ما يحدث في كوبا” بحسب تعليق أحد المتظاهرين في هافانا. بعدها ظهر الرئيس ميجيل دياز كانيل، الذي تعرض لأول اختبار حقيقي للنظام الشيوعي في مرحلة ما بعد الأخوين كاسترو اللذين حكما لما يقرب 60 عاما، عقب توليه المهمة خلفا لداعمه راؤول كاسترو عام 2018، في خطاب متلفز، ليطالب “الثوار” من أنصاره، بالرد في الشارع.
اتهامات لواشنطن
وقال: “ندعو جميع ثوار البلاد، جميع الشيوعيين، إلى الخروج للشوارع حيث ستحدث هذه الاستفزازات الآن وفي الأيام القليلة المقبلة، وإلى مواجهتها بطريقة حازمة وشجاعة”، متهما المافيا الكوبية-الأمريكية بالوقوف وراء هذه التظاهرات.
اعتقالات جماعية
بعدها تصاعد القمع وقطعت المسيرات والاحتجاجات من قبل الشرطة. التي قامت باعتقالات جماعية واستخدمت الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين خلال اليومين التاليين. كما أظهرت مقاطع الفيديو التي يتم تداولها عبر الإنترنت ضباطًا يطلقون النار على الحشود. وفقًا لما ذكرته المراسلة نورا جاميز توريس من صحيفة ميامي هيرالد.
خوان بابيير، باحث أول في هيومن رايتس ووتش. قال: “إنهم يستخدمون نفس كتيب الإرشادات، لكن عليهم تطبيقه على نطاق واسع. كانت لعبة الحكومة الكوبية دائما: سنقمع بأقل قدر ممكن من الرؤية. ولكن عندما يكون لديك مئات الآلاف من الأشخاص في الشوارع، فهذا يمثل تحديا”.
ولكن هناك اختلاف واحد كبير: فيدل كاسترو، الثائر الموقر والديكتاتور المرعب وسيد البروباجندا، لم يعد موجودا، تشير “واشنطن بوست”، إلى الفارق إذ “يفتقر دياز كانيل إلى الأصل الثوري لكاسترو -مقاتل حرب العصابات ينسب إليه أتباعه الفضل في تحرير الجزيرة من الهيمنة الأمريكية- كما أنه لم يُظهر حتى الآن نوع المهارة الجيوسياسية التي اعتمد عليها كاسترو للتغلب على الصعوبات”.
مثلت هذه الاحتجاجات أول احتجاجات شعبية منذ عام 1994. حين تسبب سقوط الاتحاد السوفييتي، الداعم المالي الأول لفيدل كاسترو، والحصار الأمريكي، في انهيار اقتصادي دفع المئات حينها لاحتلال شارع ماليكون في العاصمة. لكن قمع كاسترو وتعامله التكتيكي معها بفتحه الباب أمام أي كوبي يرغب في الهجرة، نقل الكرة إلى ملعب الولايات المتحدة التي سارعت بإغلاق حدودها بعد تدفق مئات الآلاف إليها.
معاناة الكوبيين
معاناة الكوبيين تعمقت خلال الشهور الماضية تحت ظلال الجائحة، إذ تطلب الحصول على الغذاء والدواء الوقوف في طوابير في ظل نقص حاد. وتقول إحدى المتظاهرات “نزلت إلى الشارع لأنني تعبت من كوني جائعة. ليس لدي ماء، ليس لدي أي شيء. تشعر بالتململ ثم التعب ثم تتحول إلى مجنون”.
في بداية العام، اقترحت الحكومة حزمة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية التي أدت، مع زيادة الأجور، إلى ارتفاع الأسعار. ويقدر الاقتصاديون أن الأسعار قد ترتفع بين 500% و 900% في الأشهر القليلة المقبلة.
ومنذ العام الماضي، فتحت الحكومة متاجر حيث يمكن للكوبيين شراء المواد الغذائية والضروريات الأساسية بالعملات الأجنبية، والتي تعاني من نقص في الجزيرة. لكن المتاجر أثارت غضب غالبية السكان المحليين، الذين يتقاضون رواتبهم بالبيزو الكوبي وأصبحت مشاهدة أعداد كبيرة من الكوبيين تصطف في طوابير طويلة لشراء سلع مثل الزيت أو الصابون أو الدجاج مألوفة خلال الوباء.
“أنا هنا بسبب الجوع، لأنه لا يوجد دواء، بسبب انقطاع التيار الكهربائي، بسبب نقص كل شيء. أريد تغييرًا كليًا: تغيير الحكومة، وانتخابات متعددة الأحزاب، ونهاية الشيوعية” يشرح متظاهر لصحيفة جارديان البريطانية.
أزمة طبية
وإلى جانب التراجع الاقتصادي، فإن الأزمة طبية انضمت إلى عوامل تحريك الاحتجاج، إذ عرف الأسبوع الثاني من شهر يوليو تفشيا كبيرا لفيروس كورونا مع إصابة 7 آلاف شخص، وتوفي 47، وهي أرقام مرتفعة في بلد يعيش فيها 11 مليون شخص.
“أمي ماتت للتو. مكثنا في عزلة لمدة أربعة أيام. أربعة أيام من الاتصال بـ (النظام المتكامل للطوارئ الطبية) للحضور والبحث عنها. أربعة أيام ولم تصل الطوارئ”، يقول مجديل ماتوس لشبكة nbcnews من خارج مستشفى في مدينة ماتانزاس. فيما قالت ليسفيليس إشينيك إن شقيقها -35 عاما- مات في المنزل لأنه لم يكن هناك مكان له في المستشفى، وذكر آخر، أن زوجته الحامل توفيت بسبب ما زعم أنه إهمال طبي.
وانتشرت التقارير في الآونة الماضية عن المرضى الذين لا يمكن نقلهم إلى المستشفيات في الوقت المحدد بسبب نقص وسائل النقل والموارد. وهو ما عرّض الشرطة للكثير من الانتقادات إذ لم تسهم سياراتها بأي مساعدة لنقل المصابين.
ولم تنضم كوبا إلى كوفاكس. وهي وكالة منظمة الصحة العالمية التي تسعى لنشر لقاحات كوفيد 19 في البلدان الفقيرة. وبدلا من ذلك تراهن على إنتاج اللقاحات الخاصة بها، ومن ضمنها “عبد الله” الذي تقول إن فاعليته تتخطى 92% ويؤخذ على ثلاث جرعات، لكنها لم تنشر بيانات عن الدراسات السريرية ولم تحصل على موافقة أي منظمة صحية دولية.
ويعد ذلك تراجعا كبيرا على المستوى الطبي في بلد اشتهر بدبلوماسيته الطبية وتمتعه بواحد من أفضل الأنظمة الطبية، المجانية تقريبا، وحيث معدل الأطباء الأعلى في العالم مقارنة بعدد السكان.
أغنية تشعل المظاهرات
Patria y Vida أو “الوطن والحياة” كان الهتاف الأبرز في التظاهرات وهو انقلاب على شعار النظام الشيوعي الأشهر patria o muerte أو “الوطن أو الموت”. و Patria y Vidaهي اسم أغنية انتشرت انتشارا كبيرا في الآونة الأخيرة وتنتقد الحكومة وتتهمها بإفساد جودة الحياة في كوبا، وسرعان ما تحولت إلى شعار سياسي.
تقول كلمات الأغنية “لا مزيد من الأكاذيب. شعبي يطالب بالحرية. لا مزيد من المذاهب”، مطالبة الناس بأن يهتفوا باسم “الوطن والحياة.. ابدأوا في بناء ما حلمنا به، ما دمروه بأيديهم”، وهي تعاون بين مجموعة من نجوم الهيب هوب الكوبيين المقيمين في ولاية ميامي الأمريكية حيث الجالية الكوبية الأكبر، ونجمي راب يعيشون في كوبا، وقد تخطت 6 ملايين مشاهدة على موقع يوتيوب.
بعد إصدار الأغنية، في فبراير الماضي، اعتقلت السلطات الكوبية مايكل أوسوربو، وهو مغنِ شارك في الأغنية. وقدم أنصاره شكاوى إلى الأمم المتحدة بشأن معاملته، قائلين إن الحكومة تضطهده بسبب تعبيره عن آرائه وللمساعدة في تأليف الأغنية.
يوتويل روميرو، مغنٍ آخر شارك في الأغنية، أشار إلى أنها كانت مدفوعة بإلقاء نظرة على تاريخ كوبا الطويل “قبل الثورة كانت لدينا هافانا جميلة؛ والآن لدينا أنقاض. منذ تلك اللحظة، قلت: لن أصمت بعد الآن”. كان شعار حقبة كاسترو عبارة عن دعوة إلى حمل الناس للسلاح للوقوف ضد التأثير الخارجي، والآن الشعار الجديد يطلب من الناس النزول إلى الشوارع واستعادة بلادهم. يقول مقطع في الأغنية: “لقد انتهى الأمر الآن! ونحن لا نخاف”.
أليخاندرو دي لا فوينتي، رئيس برنامج دراسات كوبا في جامعة هارفارد. يرى أن “أغنية الوطن والحياة تمنحهم صوتا. إنه صوت شائع. إنه صوت أفريقي كوبي. إنها تأتي من الحي. لقد أظهرت الاحتجاجات المطالب والإحباط الذي أخذ حياة جديدة”.
ويضيف “المحادثة تتغير الآن. لا توجد طريقة للقول إن الأشخاص الذين نزلوا إلى الشوارع مُمولين من قبل الولايات المتحدة. هذا شيء آخر يتطلب التأمل الذاتي فيما يحدث داخل كوبا. هذا يخلق رواية مختلفة وسردا قويا”.
رد الفعل الأمريكي
لا يمكن فهم الوضع الكوبي الحالي بمعزل عن تأثير الولايات المتحدة التي لطالما نظرت إلى كوبا باعتبارها الأخت المارقة، وشهدت علاقاتهما توترا في غالب الأحيان. لكن زيارة باراك أوباما التاريخية إلى راؤول كاسترو في هافانا عام 2016، والأولى لرئيس أمريكي منذ 1928 فتحت الباب أمام تحسين العلاقات بين الجارتين، وإن تبدى بعد ذلك أنها كانت أكثر رمزية.
مع قدوم دونالد ترامب إلى البيت الأبيض سرعان ما ألغى أجزاء من الاتفاق الذي توصلت إليه إدارة أوباما، بسبب دعم هافانا للحكومة الفنزويلية برئاسة نيكولاس مادورو، ثم فرض حزمة أخرى من العقوبات متعلقة بالمشروبات الروحية والسجائر، مع نهاية فترته في 2020.
وصل جو بايدن إلى واشنطن. وظن البعض أنه سيحافظ على نهج أوباما، حين كان نائبا له. لكن واقع الأمر أنه أعاد تمديد العقوبات التي فرضها ترامب، وبدا وكأن كوبا ليست في قائمة أولوياته، وهو ما أكده السكرتير الصحفي للبيت الأبيض جين ساكي، في مارس الماضي، قائلا للصحفيين: “التحول في سياسة كوبا ليس من بين أولويات الرئيس بايدن”.
ومجددا، ومثلما حدث في القضية الفلسطينية. وجد الرجل الثمانيني نفسه مجبرا على التعاطي مع قضية أخرى لم تكن على رأس أولوياته. وفي بيان يوم الإثنين 12 يوليو، أي بعد يوم من انطلاق الاحتجاجات. دعم بايدن الكوبيين ومطالبهم بالحرية، قائلا في بيان: “نقف إلى جانب الشعب الكوبي ودعوته الواضحة من أجل الحرية والتخفيف من القبضة المأساوية للوباء ومن عقود القمع والمعاناة الاقتصادية التي تعرض لها من قبل النظام الاستبدادي الكوبي”.
لكن “الشيء السياسي السهل الذي يجب القيام به هو إصدار مطالب بالحرية من أمريكا دون القيام بأي شيء فعليا” بحسب ما انتقد بن رودس كبير مساعدي أوباما السابق والذي ساعد في صياغة الانفتاح الدبلوماسي على كوبا، في تصريحاته لصحيفة “بوليتيكو”، مؤكدا أن “هذا ليس نهجا بناءً”.
موسكو، حليفة هافانا
من جانبها لم تقف موسكو، حليفة هافانا، متفرجة. وردت بحدة على تصريحات بايدن. إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاراخوفا: تكمن الوقاحة الخاصة التي تبديها واشنطن في أنها منذ قيام كوبا الثورية تتبع استراتيجية ممنهجة تهدف إلى خنق هذا البلد. والتمييز ضد شعبه وتدمير اقتصاده. وذكّرت بالحصار الاقتصادي والمالي الأمريكي المفروض على كوبا منذ 60 عاما. وسياسة العقوبات غير القانونية إطلاقا والمستمرة إلى ما لا نهاية والتي تشمل السلع الأساسية مثل الأغذية والأدوية”.
كما تساءلت المتحدثة. بشأن كيفية تقييم القرارات المسيسة المتكررة من قبل الولايات المتحدة. لإدراج كوبا على قوائم الإرهاب الوطنية، ما يحول دون دمج هذا البلد في العمليات السياسية الدولية.
أي مستقبل إذا؟
لا يتضح ما الذي سيحدث بعد، لكن الاحتجاجات متواصلة. والرئيس كانيل اتخذ عدة تدابير في سبيل التهدئة، عبر تسهيل إدخال مواد غذائية وأدوية، بعد ثلاثة أيام من تظاهرات تاريخية سقط فيها قتيل وعشرات الجرحى و100 موقوف، وأقرت هافانا بأنها “استخلصت منها العبر”.
ويوم الخميس 15 يوليو. أطل الرئيس وسكرتير الحزب الشيوعي كانيل مجددا. وبنبرة أكثر هدوءا من سابقتها قال: “علينا استخلاص العبر من هذه الاضطرابات، علينا أيضا أن نجري تحليلا دقيقا لمشاكلنا”. واعترف بوجود “أمور ينبغي علينا تحسينها لأن بين المتظاهرين كان هناك أشخاص غير راضين. ربما ينبغي أيضا الاعتذار من أولئك الذين في خضم هذا الارتباك في هذا النوع من الأحداث. اعتُبروا مثيري شغب وتعرضوا لسوء معاملة”. مُطلقا “دعوة إلى السلام والتفاهم والاحترام بين الكوبيين.
وقررت الحكومة السماح بصورة استثنائية ومؤقتة بأن يجلب الركاب معهم في حقائبهم مواد غذائية ومنتجات نظافة وأدوية. من دون حد أقصى لقيمتها ومن دون ضرائب جمركية عليها. وكان تسهيل دخول الضروريات إلى الجزيرة أحد المطالب التي رفعها المحتجون الذين نزلوا إلى الشارع. ودفعت الحكومة إلى تقنين الإمدادات بالتيار الكهربائي لساعات عديدة يوميا، وقد مثل نقص الكهرباء أحد محركات الاحتجاج أيضا.
الأزمة تبدو عميقة ومتراكمة، والمشهد المستقبلي في كوبا لا يبدو واضحا إلى أي مآل سيتجه، لكن “حتى لو احتفظت الحكومة بالسيطرة، وهو السيناريو الأكثر ترجيحا، يرى الكوبيون الآن ما يمكنهم فعله إذا خرج عدد كاف من الناس للاحتجاج. لذا فقد خرج الجني من القمقم الآن والإحباط لن يذهب إلى أي مكان”، بتعبير المراسلة الصحفية نورا توريس.