بعض المبدعين يصعب على أي منا، وربما يستحيل، أن يكون له موقف محايد منهم. هؤلاء انغزلت أعمالهم في نسيج حياتنا، شكلت جزءا من وعينا بأنفسنا وبالعالم، دخلت في لغتنا اليومية، وفي أحيان كثيرة صاغت جانبا هاما من أحلامنا وتطلعاتنا وتصوراتنا عن المستقبل كما نتمناه وكما جعلنا منه غاية لنا في لحظات الأمل، وكما جعلنا منه أطلالا نبكيها في سنوات الإحباط والانكسار والهزيمة. هؤلاء لا يمكننا أن نعرف يقينا إن كنا قد اخترناهم أم اختارونا، أم أن قوة أكبر اختارت كلا منا للآخر بطريقة ما. فوجودهم في حياتنا يبدو قديما ويسبق حتى لحظة تعرفنا عليهم. وكأنما وجدنا في أعمالهم، وربما في صورهم التي رسمناها لهم في خيالنا، أنفسنا كما نظنها، أو كما نرجو أن تكون.
مثل هؤلاء المبدعين في حياة المجتمعات أو الجماعات نادر، ولكن الحاجة إلى وجودهم تبدو ضرورية وتزداد بصفة خاصة في أوقات بعينها، ولا تكون أكبر في أي وقت منها في وقت الهزيمة والتراجع. في مثل هذه الأوقات يبدو ظهور المبدع الاستثنائي إعجازيا؛ كأنه استجابة القدر لحاجة الجماعة الماسة إليه. أو على جانب آخر، وربما في أعين جماعة منافسة، تبدو استثنائيته مصطنعة، أو يبدو تقييم إبداعه من صنع الجماعة.
في الحالة الأولى ترفع الجماعة مبدعها المختار إلى مصاف القديسين، بل ربما تجعل منه نبيا يبشر بقيمها من خلال منتجه الإبداعي. وفي الحالة الثانية يهبط المنافسون للجماهة بمبدعها الرمز إلى رتبة العادي والمعتاد، بل ربما يحاولون تجريد أعماله من صفة الإبداع الأساسية وهي الأصالة.
الحقيقة أن المبدع الاستثنائي من هذا النوع ليس استجابة قدرية، فلا هو قديس أو نبي، وفي نفس الوقت ليس صنيعة جماعته من فراغ، وعادة لا يمكن نفي استثنائيته وبالتأكيد لا يمكن تجريد أعماله من صفة الإبداع، فكلا الأمرين شرطين ضرورين لوجود ظاهرته. ما يحدث هو أن ظرفا اجتماعيا أو بالأحرى تلاقي عوامل اجتماعية بشكل استثنائي، يخلق المبدع، كما يخلق الحاجة إليه. هذه العوامل الاجتماعية تتعلق بالجماعة التي تستشعر الحاجة إلى مبدع استثانئي ينتج خطابا معبرا عن لحظة تاريخية استثنائية في تاريخها، ومن ثم فإن المبدع وإبداعه لا يكونان فقط انعكاسا لقيم هذه الجماعة وإنما انعكاسا لحالها في تلك اللحظة التاريخية.
لا يبدو غريبا أن يكون شاعر العامية المصرية أحمد فؤاد نجم نموذجا بارزا، أو ربما وحيدا، لظاهرة المبدع الاستثنائي بالنسبة لجماعة بعينها هي اليسار المصري. ليس نجم هو أهم شعراء العامية المصرية في العقود الأخيرة من القرن الماضي، ولكنه بالتأكيد واحد من بين مجموعة يعد أفرادها على أصابع اليد الواحدة هم الأكثر أهمية وتأثيرا. أما بالنسبة لليسار المصري، فنجم هو بالتأكيد الأكثر أهمية وتأثيرا، دون منازع، فهو المبدع الاستثنائي كما حاولت في الفقرات السابقة أن أقدم تعريفا له.
ونجم إذن، في سردية اليسار المصري للحظة تاريخية هامة، هو أحد قديسيه وأنبيائه المعدودين. يفسر ذلك بقدر كبير ردة الفعل العنيفة التي يواجه بها اليساريون أغلب النقد الذي قد يتناول إبداع نجم، وأحيانا مواقفه وسلوكه، حتى عندما افترقت تلك المواقف مع الموقف الغالب على اليسار المصري في لحظة بعينها، وحتى عندما لا يكون بالإمكان استيعاب تلك السلوكيات في إطار القيم السائدة في جماعة اليسار.
عندما تعرض نجم مؤخرا للنقد من خلال بعض أعماله، ومن منطلقات تبدو نسوية من خلال أدواتها التحليلية على الأقل، أنتج ذلك سجالا شغل تلك الدوائر المحدودة والضيقة لليسار المصري ودار معظمه على مواقع التواصل الاجتماعي. لا أنوي هنا أن أخوض في هذا السجال أو أن أكون طرفا فيه، في الحقيقة قصدت بالمقدمة السابقة أن أمهد للحديث عن الأمر من نقطة خارج هذا السجال تماما. ولأكون أكثر وضوحا، فإذا كان السؤال الذي يتنازع حوله طرفا السجال هو: “هل أعمال نجم تصمه بالذكورية؟” فأنا بالتأكيد لا أنوي تقديم إجابة على هذا السؤال. فالحقيقة أنه سؤال عبثي، بمعنى أن التوافق على أي إجابة عليه لا نفع منه، لا من منظور نسوي ولا من منظور يساري. الأمر الوحيد الذي يستحق مناقشته فيما يتعلق بهذا السؤال هو “لماذا طُرح أصلا؟”.
دعنا نلاحظ أولا أن طرفي السجال يعرفون أنفسهم على أنهم يساريين. ليست هذه محاولة للنيل من قيمة نجم الإبداعية يقوم بها معادون لليسار المصري ويتصدى لها يساريون. هذه معركة داخلية بامتياز. وهذا في الواقع سبب اختيار طرفيها للسؤال الذي تدور حوله رغم عبثيته. هذه العبثية هي تحديدا ما يجعل النقد الموجه لنجم غير نسوي أصلا.
لا فائدة ترجى لأي قضية نسوية من محاكمة مبدع بشخصه على ذكورية أعماله. نقد الإبداع بأنواعه هو بالتأكيد واحدة من الأدوات النسوية الهامة، تحديدا لتحليل الذكورية كبنية اجتماعية، تنعكس في المنتج الثفاقي للمجتمع، ومن ثم تعيد إنتاج نفسها من خلاله. في مجتمع ذكوري تكون أجساد النساء ساحة لصراعاته المختلفة، سياسية كانت أو ثقافية أو طبقية إلخ. ولأن المنتج الثقافي هو بالتأكيد أداة رئيسية في أي صراع، فهذا المنتج في مجتمع ذكوري سيتورط في أغلب الأحيان في استخدام أجساد النساء ساحة لإلحاق الأذى بالخصم. هذا ما يعني النقد النسوي للمنتج الأبداعي، ولا يعنيه بأي حال إدانة هذا المبدع أو ذاك خاصة بعدما يفارق الحياة.
لا يكون سؤال ذكورية نجم عبثيا في حالة واحدة فقط، وهو ألا يكون مطروحا من خلال نقد نسوي، بل أن يُطرح من خلال نقد ذاتي يساري. في هذه الحال سيكون للسؤال معنى، أو بالأحرى غرض، ولكنه سيكون سؤالا تضليليا. دعني أولا أوضح ما معنى السؤال أو الغرض منه عندما ننظر إليه كنقد ذاتي يساري. فيم تجدي إدانة نجم بالذكورية؟ حسنا، فقط إن قررنا أن خطاب نجم الشعبوي المحافظ والرجعي، من وجهة نظر نسوية، ورغم كونه خطاب معقد ومركب وتقدمي من وجهة نظر سياسية، لا يليق في المجمل بأن يكون هو الخطاب النموذجي ليسار تقدمي نسويا وسياسيا.
في هذه الحال تكون إدانة نجم بالذكورية مبررا لتنصل يسار يتطهر من محافظته ورجعيته الاجتماعية منه. بعبارة أخرى، هذه الإدانة تعني أن خطاب نجم لا يعكس خطاب اليسار المصري، لا اليوم، ولا في أي وقت مضى، فاليسار كما نعرف لابد أن يكون تقدميا.
ولكننا نعرف أن اليسار ينبغي أن يكون شعبويا أيضا. مبرر وجود اليسار، هو تمثيله للطبقات الشعبية، للبروليتاريا أولا، أي الطبقة العاملة الصناعية، بالمعنى الضيق، ولكن أيضا للجماهير الكادحة والمهمشة، أي الفلاحين والبروليتاريا الرثة، بالمصطلحات الماركسية، وبالمعنى الأوسع. حتى يحقق اليسار الإمكانية النظرية لحشد هذه الطبقات، لابد أن يكون خطابه شعبيا ومن ثم مقبولا لها. هذا هو التناقض الرئيسي الذي فشل اليسار، ربما في العالم كله، في إيجاد صيغة لحله. أي التناقض بين التقدمية والشعبوية. واحدة من الصيغ الشائعة بحثا عن حل لهذا التناقض هي ادعاء أن الطبقات الشعبية هي بطبيعتها أو في حقيقتها، أي قبل أن تستبطن الثقافة البرجوازية المحافظة، هي الأكثر تقدمية في المجتمع.
هذا الادعاء ليس خاطئا فقط، بل هو أخرق، وأعني أنه إلى جانب كونه ساذجا ومفارقا للواقع بوضوح، فهو أيضا ضار بأي قضية يدعي اليسار الدفاع عنها. ولكن التنازع حول هذا الادعاء يظل ماثلا في السجال التضليلي حول ذكورية نجم. فخطاب نجم شعبوي بامتياز. وهو ليس خطابا شعبويا يعكس استبطان الطبقات الشعبية للخطاب البرجوازي المحافظ؛ بل إنه يعكس الجوهر التقدمي للخطاب الشعبي، على الأقل سياسيا. هذا أحد العوامل الهامة التي أهلته لأن يلبي حاجة اليسار المصري إلى مبدع استثنائي، في لحظة تاريخية استثنائية.
ما يدور حوله طرفا السجال، وما يتجنبان مواجهته من خلال التركيز على السؤال العبثي عن إدانة نجم بالذكورية، أو من خلال جر السجال إلى منطقة الصوابية السياسية، التي لا تقل عبثية، هو تحديدا سؤال: إلى أي حد تؤدي شعبوية اليسار إلى أن يكون محافظا ورجعيا؟ أو بصيغة أخرى، إلى أي حد تؤدي به إلى ألا يكون بديلا حقيقيا في مقابل الإسلام السياسي على سبيل المثال، خاصة وأن شعبويته تضطره إلى اصطناع موقف متميع من الدور السياسي للدين؟ أو إلى أن يكون أقل تقدمية من البديل الليبرالي؟ في الواقع حتى مجال تميز اليسار الرئيسي، وهو قضية التوزيع العادل للثروة، محدود حاليا ببديل رأسمالية الدولة الناصرية على أفضل تقدير، إن لم يحصر الخطاب اليساري نفسه بحلول يسار الوسط، التي يطرحها الإسلاميون والليبراليون المصريون أيضا.
لا يرغب اليسار المصري في مواجهة حقيقة أن مواقفه كانت محافظة ورجعية، قبل نجم وبعده، به وبدونه، ولا تتعلق بسياسات الهوية، مثل النسوية، فقط، بل تتعلق بمجمل طيف القضايا التي كان ولا يزال عليه أن يتخذ منها مواقف واضحة، ولكنه نجح فقط في طرح خطاب متميع حولها.
الصعود الأخير للنسوية، كخطاب تقدمي غير متميع، اجتذب كثيرين من ممثلي اليسار المصريين إليها، بدرجات مختلفة من الحذر.
ومن الطبيعي تماما أن يجد هذا الخطاب النسوي نفسه مطالبا بفحص المنتج الإبداعي، وأن يقوده ذلك بالضرورة إلى النموذج الاستثنائي لنجم. ولكن محاولة فحص المنتج الإبداعي لنجم أخفقت، عندما حاولت أن تطرح نقدها في صورة محاكمة للمبدع، وليس كتحليل اجتماعي. حدث ذلك دون تعمد، لأن التحليل الاجتماعي في هذه الحالة، والذي سيتناول انعكاس ذكورية الخطاب الشعبي في أعمال نجم، سيمر حتما بذكورية خطاب اليسار المصري وممارساته، وهو ما سيطرح سؤال محافظة ورجعية هذا الخطاب، في الماضي على الأقل، وتردده وعدم وضوحه في الحاضر.
لا أحد في حاجة إلى إدانة أحمد فؤاد نجم بأي شيء. النسوية المصرية بالتأكيد لا تحتاج إلى إدانة كهذه. اليسار المصري أيضا لا يحتاج إلى إدانة نجم، خاصة وإن كانت المحاولة العبثية لإدانته، والمحاولة التي لا تقل عبثية للدفاع عنه، تتجنبان ما يحتاج إليه اليسار في الحقيقة، وهو مراجعة شاملة لإجابته، أو بالأحرى امتناعه عن الإجابة، على سؤال التناقض بين التقدمية والشعبوية في سياق الاجتماع المصري، الذي يضيف طبقات فوق طبقات من التعقيد لهذا السؤال.
ليست معركة اليسار مع النسوية. في الواقع أغلب النسويات في مصر، وربما في العالم، يساريات بدرجة أو بأخرى. أزمة اليسار في مصر، وفي العالم أيضا، ليست أزمة سياسات الهوية، بل أزمة هوية، هويته هو نفسه، التي يحتاج إلى إعادة صياغتها. ليس السجال حول ذكورية نجم إلا واحدًا من عشرات السجالات اليسارية الداخلية، التي تشير جميعها إلى حاجة اليسار إلى إعادة خلق نفسه من جديد في صورة تجعل منه بديلا سياسيا واجتماعيا حقيقيا، وتخرجه من الدائرة البائسة لتذيل الآخرين.