شهدت النسخة الثانية والخمسين من معرض القاهرة للكتاب اهتمامًا مستجدًا باليهود من الناحية التاريخية والروائية، ليضم بين جنباته 12 رواية وكتابًا تنقب غالبيتها في اليهود المصريين، من الناحية التاريخية والاجتماعية، في ظاهرة تثير الكثير من الجدل حول دلالات التوقيت وأسبابه.

تخالف المعالجات الجديدة التي تحاول رسم تاريخ مختلف أدبيًا وتاريخيا لليهود المصريين عن الصور الراسخة في أذهان قطاع عريض للمصريين حولهم كمرابين جشعين هدفهم السيطرة على المال بأي وسيلة، ونية التآمر  مستوطنة داخلهم حتى على الأوطان التي قطنوها، وتظهر بجلاء مع رغبتهم  لتحقيق أهدافهم.

يهود مصر في القرن العشرين 

في مقدمة الكتب المعروضة، يأتي “يهود مصر في القرن العشرين.. كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟” للدكتور محمد أبو الغار. الصادر عن دار الشروق.  فاسم المؤلف وحده وتاريخه الوطني كفيل بإغراء الكثيرين على استكشاف أفكاره. التي يعيد فيها رسم تاريخ اجتماعي لمصر، عبر تتبع يهودها بعد خروجهم منها في الستينيات وبعد ستة عقود.

يجمع بين كتاب أبو الغار وغيره. السعي إلى نقد الأفكار التي تحيط بفترة حياتهم في مصر. ومن منطلق أن وجودهم كان أحد عناصر الكوزموبوليتانية السكانية القائمة على التنوع وتقبل الآخر المختلف، والانتقال منها لأفكار أوسع حول الانتماء والهوية والمواطنة.

يهود مصر في القرن العشرين.. كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟
يهود مصر في القرن العشرين.. كيف عاشوا ولماذا خرجوا؟

يعتبر أبو الغار أن اليهود تركوا مصر على ثلاث موجات. أولها في الأربعينيات بعد ظهور جماعة الإخوان المسلمين التي فجرت شركة الإعلانات الشرقية المملوكة لهم. وارتكاب حوادث اعتداء على محالهم ومعابدهم وممتلكاتهم.

وارتبطت الموجة الثانية في الخمسينات _ وفقا لأبو الغار – وتحديدًا بعد العدوان الثلاثي “الإنجليزي ــ الفرنسي ـ الإسرائيلي” الذي غير من نظرة المصريين نحو أتباع الديانة اليهودية. والثالثة بعد سياسة التأميم التي رافقت العهد الناصري، وأطاحت بالبورجوازية التي هاجرت إلي أوروبا والأمريكيتين.

في الاتجاه ذاته، يدور كتاب “يهود مصر في الأمثال الشعبية والنكات والأقوال المأثورة“، للمؤلف أحمد زكريا زكى. الذي يرصد كيفية تعاطي التراث الشعبي مع اليهود طوال قرنين كاملين، وصولًا إلى خلاصة واضحة مفادها بأن المصريين كانوا متسامحين دينيا مع اليهود ولم يحملوا بغضًا لهم.

يهود مصر في الأمثال الشعبية والنكات والأقوال المأثورة"
يهود مصر في الأمثال الشعبية والنكات والأقوال المأثورة”

ويتطرق الدكتور شريف شعبان، في كتابه “يهود مصر القديمة“، إلى الجانب التاريخي البحت بإثارة تساؤلات حول علاقة اليهود ببناء الأهرام. وموعد مجيء بنو إسرائيل إلى مصر أول مرة، وإمكانية وجود رابط بين مزامير داوود وأناشيد أخناتون؟، بينما اختار المترجم أنور إبراهيم كتاب “اليهود في الدولة العثمانية” لنقله من الروسية إلى العربية، وطرحه في جناح المركز القومى للترجمة ويدور حول علاقة المجتمعات اليهودية بالتطور الداخلي لمؤسسات الدولة العثمانية.

حضور لافت

على مستوى الأدب، كان اليهود حاضرون أيضًا بداية من رواية “قطار الليل إلى تل أبيب” للمؤلفة لرشا عدلي حول وثائق “الجنيزة”  وهو مصطلح  أُطلق على الوثائق والمخطوطات التي كنزها اليهود في العصور الوسطى، في معبد (بن عزرا) بحي مصر القديمة الخاص بطائفة اليهود الربانيين، ومقابر اليهود في حي البساتين، ولهذا أُطلق على هذه المجموعة اسم (جنيزة القاهرة).

تتضمن  الكتب المعروضة “أوراق شمعون المصري” للكاتب أسامة الشاذلي. حول سنوات التيه في سيناء بعد خروج اليهود. و«عمارة آل داوود» لمروى جوهر التي تتمحور خروج قوم النبي موسى من مصر وما يريدونه من العودة إليها. و”آخر يهودية مصرية” للكاتب محمود عبدالباسط التي تقترب كثيرا من “آخر يهود الإسكندرية” لمعتز فتيحة وكلاهما يدور عن اليهود المصريين.

أوراق شمعون المصري
أوراق شمعون المصري

وواصل الكاتب كمال رحيم الغوص في منطقة اليهود المحلية له بثلاثية كاملة عنهم تتضمن. “المسلم اليهودي“، “وأحلام العودة” و”أيام الشتات“. والأخيرة تمثل طبعة جديدة صدرت قبل أعوام وأثارت الجدل بين أوساط المثقفين المصريين. بعدما قدمت جدا يهوديًا كرمز للمصري المنتمي والمحب لبلده والمتسامح مع الأديان والذي يجرفه الحنين الدائم للعودة.

ربما تكون الطبعة الجديدة من كتاب “اغتصاب الذاكرة.. الاستراتيجيات الإسرائيلية لتهويد التاريخ” للكاتب الصحفي إيهاب الحضري. الوحيدة الذي تقدم معالجة تنتقد ممارسات إسرائيل في إضفاء شرعية مُزيفة على احتلال فلسطين وسرقة تراث المنطقة العربية في أوقات الثورات .

تأريخانية تحليلية

يقول الناقد الثقافي يسري عبدالغني، إن الكتب الجديدة التي تتناول اليهود يجب أن تنتهج ما يسمى بالتأريخانية التحليلية التي لا تكتفي بسرد الوقائع المجردة، وتسعى لتحليلها وربط العناصر المنقوصة ببعضها البعض، والتفرقة بين الخلط بين اليهودي والإسرائيلي والصهيوني، فالكتابات العنترية لم تعد ذات جدوى والأمر حاليًا يتطلب المنهج العملي المدروس.

لا تمثل الصورة الراسخة محليًا عن اليهود قصرا على الأدب والفكر المحلي القديم،  ولكنها ترسخت في التراث الكلاسيكي الأوروبي، فقدم التخيلات ذاتها الأدب الإنجليزي في مسرحية  شكسبير  اﻟﺸﻬﻴﺮة «ﺗﺎﺟﺮ اﻟﺒﻨﺪﻗﻴﺔ» التى قدمت ﻟﻠﻴﻬﻮدي ﺻﻮرة ﺟﺸﻌﺔ ﻓﻈﺔ ﻣﺤﺒﺔ ﻟﻠﻤﺎل، ﺣﺎﻗﺪة ﻗﺎﺳﻴﺔ ﻛﺎرﻫﺔ ﻟﻶﺧﺮ.

كما أعطى تشاﻟﺰ دﻳﻜﻨﺰ، اﻟﻴﻬﻮدي قدرا جليا ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻘﻴﺮ ﻓﻲ أدﺑﻪ خاصة رواﻳﺘﻪ “أوﻟﻴﻔﺮر ﺗﻮﻳﺴﺖ” ليصور اليهودي كشرير مجرم  ﻗﺎﺋﺪ ﻋﺼﺎﺑﺔ ﺗﺴﺘﻐﻞ اﻟﺼﻐﺎر وﺗﺴﺮق اﻟﻤﺎرة وﺗﻤﺎرس اﻟﻘﺘﻞ وأﻋﻤﺎل إﺟﺮاﻣﻴﺔ أﺧﺮى، وتكرر الأمر  ذاته مع ﻛﺮﻳﺴﺘﻮﻓﺮ ﻣﺎرﻟﻮ في مسرحيته “اﻟﻴﻬﻮدي اﻟﻤﺎﻟﻄﻲ” التي تظهر فيها ﺻﻔﺎت الشخصية الحريصة ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺎل، والتي تدبر  اﻟﺪﺳﺎﺋﺲ، وليس لديها أي تحفظ على قتل الأبرياء .

يقول عبدالغني إنه يجب تناول التاريخ بطريقة علمية دون موقف سياسي، والتفرقة بين اليهود المصريين الذين عاشوا بمصر أو خرجوا منها لدول أخرى دون أن يحملوا بغضا ضدها وبين غيرهم ممن تشربوا لفكرة الصهيونية وآمنوا بها، معتبرًا أن الأمر لا يحمل أي خطوة في ظل رفض المثقفين المصريين فكرة التطبيع الثقافي بكل صوره واعتبار قطاع عريض منهم إسرائيل العدو الأول.

تسامح مصري

 

قبل أربعة أعوام، أعادت سلسلة “كتاب الهلال” نشر طبعة جديدة للدكتورة عواطف عبد الرحمن ، الأستاذة بإعلام القاهرة بعنوان “اليهود المصريون والحركة الصهيونية“، الذي أظهر أيضًا روح التسامح والاحتواء والثقة التي شملت جميع اليهود المصريين منذ عهد محمد علي حتى قيام الكيان الصهيوني عام 1948.

يؤكد الكتاب أن تلك الروح سمحت لليهود في مصر بالمشاركة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، وكان منهم الوزراء والسفراء والمناضلون في صفوف الحركة الوطنية، لكن الأمر تغير  بعد تأسيس أول فرع للمنظمة الصهيونية العالمية بمصر عام 1918 انتمى أغلبهم إلى الحركة الصهيونية.

وذكر الكتاب أنهم نجحوا في جعل مصر قاعدة للدعاية الصهيونية من خلال الصحف، ولم يكن المجتمع المصري يدرك آنذاك خطورة الحركة الصهيونية، حتى آن الطبقة الحاكمة وبعض النخب الموالية لها أبدت تعاطفا مع الصهيونية، خاصة في أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كانت تتوارد أنباء معسكرات الغاز وإبادة اليهود على أيدي سلطات ألمانيا النازية.

ما يثير الاهتمام حول عدد المطبوعات عن اليهود في معرض الكتاب التغيرات التي شهدتها الدراما العربية، أخيرًا، نحو تغيير صورة اليهودي وآخرها المسلسل الكويتي “أم هارون”، قبل عامين، الذي تمحور حول “امرأة تعاني الكثير من المتاعب بسبب ديانتها اليهودية”.

جاء العمل بعد سنوات من تجربة درامية  مصرية لتقديم صورة مغايرة عنهم في مسلسل “حارة اليهود” الذي قدم غالبية اليهود كمواطنين مصريين تأثروا بالفترة الممتدة بين عامي 1948 والعدوان الثلاثي، ومنهم من كان وطنيا أكثر من أي مواطن عادي.

وظلت صورة اليهود بالدراما والسينما المصرية تقدم، في غالبية الأعمال، بسمات ثابتة لا تخرج عن: البخل، والمكر، والعمل بالصرافة أو التجارة أو المراهقات والإقراض بالربا، ابتزاز الآخرين، من أجل الاستيلاء على أرضهم في النهاية.

نهم في القراءة

يقول مصطفى عبيد، الروائي والمترجم، إن الاهتمام بإعادة كتابة تاريخ اليهود لا يحمل مصادفة، فمعظم الناشرين يطلبون الآن أي كتب عنهم، في ظل وجود نهم واضح وشغف حقيقي للقراءة حولهم سواء في مصر أو العالم العربي.

اليهود في الإمبراطورية العثمانية.. صفحات من التاريخ
اليهود في الإمبراطورية العثمانية.. صفحات من التاريخ

وتصدرت الطبعة العربية من كتاب “اليهود في الإمبراطورية العثمانية.. صفحات من التاريخ” قائمة الأكثر مبيعًا في جناح المركز القومي للترجمة.  خلال الأسبوع الأول من المعرض. رغم وجود مطبوعات يفترض أنها أكثر إغراء للقراءة مثل  “التفسير الإبداعي لأحلام”. و”بريطانيا في فلسطين:قصة الحكم البريطاني لفلسطين” .و”مصر في القرن 19″ أو “محمد على ومن خلفوه إلى الاحتلال البريطاني”.

يضيف عبيد أن أحد الناشرين طلب منه قبل شهور أي كتاب عن اليهود. واحد أصدقائه كتب رواية عن خروج بني إسرائيل من مصر. وحققت مبيعات مرتفعة جدًا. فإعادة قراءة تاريخهم بعد اتفاقات التطبيع الجديدة أمر ملحوظ في محاولة التأكد . ما إذا كانت الأطروحات التقليدية المعتادة بشأنهم صحيحة أم تحمل  سوء التأويل.

قضية التطبيع 

يري أن القراء في الغالب جمهور من الشباب من ١٦ إلى ٢٥ سنة، وموقفهم مختلف عن المثقفين، فلم يتربوا على كراهية إسرائيل مثلما تربت الأجيال السابقة.

يؤكد أحد منظمي معرض الكتاب. أن الأمر ربما يرتبط بالصدفة البحتة وتوارد الأفكار. فعدم عقد النسخة الماضية من المعرض لظروف كورونا ساهم في زيادة أعداد الإصدارات المشاركة في المعرض. وطالما كانت قضية التطبيع الشغل الشاغل لمواقع التواصل الاجتماعي طوال المشهورة الأخيرة فلابد أن ينعكس ذلك على الأدب  والأفكار.

لكن ربما لا يمكن التعويل على توارد الأفكار في تلك الظاهرة المستحدثة. مع انفراد دار مثل الشروق بالعدد الأكبر من المطبوعات المتعلقة باليهود. بجانب  اختيارات المسئولين عن النشر بدور الطباعة الذين يحددون من بين عشرات الكتب التي تصل لهم ما يطبعونه منها ويوزعونه.