نحن شعوب البلدان المتأخرة في التطور الديمقراطي نولد ونعيش ونموت محرومين من الاستمتاع بحق الكلام في كثير من القضايا التي تعنينا كأفراد وكمجتمعات، وهذا الحرمان من حق الكلام فيما قل أو كثر من القضايا هو – في الوقت ذاته – حرمان من حق التفكير الحر، وهذا الحرمان من حق التفكير يعني تنشئتنا وتطويعنا وتدريبنا على ألا نكون أنفسنا فذلك خطر علينا وأن نكون غيرنا أو مثل غيرنا فذلك أمان لنا ولمن حولنا.
صحيح أن هذا الحرمان له جذوره الثقافية والاجتماعية المتجذرة في تلافيف العقلين الواعي والباطن والفردي والجمعي، لكن الأخطر من تجذره الثقافي والاجتماعي هو الاستغلال السياسي له وتحويله إلى بند في العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم باعتبار أن لزوم المحكومين للصمت يوفر للحاكم ظروفاً أفضل لخدمة المصالح العامة، وهو بند باطل أسفر فيما سبق ويسفر فيما لحق وسوف يسفر في المستقبل عن كوارث لا حدود لها إذا استمرت المعادلة الراهنة التي يمكن إيجازها في كلمتين: الصمت مقابل الأمان أو الطاعة في مقابل الاستقرار.
عندما يصل العسكريون إلى الحكم مثلما حدث في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م ومثلما حدث في ٣ يوليو ٢٠١٣م، فإنهم يعتبرون أنفسهم أصحاب رسالة أخلاقية وليسوا أصحاب مطامع سياسية، ومن ثم يعتبرون تحركهم إنما هو مهمة إنقاذ وطني، جاءت في التوقيت المناسب، وباستدعاء بعض قطاعات الشعب وترحيب بعضه الآخر وعدم ممانعة بعضه الثالث وهكذا، فهم – من وجهة نظرهم- وإن لم يأتوا بتصويت انتخابي وعمل حزبي وتنافس سياسي فإنهم – بديلاً عن ذلك – جاءوا برغبة الشعب وترحيبه وتحريضه وتفويضه.
وعلى هذا الأساس يعتبرون تحركهم شرعياً، ويعتبرون أن لهم حق التوجيه، وعلى الشعب واجب الطاعة، بحيث يمنحهم الثقة ويلزم الهدوء وينتظر التوجيهات ويطبق الإرشادات ولا يعطي أذنه لأحد سواهم هنا أو هناك.
حدث ذلك عند تأسيس الحقبة العسكرية الأولي، فبعد أربعة أيام فقط من ٢٣ يوليو ١٩٥٢م تنازل الملك المعزول عن عرشه، وصدر بيان عن اللواء محمد نجيب الذي أصبح الرئيس محمد نجيب (1901-1984 ) جاء فيه: “إن نجاحنا في قضية البلاد، إلى الآن، يعود أولاً وأخيراً، إلى تضافكركم معنا بقلوبكم، وتنفيذكم لتعليماتنا، وإخلادكم إلي الهدوء والسكينة، إنني أتوسل إليكم أن تستمروا في التزام الهدوء التام، حتي نستطيع أن نسير بقضيتكم في أمان”.
ص ١٣٢، الديمقراطية ونظام ٢٣ يوليو، ١٩٥٢ – ١٩٧٠م، طارق البشري، دار الهلال، ديسمبر ١٩٩١م.
ثم حدث مثل ذلك، كذلك، عند تأسيس الحقبة العسكرية الراهنة، فبعد عشرين يوماً من عزل الرئيس في ٣ يوليو ٢٠١٣م، وبالتحديد في ٢٤ يوليو ٢٠١٣م، خطب اللواء عبدالفتاح السيسي الذي أصبح الرئيس عبدالفتاح السيسي يناشد الجماهير النزول إلى الشوارع لتفويض الجيش والشرطة في مواجهة أي عنف محتمل، ثم بعد أن حصل علي التفويض كرر مناشدته الشعب مراتٍ متعددة أن يثق فيه فقط ويسمع كلامه فقط ويأخذ المعلومات منه فقط.
بحكم السن لم أشهد لحظة تأسيس الحقبة العسكرية الأولى، ومن ثم لم أشهد بنفسي ما فعلته بحق الشعب في الكلام بحرية وأمان، فقد ساد الخوف وهيمن الذعر- فيما قرأنا وعلمنا- حتى أعتقد الناس أن جدران بيوتهم تتجسس عليهم وتسجل عليهم كل ما قد ينطقونه أو قد يفكرون فيه.
لكن بحكم السن كذلك، شاءت الأقدار أن أشهد تأسيس الحقبة العسكرية الراهنة، وأرى كيف تم قصقصة أجنحة الكلام ريشة ريشة، وجناحاً جناحاً، وحرفاً حرفاً، وكلمةً كلمةً، حتى سكت الكبار، ثم سكت الصغار، وسكتت النخب، ثم سكت العوام، ثم أطبق السكوت على المليون كيلو متربع التي تحمل اسم مصر، فلا تسمع إلا همساً لا يكاد يِبين عن شيء، ولا يكاد يُفصح عن شيء.
باعتبار المهنة – كصحفي وظيفته الأولى والأخيرة هي السعي وراء الأخبار وجمعها وكتابتها ونشرها – فإني مشغول بفكرة الحرية على مستويين:
المستوي الأول هو مجموع الحريات العامة التي يستمتع بها المجتمع؛ حرية الضمير، حرية الذوق والإحساس، حرية المشاعر والاختيار، حرية التفكير، حرية التعبير والتواصل والنشر، حرية التجمع والتنظيم والتعاون في نوادي وفرق وجمعيات وأحزاب، حرية المبادرة وعمل الخير طالما أن ذلك لا ينطوي على إساءة لأحد ولا ينتج عنه إضرار بمصالح الآخرين.
المستوى الآخر هو ما يختص بالمهنة الصحفية وما حولها من حقوق التفكير والتعبير والنشر والنقاش والحوار العام بكافة أشكاله ولكافة المعنيين والمهتمين سواء من المواطنين أو الصحفيين أو الاعلاميين أو الباحثين أو الاكاديميين أو الفنانين والأدباء والشعراء والروائيين والمسرحيين والسينمائيين والقانونيين والدبلوماسيين ورجال السياسة وكل من يدخلون تحت أهل الرأي والتفكير على اختلاف مشاربهم ومدارسهم وأذواقهم واختياراتهم.
فيما يخص المستوي الأول، قرأتُ عند جون ستيوارت ميل ( كتاب On liberty – إصدار المركز القومي للترجمة)، أن هذه المجموعة من الحريات هي التي تميز المجتمع الحر عن المجتمع غير الحر، فهو يقول: “ولا يكون المجتمع الذي لا تُحترم فيه هذه الحريات حراً أبداً، أياً ما كانت حكومته، فليس المجتمع حراً إذا لم توجد هذه الحريات”.
وفيما يخص المستوي الثاني، يقول: “إني آملُ أن يكون قد انقضي الزمان الذي يتطلب الأمر فيه أي دفاع عن (حرية الصحافة) كإحدي الضمانات العامة ضد الحكم الفاسد أو الطغيان، فليس من حق السلطة التشريعية أو التنفيذية أن ترسم للناس أفكارهم أو تختار المذاهب أو الحجج التي تسمح لهم بالاستماع اليها.
هذا مع استدراك لازم، بأن الحرية عند جون ستيورات ميل، ليست فقط حرية الفرد في مواجهة سلطة الحكم، ولكنها قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك، هي حرية الفرد في مواجهة المجتمع والرأي العام والتيار المسيطر والأغلبية المهيمنة، لذلك يقول: “الحرية – الجديرة باسم الحرية – هي حريتنا في العمل علي تحقيق خيرنا، بطريقتنا، مادمنا لا نحاول حرمان غيرنا من خيرهم، ومادمنا لا نعرقل جهودهم في الحصول عليه. وإذ يلحظ – في ذلك الوقت ١٨٥٩م في بريطانيا وفي العالم كله ميلاً متزايداً إلى توسيع سلطات الحكم والمجتمع على الفرد سواء بسلطة القانون أو بسلطة الرأي العام فإنه يضغط للنأكيد علي حقيقتين:
الأولي أن كل إنسان فرد عاقل ناضج مميز هو الحارس علي مصلحته وعلى نفسه بدنياً وعقلياً وروحياً.
الثانية أن الجنس البشري – وهو لا يخص مجتمعاً بذاته – يكسب بالسماح بعضه لبعض أن يعيش كل فرد وفق ارادته واختياره ومسؤوليته أكثر مما يكسب من إرغام بعضه ليعيشوا وفق إرادة الآخرين .
ثم يؤسس جون ستيوارت ميل القواعد النظرية لحرية التفكير ومعها حرية التعبير (مزدوج الكلام) فيما يلي:
رقم واحد: لو أجمع الجنس البشري كله، على رأي واحد يتفق عليه الجميع، ثم فجأة ظهر فرد واحد فقط، وخرج عن هذا الاجماع، وأعلن رأياً مختلفاً، فليس من حق الجنس البشري إسكات هذا الفرد ولا مصادرة هذا الرأي ولا إخماد هذا الصوت المختلف والمضاد للاجماع الشامل الكامل.
رقم اثنين: إخماد الرأي المنفرد خطأ في كل الأحوال، فَلَو ثبت أنه صحيح نكون قد حرمنا أنفسنا من الاستفادة منه والرجوع اليه لتصويب ما عندنا من خطأ، ولو ثبت أنه خطأ نكون قد استفدنا تأكيد ما عندنا من صواب بالمواجهة مع ضده ونقيضه.
رقم ثلاثة: مهما أوتينا من ملكات وقدرات مواهب ومهما بذلنا من مجهود في التحقق والتحري والإثبات لا نستطيع الجزم القاطع المانع أننا على صواب، وبالقدر ذاته لا نستطيع الجزم القاطع المانع أن غيرنا على خطأ.
رقم أربعة: حتي لو تأكدنا من خطأ الرأي فإن ذلك لايبرر لنا إخماده، فإخماده شر من إذاعته ونشره، لأن رفضنا الاستماع إلى ما نظنه خطأ إنما هو نوع من ادعاء العصمة لأنفسنا وادعاء اليقين المطلق لتفكيرنا والصواب التام لأفكارنا.
رقم خمسة: نحن نقع في تناقض غير واعي، فكلنا يقول نظرياً إنه غير معصوم وإن رأيه يحتمل الخطأ مثلما يحتمل الصواب، لكننا عملياً وواقعياً نتكلم ونفكر ونتصرف كما لو كنّا معصومين عن الخطأ وكما لو كان الخطأ من نصيب غيرنا ولا يعرف طريقاً إلينا.
رقم ستة: ادعاء العصمة لَيْس سلوكاً إنسانياً يخص الأفراد والجماعات فقط لكنه – وهذا هو الأخطر – يشمل العصور والأحقاب الزمنية، فبعض الحقب والفترات والعصور الزمنية تدعي العصمة فيما وصلت إليه من علم ورأي وأفكار وعقائد وفلسفات وتكتفي بنفسها وتنغلق على ذاتها وتتجاهل غيرها أو لا تعترف به أو تصادره وتمنعه.
وكم تسلطت بعض العصور على الناس واضطهدت المخالفين ثم جاءت عصور لاحقة اكتشفت أنها كانت علي خطأ وأن مخالفيها الذين اضطهدتهم كانوا على صواب.
رقم سبعة: لا فرق بين الأذي الذي يصيب مجموعات كبيرة من الناس بسبب حرمانهم من حرية التفكير وحرية التعبير والأذي الذي يصيب الفرد الواحد حين يقع عليه الاضطهاد في أفكاره والتعبير عنها، لذلك الحرية لا تتجزأ، هي مبدأ عام، لا استثناءات فيه، ولا تحايل عليه، ولا التفاف حوله، وحرية الفرد الواحد هي هي في الوزن والقيمة والاحترام مثل حرية المجموع.
رقم ثمانية: إن الذي يحصن أفكارنا ويحميها ليس تخصينها ضد الرأي المخالف وليس حمايتها من خطره، لكن الذي يحصنها ويحميها بالفعل هو إتاحتها للآخرين وإباحة نقدها وتصويبها وكشف ما فيها من ثغرات وأخطاء، وبهذا فقط نستطيع التحقق والتثبت من جدارتها وإعادة النظر فيها وكتابتها وقراءتها علي نحو أكثر صواباً وترجيحاً.
رقم تسعة: مصدر كل فضيلة في الإنسان – كمفكر وككائن أخلاقي – هو أن أخطاءه قابلة للإصلاح، فلديه القدرة علي تصحيح أخطائه بالمناقشة والتجربة وليس بالتجربة وحدها، إذ يجب أن تكون هناك مناقشة لتفسير حقيقة التجربة، فالحقيقة تعجز أن تكشف نفسها بنفسها أو تصوب نفسها بنفسها أو تحكي قصتها بنفسها ولا بدمن مجهود يعرضها علي العقل حتي يكون له قول فيها.
رقم عشرة وأخيراً: الشخص الجدير بالثقة في أحكامه وأفكاره وآرائه هو الذي يحتفظ بذهنه متفتحاً لقبول النقد الموجه إلى آرائه ومواقفه، وهو الذي يعود نفسه على الاستماع إلى كل شيء يمكن أن يِقال ضده، ثم يستفيد مما هو صحيح ويفند ما هو خطأ لنفسه وللآخرين، وهو الذي يدرك أن السبيل الوحيد الذي يستطيع بِه بشر أن يقترب من الحقيقة هو الاستماع إلى كل ما يقال عنها وحولها من أشخاص لهم آراء مختلفة، فليس هناك حكيم اكتسب الحكمة إلا بهذه الطريقة.
اقرأ أيضا: