تحوّلت أفريقيا خلال السنوات الماضية إلى مسرح للصراع السني الشيعي يمثل طرفاه (السعودية وإيران) باعتبارهما قائدتين للمذهبين الإسلاميين. وتشكّلت أطر هذا الصراع عبر ظواهر ثقافية ودعوية واقتصادية، ثم لمَّا زاد تخوم السياسية بدت مناوشات اقتصادية علنية بين الطرفين.
التواجد السعودي ذات الوجه الديني بدأ بمحاولة لمقارعة تيار التصوف الذي تمدد في دول أفريقية. ثم ما لبث أن تحوّل إلى خطة قوامها الرئيس طرد الوجود الشيعي من المنطقة. وذلك بعدما بدا واضحًا أن إيران رأت في القارة السمراء أرضًا خصبة لزراعة أهدافها الدينية، ومن ثم الاقتصادية والسياسية.
الاختراق الدبلوماسي الإيراني بدا في أشد مراحل الوضوح عام 2010. حين استضافت طهران القمة الإفريقية الإيرانية، وشاركت فيها نحو 40 دولة أفريقية. تلا ذلك حضور على المستوى الاقتصادي والتجاري الثقافي والسياسي، انتهت بفتح سفارات إيرانية في أكثر من 30 دولة.
في 2015، أفاد تقرير لمركز الجزيرة بأنّ السعودية أنفقت حوالي 84 مليار دولار لدعم أنشطة ذات توجه ديني ودعوي. في المقابل استطاعت إيران تحويل 7 ملايين مسلم في منطقة الساحل وغرب القارة من المذهب السني إلى الشيعي الاثني عشري.
المحاولات الإيرانية تستهدف تصدير الثورة والمذهب الشيعي للاستفادة من إمكانات تلك البلاد لتقليل تأثير العقوبات الدولية. لذلك اتسم التوغل الإيراني بخطوات منظمة ومدروسة، على نقيض السعودية التي اعتمدت سياسةً مفتوحةً تقوم على إرسال الدعاة وبناء المساجد.
محددات التنافس المذهبي
واحدة من العوامل التي ساعدت في بنية الصراع المذهبي، هو طغيان التصوف في بعض الدول الأفريقية لاسيما السنغال. وهو ما استغلته إيران جيدًا، حيث التشابه بين وجود مرجع شيعي وبين شيخ الطريقة الصوفية. فضلا عن أوجه التشابه في المناسبات والأعياد وبعض الطقوس الدينية. الأمر نفسه بالنسبة لدعوة السنية السلفية التي تبنتها السعودية انطلاقًا من مذهب محمد بن عبدالوهاب.
بدأ التوغل الإيراني عبر ثلاث قنوان رئيسية لنشر المذهب الشيعي في أفريقيا، أولها قناة دينية تتمثل في بناء المساجد. والثانية اجتماعية تتمثل في بناء المؤسسات الخيرية، خاصة في بلدان تعاني للبقاء على قيد الحياة. والثالثة قناة تعليمية تتمثل في بناء المدارس والجامعات، وهي المرحلة الأخطر والأهم لبلورة جيل جديد يؤمن بالمذهب الشيعي.
في المقابل، كان السعودية سابقة بهذه الآليات الثلاثة، لكنّها لم تكن في بادئ الأمر موجهة ضد المذهب الشيعي بقدر أنها كانت تخلق جيلاً من أهل السنة يلتف حول مركز العالم الإسلامي (السعودية). ثم لاحقًا بدأ الخطاب يتحول إلى التحذير من التشيع وبيان ضلالية أتباعه.
الحضور السعودي اعتمد في أغلبه على الجانب التنموي، بتمويلات بلغت ملايين الدولارات. وفق تصريحات رسمية بعضها جاء على لسان وزير الدولة للشؤون الأفريقية بالمملكة أحمد قطان، الذي قال إن السعودية تبرعت عام 2017 بنحو 100 مليون دولار، لمكافحة التنظيمات الإرهابية ودعم التنمية والاستقرار في دول الساحل الأفريقي.
وقال إن مركز الملك سلمان للأعمال الإنسانية قام بتخفيف معاناة من تعرضوا للعمليات الإرهابية في هذه الدول. كما قدم الصندوق السعودي للتنمية منذ إنشائه القروض لإقامة المشاريع الإنمائية في دول الساحل الأفريقي، وتجاوزت المليار دولار.
هنا يمكن بلورة الاختراق السعودية من زاوية التنمية التي تكسب من خلالها ولاء مناطق بعينها، بينما اهتمت إيران إلى حد كبير- بجانب الحضور التنموي- بالجانب التعليمي والتثقيفي، الذي يهدف مباشرة إلى تحقيق هدف انتشار المذهب الشيعي.
السعودية و”الدبلوماسية الدينية”
اعتمدت السعودية على “الدبلوماسية الدينية” باعتبارها وسيلة ذات تأثير قوي. ويمكن ملاحظة ذلك في جيبوتي بعد الحرب الأهلية العرقية (1991-1994)، وقتها أصبح الإسلام رمز الوحدة الوطنية. وخضع دستور البلاد لعمليات تعديل تأسيسًا على ذلك البعد الديني.
هذا التطور الذي سمح ياستعمال الإسلام كقضية سياسية من طرف الحكومة بتجاوز الصراعات القبلية للحرب الأهلية. سهَّل على الدول الأجنبية إمكانية استثمار الحقل الديني. ومنذ وقتها أصبحت السعودية على تواصل مباشر مع السلطات الدينية لجيبوتي. وبعدها جرى إنشاء وزارة للشؤون الدينية والأوقاف بعد أن كانت مجرد إدارة تابعة لوزارة العدل.
أما إيران فبدأ التحول في علاقاتها الأفريقية مع تغير نظام الحكم، من نظام الشاه الملكي الموالي للغرب إلى الجمهورية الإسلامية. وهي نظام ثيوقراطي السلطة فيه لرجال الدين. ثم تبلورت الاستراتيجية السياسية في الجمهورية الجديدة ذات الطموح الإمبراطوري. ووجدت في الفضاء الأفريقي ما يغريها بالقيام إلى الدعوة إلى المذهب الشيعي في نوع من ما يمكن تسميته بالتبشير الإسلامي. ذلك أن أحد مرتكزات الاستراتيجية السياسية لإيران القيام بتحفيز المؤمنين بالمذهب الشيعي إلى العمل لصالحها، بتعبير آخر تحويل الشيعة إلى أداة سياسية وعسكرية في استراتيجيتها على النحو الذي نراه في لبنان واليمن.
إيران و”استراتيجية الجهاد البحري”
وفي هذا كان لابد أن تصطدم بالمؤسسات الدعوية السنية التي تقف ورائها السعودية، ما بدا واضحًا في غرب وشرق القارة. حيث يكثر عدد المسلمين، وفي الوقت نفسه تحتوي هذه المناطق على فرص اقتصادية واعدة، ومواد خام رخيصة. بالإضافة إلى بعض المعادن التي تحتاج إليها إيران في مشروعها النووي كاليورانيوم، والتي بالفعل قامت بعض الدول بمدها به.
أما شرق القارة ودول القرن الأفريقي فيكتسب أهمية كبرى في هذا الصراع، إذ تسعى إيران إلى تحقيق ما تتطلق عليه “استراتيجية الجهاد البحري”. وتعني نقل الصراع من مضيق هرمز، إلى دول القرن الأفريقي، وهذا ما يفسر دعمها للحوثيين في اليمن. ولأجل ذلك أنشأت قاعدة عسكرية في ميناء “عصب الإريتري”.
كما طورت فكرة مصفاة البترول الإيرانية في إرتيريا، وهو ما قد يؤدي لكسب حلفاء في أي تصويت بالأمم المتحدة. وقد ساهم في زيادة نفوذها في هذه المنطقة النزاعات الحدودية بين بعض الدول كإرتريا وإثيوبيا. وهي تهتدف إلى تعميق هذا النفوذ حتى يمكنها ذلك أن تكون متواجدة على مقربه من الممرات البحرية، تحسبًا لأي تحرك عسكري قد يهدد مصالحها.
أدوات التمذهب
وتستخدم الدولتان المتنافستان -السعودية وإيران- أدوات مختلفة في هذا الصراع، بمحاولة ضم المواطنين الأفارقة إلى هذا المذهب أو ذاك. فكل منهما تدعو إلى المذهب الذي تعتبر نفسها ممثلة له من خلال العمل الدعوي والثقافي والتعليمي والاقتصادي.
فعلى المستوى الثقافي والتعليمي تحاول إيران استقطاب العديد من الشباب داخل هذه الدول وتوفر لهم منحًا دراسية في جامعاتها. لكي يعودوا إلى بلدانهم مشبعين بالأفكار التي درسوها، ومن ثّم يعملون على نشرها. وفي هذا الإطار تلعب السفارات الإيرانية من خلال الملحقين الثقافيين دورا كبيرا، وذلك بدعم الجمعيات والأنشطة الثقافية المعنية بالثقافة الإيرانية، للتأثير على الفئات الفقيرة والمهمشة، خاصة أن نسبة الفقر في أفريقيا تزيد عن 36%.
وبالتالي يكون التركيز الدعوي على الفئات الأقل دخلًا والأقل وعيًا والأكثر سهولة في تلقي الأفكار وتبنيها. ففي دولة مثل نيجيريا والتي تزيد نسبة الفقر فيها على 40% زاد عدد المتحولين فيها إلى المذهب الشيعي زيادة ملحوظة.
في المقابل، تمتلك السعودية استراتيجية مضادة، فتقوم بعقد الملتقيات كـ “ملتقي خادم الحرمين الشريفين لخريجي الجامعات السعودية من أفريقيا” والذي يعقد في دول أفريقية مختلفة. وفي إحدى دورات الملتقى والذي عقد حينها في نيجيريا بحضور 121 مشاركًا يمثلون 38 دولة أفريقية ممن حصلوا على تعليمهم العالي في إحدى الجامعات السعودية، طالب المجتمعون بأن تقتدي جميع المؤسسات التعليمية الأفريقية بمراحلها المختلفة، بالمنهج الذي تنتهجه السعودية في مجال التعليم الإسلامي. كما تمت التوصية بإنشاء رابطة لخريجي الجامعات السعودية من طلاب المنح في الدول المختلفة. ليتسنى لهم استكمال مسيرتهم في التواصل والتعاون وانتشار الدعوة. في هذا الإطار تشير التقديرات إلى أن المذهب السني سيظل يشكل الغالبية العظمى من المسلمين.
أبعاد سياسية واقتصادية
أما على المستويين الاقتصادي والسياسي، فإن الاقتصاد والسياسة، يلعبان دورًا هامًا في هذا الصراع. فكلما زاد حجم العلاقات الاقتصادية ذات الأبعاد السياسية، ساهم ذلك في انتشار الإسلام بشقيه السني والشيعي. وبالتالي ساهم، بطبيعة الحال في تحقيق مكاسب سياسية لكلتا الدولتين.
وهذا ما يتضح من تركيز الدولتين على مناطق بعينها، كمنطقة شرق وشمال غرب القارة وهي المناطق ذات الأكثرية المسلمة. في حين كلما اتجهنا جنوبًا يتضاءل الوجود الإيراني الاقتصادي والسياسي، وذلك لانخفاض عدد المسلمين في دول وسط وجنوب القارة. كما أنه في ظل العقوبات الاقتصادية التي تتعرض لها إيران بشكل متلاحق، فإنها تحاول فتح آفاق لعلاقات اقتصادية أخرى تساعدها في خططها الاستراتيجية.
وفي ظروف العقوبات الاقتصادية على إيران، فإنها تحاول البحث عن سبل جديدة، وتسعى إلى إقامة علاقات اقتصادية مع الدول الأفريقية. وقد أصبحت أكبر مصدر للسلاح إلى السودان، بالإضافه إلى أنها أهم مصدر للنفط إلى كينيا. واستكمالاً للتحايل على الحصار الدولي عليها قامت بتنويع صادراتها النفطية، باستخدام آلية المساعدات المتمثلة في بناء مشروعات البنية التحتية للطاقة. وتجديد مصافي النفط، وبناء محطات توليد الكهرباء وتقديم الخبرات التكنولوجية في مجال الطاقة النووية.
يمكن هنا الإشارة إلى أن أفريقيا قامت بمد إيران بشحنات من اليورانيوم المستخرج من مناجم ناميبيا ومالاوي والنيجر. كما امتدت شبكة علاقات إيران داخل جنوب إفريقيا فقامت شركة “إيرانسل” الإيرانية بتوقيع عقد معها. وفي المقابل تم عقد شراكة بين شركة الاتصالات “أم تي إن” الجنوب أفريقية وإيران، فضلًا عن حجم التبادل بينهما والذي قدر بـ 100 مليون دولار. كما تصدر إيران ما يقرب من 40% من احتياجات جنوب أفريقيا من النفط.
تبادل الولاءات
وبطبيعة الحال ساعدت هذه العلاقات الاقتصادية على الترويج للمذهب الشيعي، وبالتالي أصبح لإيران أكثر من 20 مركزا شيعيا. وكثيرا ما صوتت جنوب أفريقيا لصالح إيران داخل الأمم المتحدة. مما يبرز تأثير الاقتصاد والنشاط الدعوي الإيراني من أجل تحقيق مكاسب سياسية.
في المقابل أنشأت السعودية أكثر من 200 مسجد في جميع أنحاء السنغال. وفور بدء حرب اليمن، إذ أرسلت السنغال 2000 جندي إلى المملكة السعودية.
وإذا كانت السعودية قد ضمنت ولاء السنغال، فإن نيجيريا تعتبر النسخة الإفريقية من إيران، حيث تحتوي وحدها على 5 ملايين شيعي من أصل 7 مليون شيعي في إفريقيا كلها. لذلك دعمت السعودية حركة “إقامة السنة وإزالة البدعة” التي أسسها أبو بكر جومي، ممثل نيجريا في رابطة العالم الإسلامي. وتلقت الحركة التي أطلق عليها حركيا “إزالة” دعمًا من المملكة السعودية.
كما لاحظة مجلة إيكونوميست البريطانية هذا التنافس، في تقرير سلّط الضوء على مواجهة أعمق من تلك الظاهرة على الملأ. بطلها مسرح القرن الأفريقي الذي يعتبر ظهيرًا خلفيًا لصراع الطرفين. كما أقامت إيران واستأجرت قواعد عسكرية على ساحل القرن الأفريقي، بحسب تقرير استقصائي لمعهد ستوكهولم. وهو ما شكّل لاحقًا نقطة قوة لدى مواجهتها دول الخليج السنية.