طرحت أزمة سد النهضة على المسرح السياسي معضلة الاختلاف الإثني بين العرب والأفارقة، والتي غالبًا ما يتم استخدامها غربيًا وإسرائليًا لكسر تداخل تاريخي بين العرب والأفارقة، قام بتجسيره الدين الإسلامي حين انتشر في إفريقيا تاريخيًا، حيث أصبح ثلثي عرب العالم هم أفارقة، كما كانت القارة ممراً سلكه الإسلام والعرب إلى أوروبا عن طريق شبه جزيرة إيبرية وجزيرة صقلية وجزر البحر المتوسط الأخرى، ونقلوا إليها أسس الحضارة والمعرفة مباشرة أو بطريق غير مباشر.

وقد اقتضت المصالح الغربية الاستعمارية تقسيم القارة بين شمال وجنوب حتى يسهل استجلاب الموارد، بينما تمركزت المصالح الإسرائيلية في توظيف تخوم المنطقة العربية مثل إثيوبيا كمخلب قط في الخاصرة العربية منذ منتصف الخمسينيات،حيث كان الهدف الإسرائيلي وما زال إضعاف الطوق العربي المحيط بها حتى تستطيع أن تتنفس وتعيش في محيط معاد.

اقتضت المصالح الغربية الاستعمارية تقسيم القارة بين شمال وجنوب حتى يسهل استجلاب الموارد، بينما تمركزت المصالح الإسرائيلية في توظيف تخوم المنطقة العربية مثل إثيوبيا كمخلب قط في الخاصرة العربية منذ منتصف الخمسينيات

في هذا السياق، يتم توظيف مسألتين ضد التداخل العربي الإفريقي، الأولى هي الاختلاف الإثني، والثانية هي موروثات مرحلة العبودية، والتي كان دور العرب فيها هامشيًا، مقابل الأدوار التي لعبتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة في الاستجلاب والاستعباد في أوساط أبناء القارة.

في هذا السياق، شهدنا تصنيف اللجوء المصري السوداني المشترك إلى الجامعة العربية بأنه استقواء ضد إِثيوبيا، بل أعطت أديس أبابا نفسها الحق في إصدار بيان يدين تدخل الجامعة العربية في أزمة تخص الأمن الإنساني لإثنين من أعضائها، وذلك بهدف استعداء النطاق الإفريقي ضد دولتي وادي النيل من منطلق  وجود المكون العروبي في هويتهما، والذي يستحضر في الذاكرة الإثيوبية مسألة العبودية، حيث ممارسة إثيوبيا بذلك عنصرية السود ضد الآخر المختلف.

ولعل ما ساهم بشكل فعّال في تمرير الممارسات والمقولات الإثيوبية هي حالة التراجع في العلاقات العربية الإفريقية على مدى العقود الأربعة الأخيرة، وهو التراجع الذي بات مؤثرًا على مجمل المصالح الاستراتيجية للأطراف أصحاب العلاقة، وذلك بتجاهل المحددات الجيوسياسية لهذه المنطقة من العالم وأيضًا المتغيرات الاقتصادية.

في المسألة الأولى نستطيع أن نتحدث عن أمرين: الأول هو طبيعة التداخل والتقارب الجغرافي العربي الإفريقي، فخلق ذلك فضاءً استراتيجيًا مشتركًا، وتواصلاً حضاريًا فعالا، حيث تتوسّط إفريقيا قارات العالم القديم، فموقعها جغرافي/ استراتيجي متّصل بالبحر الأحمر والخليج العربي، أما الوطن العربي، فيمتدّ بين قارات ثلاث، ممسكًا بأهمّ المضائق البحرية والممرات المائية، إذ يبلغ طول السواحل العربية 12000 كلم، تفرض نفسها على التجارة العالمية. كما أن شمال إفريقيا وغرب الوطن العربي يؤثران في أمن البحر الأبيض المتوسّط وخطوطه التجارية (مضيق جبل طارق)، بالإضافة إلى تأثيره على المداخل الشمالية من قناة السويس، بما يجعله محددًا لأمن البحر الأحمر وخطوطه التجارية..وأخيرًا فإنّ الأمن العربي والأمن الأفريقي يُشكلان مظلّة أمنية واحدة للقرن الإفريقي، بفضل موقع الصومال وجيبوتي المطلّة سواحلهما على البحر الأحمر وخليج عدن، والبحيرات الكبرى.

ظهرت محاولات عربية متعثرة لاستعادة قوة الدفع العربى الإفريقي على وقت التحرر الوطنى فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ومن هذه المحاولات آلية القمة العربية الإفريقية التي عُقدت في سرت عام 2010 وبفارق أكثر من ثلاثة عقود عن قمة القاهرة 1977

وقد ظهرت محاولات عربية متعثرة لاستعادة قوة الدفع العربى الإفريقي على وقت التحرر الوطنى فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ومن هذه المحاولات آلية القمة العربية الإفريقية التي عُقدت في سرت عام 2010 وبفارق أكثر من ثلاثة عقود عن قمة القاهرة 1977، فضلاً عن  قمتين اقتصادتين تم عقدهما في الكويت، وأخيرًا قمة ملابو في غينيا الاستوائية بنوفمبر 2016، وذلك وسط متغيرات تجعل هناك إرادة نسبية من الجانبيين تعزز استهداف شراكة عربية إفريقية  في المستوى المنظور، وتبدو دوافع تأسيس شراكة عربية إفريقية مرتبطة بعاملين، الأول تصاعد وتيرة الصراع والعنف في شرق ووسط إفريقيا بكافة أنواعه المؤسسة، إما على عوامل الانقسام الكلاسيكية لعوامل عرقية أو دينية أو ثقافية فضلاً عن القبلية، أو مستجدات الصراع الدولي وأخيرًا تصاعد حدة الإرهاب، أما العامل الثاني لتأسيس هذه الشراكة هو ما يرتبط من المستجدات الاقتصادية الإفريقية والتي جعلتها مكانا للحصول علي الموارد، وجني الأرباح.

قمة سرت
قمة سرت

البيئة الصراعية في إفريقيا

تشهد إفريقيا تاريخيًا صراعاً مؤسسًا على الانقسامات العرقية أو الدينية.. الخ وتشهد حاليًا صراعات المصالح الدولية، وكذلك التهديدات الأمنية لبنية مؤسسة الدولة في إفريقيا والمترتبة على اتساع ظاهرة الإرهاب في الفضاء العربي الإفريقي المشترك.

والمفارقة هنا أنَّ هذه البيئة الصراعية أصبحت من عوامل دعم الشراكة العربية الإفريقية بعد أن كانت في الماضي القريب من عوامل التباعد العربي الإفريقي،تحت مظلة عدم الاستقرار السياسي في إفريقيا، والذي كان عاملاً طاردًا للاستثمارات العربية في الدول الإفريقية.

وقد لعبت الصراعات الدولية والإقليمية أدورًا متنوعة فى تفكيك أحد عناصر الهوية الجامعة للأفارقة وهو الدين الإسلامي، ووضعت في هذا السياق استرايجيات محددة فى نهاية القرن التاسع عشر لفصل إفريقيا شمال الصحراء عن جنوب الصحراء، على أسس عرقية بين العربية والإفريقانية، كما انتشرت الأدبيات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية؛ لوضع أسس الفصل في الأدبيات السياسية, غير أنّ مشروع التحرر الوطني من الاستعمار بقيادة جمال عبد الناصر استطاع تجاوز هذه الاستراتجيات الغربية، بل وتطويقها بإعلان منظمة الوحدة الإفريقية وتدشينها عام 1963, وقد انتبه الآباء المؤسسون للمنظمة من خطورة إعادة رسم خريطة القارة الإفريقية بما تتضمنه من مخاطر الحروب الأهلية فدشنوا قاعدة الحفاظ على الحدود الإفريقية كما وضعتها الدول الاستعمارية.

ملامح المشهد التعاوني للعلاقات العربية الإفريقية شهد متغيرات مهمة فى أعقاب مؤتمر مدريد 1991 لمفاوضات السلام بين العرب والإسرائليين، إذ تم ممارسة نوع من أنواع التخلي العربي عن الأفارقة

وبالفعل شكلت هذه الكتلة الإفريقية ضهيرًا سياسيًا أساسيًا للحقوق العربية ككتلة تصويتية في المحافل الدولية تزيد قوتها عن خمسين دولة، حيث ساندت مجمل المواقف العربية من السياسات العنصرية والاستعمارية والاستيطانية لإسرائيل, كما كانت هذه الكتلة مساندًا أساسيًا  لحروب مصر ضد إسرائيل، خصوصًا حرب 1973 التي التزمت فيها الدول الإفريقية بمقاطعة إسرائيل دبلوماسيا، وفي المقابل كانت الكتلة العربية فاعلة في المساهمة بتضييق الخناق على النظام العنصرى بجنوب إفريقيا.

ملامح المشهد التعاوني للعلاقات العربية الإفريقية شهد متغيرات مهمة فى أعقاب مؤتمر مدريد 1991 لمفاوضات السلام بين العرب والإسرائليين، إذ تم ممارسة نوع من أنواع التخلي العربي عن الأفارقة بتأثير عاملين، الأول تقدير عربي خاطئ بأنّ الصراع العربي الإسرائيلي فى طريقه للحل، وبالتالي فإن الحاجة إلى الأفارقة كورقة ضد إسرائيل وككتلة تصويتية في المحافل الدولية قد انتفت.  أما العامل الثاني فهو تحولات النظام السياسي المصري وتخليه عن ثوابته الاستراتيجية التي حددها ميثاق ثورة يوليو في دوائر عربية وإسلامية وإفريقية, بل وإعادة النظر في مجمل الأدوار الإقليمية المصرية طبقًا لقاعدة التكلفة والعائد، حيث اتسم هذا التحول بالقصور المعرفي بالضرورات الاستراتيجية المرتبطة بالتعاون االعربى الإفريقي.

مؤتمر مدريد
مؤتمر مدريد

وفي هذا السياق، نجح المدخل الثقافي الإسرائيلي لإفريقيا الذي يعد أخطر المداخل على الإطلاق، لأنه مؤسس على أن اليهود والأفارقة قد عانوا اضطهادًا وتمييزًا عنصريًا، وأن المعاناة الإفريقية  هي على يد العرب على وقت تجارة الرقيق في إفريقيا.

وقد بلور الإسرائيليون هذه الأطروحة فيما يُعرف بمشروع الأخدود الأفريقي العظيم في يونيو/ حزيران 2002، والذي تم طرحه أمام لجنة التراث العالمي باليونيسكو،  وهو مشروع يهدف إلى التعاون الثقافي بين الدول التي تشكل الأخدود الممتد من وادي الأردن حتى جنوب أفريقيا.

ويبدو الغرض الرئيس لهذا المشروع هو الدفع نحو الاعتقاد بأن سياسة إسرائيل في أفريقيا مستهدفة مساعدة الأفارقة (الزنوج) على قاعدة الاضطهاد المشترك التي يعود أصلها إلى تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية، الذي قال في كتابه “وطن قومي” إن لليهود والأفارقة تاريخ مشترك من الاضطهاد, وذلك في سياق طرح أوغندا ضمن خياراته التي تفاوض عليها لإنشاء الوطن القومي اليهودي.

وقد طورت إسرائيل استراتيجية لبن جوريون اعتبارًا من التسعينيات، كما يقول موشى فيرجى العميد السابق في جهاز الموساد الإسرائيلي على يد فريق من الخبراء العاملين في مناطق المحيط العربي، منهم أورى لوبرانى سفير إسرائيل فى كل من تركيا وإيران وإثيوبيا ويهوديت رؤتين المتخصصة في السودان وشرق إفريقيا, حيث طورت هذه الاستراتيجية خط بن جوريون من خلق الأزمات داخل الدول العربية إلى دفع الجماعات الإثنية الموجودة على التخوم العربية إلى الانسلاخ والانفصال وإقامة كياناتهم الإثنية المستقلة.

الخسائر العربية الاسترايجية فى هذا السياق مرتبطة بتصاعد الوزن النسبي للمكون الإسرائيلي في صناعة القرار بمنطقة القرن الإفريقى وحوض النيل والبحر الأحمر

وقد حقق تطبيق هذا التجديد الإسرائيلي المدعوم دوليًا نجاحاً كاملاً في الحالة السودانية بفصل جنوب السودان، وهو تطور وسع مساحات الصراع المسلح في شرق إفريقيا مع تصاعد مخاطر امتداد هذا الصراع نحو كل من إثيوبيا وأوغندا، فضلاً عن وجود إمكانات جدية لمزيد من الشرذمة للدولة السودانية بوجود معضلتي دارفور وشرق السودان, على أنه من الضروري الإشارة هنا إلى أنّ المخططات الإسرائلية لم تكن لتنجح إلا نتيجة فشل نخب الاستقلال الوطني في السودان في مواجهة التحديات الداخلية, من خلال أمرين عدم بلورة متطلبات المصالح الاستراتيجية السودانية فى إطار مؤسسة الدولة على مدى النصف قرن الماضى, والفشل فى إدارة التنوع العرقي والديني والثقافي السوداني، والذي كان منطويًا على إمكانات تدعيم مصادر القوة الشاملة للدولة في حال الوعي بتوظيفه.

وتبدو الخسائر العربية الاسترايجية فى هذا السياق مرتبطة بتصاعد الوزن النسبي للمكون الإسرائيلي في صناعة القرار بمنطقة القرن الإفريقى وحوض النيل والبحر الأحمر، بما يجعل المصالح الخليجية المرتبطة بالنفط والاستثمار الزراعي في إفريقيا تواجه على المدى القصير والمتوسط معوقات متفاوتة القوة والتأثير، فضلاً عن إفراز واقعًا سلبيًا ومهددًا للأمن الإنساني لدولتي وادي النيل ممثلاً في سد النهضة.