باءت بالفشل كل جهود عازف العود المتجوِّل لفهم ما يعنيه مفهوم “مصالح الدولة العليا”، حتى ظن أنّ الدولة نفسها لا تعرفه على وجه الحصر والتحديد، لكنّه ما زال يطمح إلى معرفة ما يعنيه مفهومي: “النظام العام والآداب”، وما سيلي سيُخصص لبحث” النظام العام”، على أن يبحث “الآداب” في وقت لاحق.
هناك ثلاثة قوانين رئيسية تحدد العلاقة بين الفنان والسلطة (الإدارة)، وهناك- بالطبع- قوانين وقرارات أخرى عديدة هامة، وثانوية، وتفصيلية، لكن القوانين الثلاثة هي “الحاكمة”.
ظهر مصطلح/ مفهوم “النظام العام” لأول مرة في المادة 10 من “لائحة التياترات“، الذي أصدرتها نظارة الداخلية في 1911، وهذا نصها: “ممنوع ما كان من المناظر أو التشخيص أو الاجتماعات مخالفًا للنظام العام والآداب، وللبوليس الحقُّ في منع ما كان من هذا القَبِيل وإقفال التياترو عند الاقتضاء”.
ثم عاود الظهور في المادة 1 من القانون رقم 430 لسنة 1955، وهذا نصها: “تخضع للرقابة الأشرطة السينمائية ولوحات الفانوس السحري والمسرحيات والمنلوجات والأغاني والأشرطة الصوتية والاسطوانات أو ما يماثلها وذلك بقصد حماية الآداب العامة والمحافظة على الأمن والنظام العام ومصالح الدولة العليا”.
وكان ظهوره الثالث، المستمر معنا حتى اللحظة، في المادة الخامسة من القانون رقم 38 لسنة 1992، وهذا نصها: “تخضع للرقابة المصنفات السمعية والسمعية البصرية، سواء كان أداؤها مباشرًا، أو كانت مثبتة، أو مسجلة على أشرطة، أو أسطوانات، أو أي وسيلة من وسائل التقنية الأخرى، وذلك بقصد حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا”. وقد عاودت كلمة “النظام” الظهور، بصورة عابرة، مجردة من وصف “العام”، في صورة أقرب للكوميديا السوداء خلال عامي 2012- 2014.
*********
نظرة سريعة على ترتيب “النظام العام” في القوانين الثلاثة، يخبرنا بأنّ قانون 1955 كان “فلتة”، لأنه جعل الثنائي “النظام العام والآداب” رباعيًا، بإضافة الأمن ومصالح الدولة العليا، وملاحظ كذلك أن الـ”لائحة” تتحدث عن “مخالفة”، أما قانون 1955 فيتحدث عن “حماية” للآداب (العامة) و”محافظة” على الأمن (أولاً)، ثم يأتي “النظام العام”، ثالثا وأخيرًا الوافد الجديد الذي يجُب وقعه الصوتي أي شيء آخر، ولهذا فيبدو أن ذلك القانون كان قطيعة مع “لائحة التياترات”، وتأسيسًا لما جرى من وقته، حتى اللحظة. فـ”الحماية” تجري على شيء “ثمين”، لذلك كان تقديم “الآداب العامة” مداعبة لمشاعر مفهومة، لكنها تخفي الأهم “الأمن”، والحماية بدورها تجري من “القوي” على “الضعيف”.
بنية الـ”لائحة” القانونية، منطقية، ومنضبطة إلى حد ما، فموادها الـ 15، مقسمة لثلاثة أقسام: عن الترخيص، عن التفتيش، إجراءات لحفظ النظام والأمن. الترخيص (ستة مواد) وهي متعلقة بمسائل إجرائية، محصورة في قضايا السلامة العامة: “ما يجب اتخاذه من التدابير المتعلِّقة بالبناء، وكذلك التنسيقات والإنارة، وعلى الخصوص الاحتياطات اللازمة لمنع الحريق وحصره وتسهيل الخروج للعموم عند حدوثه.. شروط تشغيل المحل والاحتياطات التي يلزم اتخاذها للوقاية من الحريق، خصوصًا فيما يتعلق بالتحقق من صيانة الجرادل والطلمبات والمواسير وأدوات المرسح (كالستائر والحبال والمسالك المؤدِّية إلى المرسح) ومن مساعدة رجال المطافئ والتحقق عمومًا من كفاءة جميع الاحتياطات التي صار تقريرها.
والتفتيش (مادتان) يقوم به “قومسيون التياترات”، ويؤكد تشكيله أن مهامه متصلة بالأساس، بمسائل البناء والسلامة، فهو “يتألف من الرئيس، وهو حكمدار البوليس، ومن الأعضاء، وهم: مفتِّش صحة المدينة، ومهندس كهربائي من نظارة الداخلية، ومهندس معماري من إحدى مصالح الحكومة أو من المجالس البلدية، ومأمور القسم الواقع التياترو ضمن دائرته”.
إجراءات حفظ النظام والأمن بدورها منشغلة بالأساس بالسلامة العامة وبالتنظيم، وبترسيخ قواعد الفرجة على النمط “الحديث/ الأوروبي”، فممنوع: المكوث في الممرَّات المخصصة للمرور أو وضْع الكراسي فيها، (و) التدخين.. في غير المحلات المُعدَّة لذلك، (و) الضوضاء وكل ما مِن شأنه التشويش على التمثيل.
أما في حال مخالفة إجراءات حفظ النظام والأمن وعدم الاستجابة للتقرير المقدَّم من قومسيون التياترات فللسلطة المحلية إصدار الأمر بإقفال التياترو مؤقتًا. وفي حالة وجود خطر مداهم فللسلطة المحلية إصدار الأمر بتعطيل التشخيص، وفي حال كان الأمر متعلق بالجمهور فـ”للبوليس” في حالة حصول شيء من التشويش (التمثيل) طرْدُ المسبِّب له.
وماذا لو طالت المخالفة “النظام العام والآداب”؟. بحسب المادة 10 “للبوليس الحقُّ في منع ما كان من هذا القَبِيل وإقفال التياترو عند الاقتضاء”.
لننظر، الآن، لعقوبات مخالفة قانون 1955، حيث نجد عقوبات “الحبس، والغرامة، والمصادرة”، والتي تطال: “كل من صور شريطًا سينمائيًا بقصد الاستغلال بدون ترخيص..(و) كل من عرض..(و) كل من وزع المصنف ومستأجره ومدير المكان العام الذي عرض به.
وفي تبيان “المكان العام” تذكر المادة الخامسة عشرة من القانون رقم 38 لسنة 1992، أنه “كل مكان يرتاده مجموعة من الأفراد دون تمييز سواء كان بشروط معينة أو بدون شروط وسواء كان بمقابل أو بدون مقابل. ويعتبر في حكم الأمكنة العامة المقاهي وما يماثلها والنوادي الاجتماعية والرياضية والفنادق ووسائل المواصلات العامة.
الإبانة، التي فصلها القانون الساري حاليًا، هي التي دفعت بعازف العود المتجول إلى هذه الدوامة، التي يتخبط فيها، ويأمل أن ينجو منها.
***********
متمسك عازف العود المتجول بالأمل في أن يجد في التراث القانوني والقضائي ما يعينه، فجمع بضع مطبوعات، وراح يبحث فيها.
بدأ بهذا العنوان: “الحكومة المصرية، وزارة العدل، القانون المدني، مجموعة الأعمال التحضيرية”، ثم ثنى بـ “الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الأول، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام”.
وفي كليهما وجد عازف العود المتجول، عبد الرزاق السنهوري، الذي أعد مشروع القانون المدني، وقدم مذكرته الإيضاحية، وناقشها مع أعضاء مجلسي النواب والشيوخ والعديد من أساطين القانون: قضاة وأساتذة جامعات وفقهاء قانون وخبراء، ودافع عنه، حتى تم إقراره في 16 يوليو 1948، يتناول بالشرح التفصيلي “النظام العام”.
ذكر السنهوري في المذكرة الإيضاحية ما يأتي: “ويلاحظ أن فكرة النظام العام فكرة مرنة جداً… ومهما يكن من أمر فليس في الوسع نبذ فكرة النظام العام دون أن يستتبع ذلك اطراح ما توطد واستقر من التقاليد. وقد رؤى من الواجب أن يفرد مكان لهذه الفكرة في نصوص المشروع (القانون المدني) لتظل منفذاً رئيسياً تجد منه التيارات الاجتماعية والأخلاقية سبيلها إلى النظام القانوني لتثبت فيه ما يعوزه من عناصر الجدة والحياة. بيد أنه يخلق بالقاضي أن يتحرز من إحلال آرائه الخاصة في العدل الاجتماعي محل ذلك التيار الجامع للنظام العام أو الآداب. فالواجب يقتضيه أن يطبق مذهباً عاماً تدين به الجماعة بأسرها لا مذهبا فردياً خاصاً”.
في “الوسيط” يؤكد السنهوري أنه “لا توجد قاعدة ثابتة” تحدد “النظام العام” تحديداً مطلقاً يتمشى على كل زمان ومكان، لأن النظام العام شيء نسبي
وفي “الوسيط” يؤكد السنهوري أنه “لا توجد قاعدة ثابتة” تحدد “النظام العام” تحديداً مطلقاً يتمشى على كل زمان ومكان، لأن النظام العام شيء نسبي، وكل ما نستطيع هو أن نضع معياراً مرناً يكون معيار “المصلحة العامة”، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى”.
ويشدد السنهوري على أن “القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها إلى تحقيق مصلحة عامة، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد. فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية، فإن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة”.
أهم ما ذكره السنهوري في “الوسيط” فهو تأكيده على أن “النظام العام” متصل بالقانون العام، الذي ينظم روابط الأفراد بالهيئات العامة وروابط الهيئات العامة بعضها ببعض
أما أهم ما ذكره السنهوري في “الوسيط” فهو تأكيده على أن “النظام العام” متصل بالقانون العام، الذي ينظم روابط الأفراد بالهيئات العامة وروابط الهيئات العامة بعضها ببعض. وهذا التنظيم ينظر فيه إلى المصلحة العامة، فلا يجوز للأفراد أن يتفقوا على ما يتعارض مع هذه المصلحة تحقيقاً لمصالحهم الفردية.
ثم يفصل الحديث، ويذكر أن القانون العام يشمل فيما يشمله: القواعد الدستورية والحريات العامة، النظم الإدارية والمالية، النظام القضائي، القوانين الجنائية. ثم يورد أمثلة لكل فرع من هذه الفروع.
ويهمنا على الأخص ما ذكره عن القواعد الدستورية والحريات العامة، فقد ذكر السنهوري أن القواعد الدستورية من النظام العام، وكذلك الحريات العامة التي قررها الدستور فهي أيضاً من النظام العام، وذلك كالحرية الشخصية. وما يتفرع عنها من حرية الإقامة، وحرية الزواج، وحرمة النفس والحرمة الأدبية، وحرية الدين والاعتقاد، وحرية الاجتماع، وحرية العمل والتجارة. وكذلك فلكل شخص الحق في أن يجتمع مع غيره، في هيئة أو جماعة، وأن ينتمي إلى ما يشاء من الجمعيات ما دام الغرض الذي تألفت من أجله هذه الجمعيات مشروعاً. وأكثر ما يطبق هذا المبدأ في حالة نقابات العمال، فلكل عامل الحق في الانضمام إلى النقابة التي يختارها، وهو حر كذلك في ألا ينضم إلى نقابة ما. على أنه قضى بصحة اتفاق تعهد صاحب العمل بمقتضاه ألا يستخدم من العمال إلا من كان منضمًا إلى نقابة، فتقيدت بذلك حرية العامل على نحو ما في أن يبقى بعيداً عن النقابات.
كتب السنهوري مقدمة الوسيط في أبريل 1952، وبعدها بنحو ثلاثة أشهر قامت مجموعة من ضباط الجيش بـ”حركة مباركة”، لم يستنكف السنهوري عن تأييدها، ثم أضحت “الحركة” عبر عدد من القرارات والإجراءات “ثورة”، ظل السنهوري مواكبًا لها، حتى حدثت واقعة اقتحام مجلس الدولة، الذي كان يرأسه، وتم الاعتداء عليه، ضمن ما عرف بأزمة مارس 1954 (أزمة الديمقراطية) فخرج السنهوري تمامًا من الحياة العامة، وظل قابعًا في الظل إلى وفاته.
في السنوات الأربع كان “النظام العام” قد تعرض للكثير من الشروخ الهائلة، ثم التشققات التدريجية، حتى وصل إلى “نظام عام جديد” تمامًا، مغاير في الكثير من تفاصيله عما كان السنهوري يتحدث عنه.
هكذا يمكن ببساطة النظر إلى مفهوم ومصطلح “النظام العام” في قانون 1955 باعتباره “النظام العام” لضباط الجيش.
مقالات ذات صلة: