هل يؤثر الطقس على الاضطرابات السياسية والصراعات الاجتماعية؟ وهل يمكن أن يؤدي تغير أنماط الطقس إلى صراعات عنيفة وحروب؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي أشكال الصراع الاجتماعي التي يمكن أن تنشأ عن تغير المناخ وتقلب معدلات هطول الأمطار والظروف الجوية المتطرفة في المستقبل؟

على الرغم من أن المياه ضرورية للاستهلاك البشري والحيواني وللزراعة والصناعة، يفتقر الملايين في أفريقيا خصوصا جنوب الصحراء الكبرى إلى الوصول إلى المياه المأمونة والري والصرف الصحي. فوفقًا لتقرير الأمم المتحدة حول تنمية المياه في العالم يفتقر 340 مليون شخص في إفريقيا إلى مياه الشرب المأمونة، ويتم تخزين 4٪ فقط من التدفقات السنوية، مقارنة بـ 70-90 ٪ في البلدان المتقدمة، وأقل من 5٪ فقط من المساحات المزروعة مجهزة للري. ويعتمد المزارعون في كثير من الدول الأفريقية بشكل أساسي على مياه الأمطار لزراعة المحاصيل ورعاية الثروة الحيوانية وضمان الاستهلاك البشري. ويتوقع الفريق الحكومي المعني بتغير المناخ أن يفرض تغير المناخ ضغوطا إضافية على توافر المياه والوصول إليها في أفريقيا، وتشير نظريات الأمن البيئي إلى أن انحرافات هطول الأمطار، التي تُعرَّف على أنها انحرافات شديدة عن أنماط هطول الأمطار العادية، تزيد من احتمال نشوب صراع اجتماعي.

هذه دراسة هامة عن “تغير المناخ ومعدل هطول الأمطار والصراع الاجتماعي في أفريقيا“، كتبها “كولن هندريكس” و”إيديان صالحيان”، ونشرت في عدد يناير 2021 في دورية بحوث السلام (Journal of Peace Research). اعتمدت الدراسة على قاعدة بيانات تضم أكثر من 6000 حالة من حالات الصراع الاجتماعي على مدار 20 عامًا – قاعدة بيانات الصراع الاجتماعي في إفريقيا (SCAD)- . وباستخدام بيانات عن 47 دولة من 1990 إلى 2008. درس الباحثان تأثير الانحرافات عن الأنماط العادية لهطول الأمطار على الصراع الاجتماعي. وبينما ركزت معظم الدراسات السابقة على أثر الجفاف على الأمن والإستقرار  والصراع المسلح والحرب الأهلية، تدرس هذه الورقة-بالإضافة إلى العوامل السابقة- تأثير الأمطار الغزيرة.

تتجنب الدراسة التفسيرات أحادية السبب للعنف السياسي، وتجنب المسارات والقصص العرضية حول المياه أثناء الصراع، وتتوقع أن يؤدي عدم انتظام هطول الأمطار، وفترات الجفاف الأطول، ونوبات الأمطار الشديدة والفيضانات، إلى زيادة الضغط على الزراعة والاقتصادات الأفريقية، وأن تدمر الفيضانات والجفاف والظروف الجوية المتطرفة سبل عيش الملايين، وأن تصبح بعض المناطق في إفريقيا أكثر جفافاً، في حين تصبح مناطق أخرى، مثل شرق إفريقيا، أكثر رطوبة، وقد يترتب على ذلك تعطل أو خلل في دورات الزراعة والحصاد في عدد من المناطق، وأن تقوض نمو الاقتصاد وتضع ضغوطًا إضافية على الإيرادات الحكومية.

أزمة تغير المناخ في أفريقيا
المزارعون يواجهون خطر الجفاف في جنوب إفريقيا

اختبر الباحثان أثر العوامل المناخية على ستة متغيرات مختلفة: بداية الصراع، إجمالي الأحداث، الأحداث غير العنيفة، الأحداث العنيفة، الإحتجاجات الموجهة ضد الحكومة، الاحتجاجات الموجهة ضد أفراد أو جماعات أو جهات غير حكومية. وتفرق الدراسة بين الصراع الاجتماعي والصراع المسلح، فالأول، وهو الأوسع، يتضمن أشكالا مختلفة من النزاع مثل الاحتجاجات السلمية وأعمال الشغب والإضرابات والتمرد، أما الصراع المسلح، فهو فئة فرعية من الصراع الاجتماعي، فيتطلب عنفًا مسلحًا ومنظمًا ضد الأفراد والجماعات أو الجهات الحكومية، أو بين الحكومات بعضها وبعض في حالة الحرب بين الدول.

تقول الدراسة إن دراسة الطيف الواسع للصراع الاجتماعي، يكشف عن وجود علاقة قوية بين الصدمات البيئية والاضطرابات الاجتماعية. وتشير النتائج إلى أن تقلب معدلات هطول الأمطار له تأثير كبير على حالة ومستوى الصراع السياسي، سواء على النطاق الضيق أو النطاق الواسع، وأنه على الرغم من أن السنوات المطيرة قد تشهد أيضا أحداثا عنيفة، إلا أن الإنحرافات الشديدة في هطول الأمطار، ترتبط بكل أنواع  وأشكال الصراع الاجتماعي، ويبدو الإرتباط أقوى بالصراعات العنيفة. وتوصلت إلى أن الانحرافات الشديدة عن أنماط هطول الأمطار العادية قد تؤدي إلى أشكال أخرى-غير الحرب الأهلية- من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية. قد يتقاتل الأفراد والجماعات المتنافسة على الموارد بشكل مباشر، بدلاً من إشراك الحكومات والجيوش في الصراع.

وترى الدراسة أن تضافر عدة عوامل: الصراع على المياه، ونتائج الاقتصاد الكلي الضعيفة، وانخفاض قدرة الدولة، قد يؤدي إلى احتدام الصراع الاجتماعي، لكنها تتوقع أن يكون العنف بين الأفراد وبين الطوائف والجماعات المختلفة هو الأكثر احتمالا، وليس ضد السلطات الحكومية. تقول الدراسة، أنه نادرا ما تسببت ندرة المياه في حرب أهلية، لذا فهي لا تتوقع اندلاع حروب أهلية بسبب ندرة المياه، وتفسر ذلك بقولها أن عدم القدرة على الوصول إلى المياه مظلمة حقيقية، لكن المظالم وحدها لا تكفي لتفسير النزاعات المسلحة، صحيح أن وجود المظالم شرط لازم لأي فعل مقاوم، لكنه ليس كافيا بذاته، لأن حشد المضارين وأصحاب المصلحة، وتنظيمهم دفاعا عن حقوقهم في المياه، هو عملية شاقة ومحفوفة بالمخاطر وتحتاج إلى تخطيط طويل المدى وتمويلا وقيادة وملاذا آمنا لتجنب القمع الحكومي.

لم يجد الباحثان ارتباطا مباشرا بين ندرة المياه والحروب بين الدول. ولا ترجح الدراسة أن يكون الصراع المسلح بين الدول حلا مناسبا بسبب تكاليفه الهائلة ومخاطره الكبيرة وامتداداته المتوقعة. هكذا، يبدو الصراع العنيف على المياه بين الدول، وصولا إلى الحرب، خيارا غير ممكن. ففي سياق ندرة الموارد، لا يفعل النزاع المسلح شيئًا لزيادة المعروض منها، وقد يؤدي بالفعل إلى تقليصها، لذلك، تظهر الخلافات حول توزيع الموارد، بدلاً من كميتها المطلقة، وتعتبر قضايا التوزيع- بطبيعتها- جزءًا من عملية التفاوض والمساومات السياسية.

وفي نفس السياق، وجدت دراسات اخرى أن العنف المسلح حول المياه بين الدول قليل، وأن الترتيبات التعاونية هي الأكثر احتمالا. ربما لا تروق تلك النتائج لبعض من يطلقون صيحات الحرب ليلا ونهارا، ففي البلدان التي لا تستطيع- أو لا ترغب- في إعادة توزيع الموارد بطريقة أكثر عدالة يجري تسويغ أن الجيران-أو- الآخرين، وليست الحكومة، هم سبب الأزمة، في كثير من الأحيان، يظن المزارعون أن الصيادين، أوالرعاة، أو العكس، هم سبب الأزمة، وليسوا- مثلهم- ضحايا.

قد تكون النزاعات التي لا تتعلق بالدولة ولا تستهدف الحكومة هي الأكثر احتمالا، ولا ينبغي افتراض أن مثل هذه الصراعات أقل أهمية وخطورة من حركات التمرد المسلحة والحروب الأهلية. على سبيل المثال، في غانا عام 1994 اندلعت أعمال عنف عرقية بعد نزاع في سوق أسفرت عن مقتل ما يقرب من 3000 شخص وتشريد عشرات الآلاف.

وفي كينيا لقي آلاف الأشخاص حتفهم خلال أسابيع من الاحتجاجات وأعمال العنف التي أعقبت الانتخابات في عام 2007، والتي كانت حقوق الأراضي والمياه قضية رئيسية في الحملة الانتخابية للمرشحين. وفي أوائل التسعينيات، أجبرت المظاهرات الجماهيرية في زامبيا حكومة “كينيث كاوندا” على قبول انتخابات متعددة الأحزاب. يمكن أن تكون هذه الصراعات خطيرة ومرعبة. صحيح أن هذه الأحداث عادة ما تكون أقل فتكًا من الحروب الأهلية واسعة النطاق، فإن الكثير منها يكلف أرواحًا أكثر وخسائر أكبر من العديد من حركات التمرد، كما يعطل الوظائف والخدمات الحكومية الأساسية.

الرئيس الزامبي كينبت كاوندا

تشير الأدبيات المتعلقة بالأمن البيئي إلى خمس آليات، يمكن من خلالها لانحرافات هطول الأمطار، أن تؤدي إلى اندلاع الصراع الاجتماعي والسياسي: أولا، يؤدي نقص الأمطار إلى الجفاف ونقص المياه، ومن ثم نقص في المحاصيل وغلاء في أسعارها، أما الأمطار الغزيرة، الفيضانات، والانهيارات الطينية، فتقتل البشر والحيوانات وتدمر الممتلكات، وتلحق الضرر بالزراعة، ولأن معظم الطرق في أفريقيا سيئة وغير معبدة، يمكن للأمطار الغزيرة أن تؤدي إلى غلق الطرق وتخريب البنية التحتية الضعيفة أصلا، وبالتالي تحد من قدرة الدولة على الاستجابة للاضطرابات في الوقت المناسب، وفي حال كانت الاستجابة الحكومية ضعيفة، يمكن أن تزيد الأمطار الغزيرة من السخط الاجتماعي.

ثانيا، تؤدي الانحرافات في هطول الأمطار إلى صراع بين مستهلكي المياه، كما تؤدي إلى تفاقم زحف الصحاري إلى الأراضي الخصبة، ويؤثر ذلك في زيادة المنافسة على الأراضي الزراعية والمراعي، ومع انخفاض كميات المياه المتاحة، يتعارض المستهلكون من المزارعين والعراة والمصنعون مع بعضهم البعض في الوصول إلى الآبار ومجاري الأنهار.

ثالثا، يمكن أن تؤدي الأمطار الزائدة، أو نقص الأمطار، إلى نزاعات حول الأسعار بين المنتجين والمستهلكين، ويمكن أن يؤدي الجفاف أو الأضرار التي لحقت بالأراضي بعد هطول الأمطار الغزيرة، إلى نقص مؤقت وارتفاع في أسعار الغذاء في الأسواق. على سبيل المثال، أثر ارتفاع أسعار الغذاء على سكان الحضر ، وأدى ارتفاع أسعار المحاصيل الأساسية بين عامي 2008-2011 إلى احتجاجات كبيرة في عشرات البلدان، وتأثر صغار المزارعين في الريف لأنهم يشترون معظم غذائهم، وشهدت قطاعات واسعة من المزارعين انخفاضا في مستوى معيشتهم.

رابعا، نظرًا لتدمير سبل حياة الملايين من سكان الريف من المزارعين والرعاة والصيادين في المناطق المتضررة، يقرر الكثيرون الهجرة بحثًا عن عمل بديل في الحضر، ويضيف النمو الحضري ضغوطًا على الحكومات مع زيادة الطلب على الخدمات الأساسية مثل الصرف الصحي والكهرباء والشرطة والطرق، ويمكن أن تؤدي الهجرة – داخل البلدان وعبر الحدود الوطنية – إلى احتدام المنافسة على الوظائف والإسكان والموارد الأخرى، كما يمكن أن تؤدي إلى تحولات في أنماط الاستيطان العرقي، وأن تخلق احتكاكًا بين السكان المحليين والوافدين الجدد وتفاقم الصراع بينهم.

خامسا، تشوهات السوق في أفريقيا كبيرة جدًا، وتتدخل الدول في الاقتصاد من خلال الضرائب، والإعانات، ومجالس التسويق، وضوابط الأسعار، والقيود التجارية، ووسائل أخرى صممها شاغلو الوظائف للحفاظ على السيطرة السياسية، وتتدخل في الأسواق أيضا من أجل زيادة إيراداتها.

ونظرًا للأهمية المركزية للزراعة والقطاعات الأخرى كثيفة الاستخدام للمياه بالنسبة للاقتصادات الأفريقية، يمكن أن يكون لظواهر الطقس المتطرفة تأثيرات واضحة بشكل خاص على الإيرادات الحكومية والمالية العامة، من خلال تخفيض القاعدة الضريبية، وزيادة الطلب على الخدمات والمساعدات الاجتماعية. وتضرب الدراسة مثلا بنتيجة الجفاف الذي ضرب كينيا قبل سنوات قليلة، وكيف أدى الجفاف إلى زيادة الطلب على مجلس الذرة الكيني، وهو مؤسسة تعمل بشكل أساسي على التأثير على أسعار السلع والمواد الغذائية، وبالتالي على الاستقرار السياسي في البلاد، وكيف تسبب فشل الحكومة في تحول فترة جفاف عرضية، إلى أزمة غذائية كبرى هددت استقرار النظام.

وجد الباحثان أدلة على ارتباط هطول الأمطار بالحرب الأهلية والتمرد، ففي سنوات الندرة الشديدة، أي الجفاف، غالبا ما يكون الناس أكثر اهتمامًا بالبقاء، بدلاً من القتال، و أن السنوات التي تشهد هطول الأمطار الغزيرة جدا،  أو الخفيفة جدًا، تزيد فيها احتمالات حدوث جميع أنواع وأشكال الصراع. وأن الأمطار الغزيرة لها تأثير كبير على جميع أشكال الصراع، على الرغم من ارتباطها الأقوى بالأشكال العنيفة من الصراع، وفي ضوء بيانات من كينيا، وجد أن السنوات المطيرة، تشهد المزيد من أحداث العنف فوق المتوسط العام للسنوات الجافة.

تؤكد الدراسة على أن أفريقيا، التي تتحمل مسئولية أقل عن تغير المناخ مقارنة بالدول النفطية والصناعية الكبرى، هي من ستعاني من أسوأ العواقب، ومن المفارقات التي تدعو للسخرية، أن المجتمعات الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ، هي الأقل استعدادًا لمحاسبة الحكومة.

ووجدا أنه في السنوات التي تشهد إنحرافا عن المتوسط العام لمعدل هطول الأمطار، تكون جميع أشكال الصراع الاجتماعي أكثر عددا، وتكون الأشكال العنيفة من الصراع، مثل أعمال الشغب والعنف الطائفي والصراع العرقي، أكثر عددا في السنوات التي تزيد فيها معدلات الأمطار عن المتوسط، أما الأشكال غير العنيفة، كالاحتجاجات والإضرابات، فهي أكثر حساسية لندرة الأمطار بمرتين تقريبا مقارنة بوفرتها. وفي مفاجأة غير متوقعة، وجد الباحثان، أن صدمات هطول الأمطار لها تأثيرات متساوية تقريبا على الصراع الاجتماعي الذي يستهدف الحكومة، و ذلك الذي لا يستهدفها.

تؤكد الدراسة على أن أفريقيا، التي تتحمل مسئولية أقل عن تغير المناخ مقارنة بالدول النفطية والصناعية الكبرى، هي من ستعاني من أسوأ العواقب، ومن المفارقات التي تدعو للسخرية، أن المجتمعات الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ، هي الأقل استعدادًا لمحاسبة الحكومة.

اقرأ أيضا:

الصراع على المياه.. تاريخ من العنف