يمكننا أن نطبق على “الصحة الرقمية” المبدأ الذي اصطلح على تسميته بـ”الحاجة أم الاختراع”. فمع انتشار فيروس كورونا. وإصابة ملايين البشر حول العالم. وتعذر زيارة العيادات والتعامل بشكل عام وضرورة التباعد الاجتماعي. اقتضت الحاجة اللجوء للإمكانيات البديلة والوسائل الحديثة في الرعاية الطبية. وتلقي الخدمة دون الإضرار بالغير أو زيادة مساحة انتشار العدوى.
وانطلقت الكثير من الحكومات حول العالم نحو التعزيز من إمكانيات القطاع الاستخدام الرقمي في مجال الصحة. من خلال طرح أكثر من ابليكيشن رعائي. وكذلك عمل سيستم متكامل للتواصل في حالات الإصابة بالفيروس عن بعد. وأيضاً تلقي العلاج في الحالات البسيطة وكذلك في التسجيل لتلقي لقاح كوفيد 19.
ورغم ما تم من إنجاز في ملف الصحة الرقمية. وما تم رصده من فوائد تبدو مدهشة في النهوض بالمنظومة. إلا أن هناك الكثير من التحذيرات والمخاوف التي أثيرت بشأن الإفراط في التعاطي مع الفضاء الإلكتروني خاصة في التشخيص الطبي.
ونتناول في التقرير التالي عدد من النقاط المركزية التي يأتي على رأسها إمكانية الاستعاضة بها عن عيادة الطبيب. وحجم ما قامت به من إنجاز أثناء فترة الوباء. وكذلك مدى تأثيرها على الأطباء. والنصائح الطبية في التعامل مع الفضاء التكنولوجي وما يتم ضخه به من معلومات.
ما الصحة الرقمية؟
وصفت منظمة الصحة العالمية “الصحة الرقمية” في دراستها الصادرة تحت عنوان “مسودة الصحة الرقمية العالمية 2020-2025”. بأنها تقديم الرعاية الصحية عن بعد. عبر استخدام تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصالات الرقمية من أجهزة المحمول والكمبيوتر لتحسين ودعم الخدمة التي يحصل عليها المريض من الأطباء والمنظومة العلاجية عن بعد. وقد تستخدم أيضاً بعض التقنيات والأجهزة الأخرى الموجودة في المنزل للوصول لتشخيص.
وأضافت منظمة الصحة العالمية في استراتيجيتها. أن هذه التكنولوجيا تسد ثغرات المنظومة الصحية. مثل توفير الرعاية الصحية لمن يعيشون في المناطق الريفية والمعزولة. وتوفر الخدمة الصحية بطريقة ملائمة وسهلة لمن يعانون من صعوبات الحركة أوعدم توفر وسائل المواصلات. وتحسين مستوى الاتصال بين أعضاء المنظومة الصحية والمرضى. وصولاً إلى تعزيز فرص الإدارة الذاتية للرعاية الصحية من خلال المريض نفسه والمحيطين به. بدعم من الفريق الطبي عن بعد.
وتشمل أدوات الصحة الرقمية التي تم تطويرها حتى الآن: بوابة المريض. وهي عبارة عن بوابة إلكترونية تعمل كبديل للبريد الإلكتروني تمكن المريض من التواصل مع الطبيب. وباقي أجزاء المنظومة الصحية بطريقة آمنة ومتوفرة طوال الوقت. كما يمكن من خلالها مراجعة نتائج الفحوصات المعملية والاختبارات، وجدولة المواعيد الطبية.
المواعيد الافتراضية
وفرت بعض العيادات مواعيد افتراضية بين المريض والطبيب عبر الفيديو كونفرنس. في حالات الأمراض البسيطة. عندما لا تتوفر فرصة الزيارة الشخصية. كما وفرتها بعض شركات التأمين الصحي كجزء من عروضها للرعاية الصحية. كما يمكن من خلالها وصف الأدوية أو اقتراح استراتيجية للرعاية المنزلية أو التوصية برعاية إضافية.
المراقبة عن بُعد
مكنت بعض التقنيات الحديثة فرق الرعاية الطبية من مراقبة الحالة الصحية للمرضى. عبر الأجهزة التي تجري القياس وترسل النتائج مباشرة للطبيب مثل ضغط الدم أو نسبة السكر او معدل أداء الرئة، وسرعة ضربات القلب. وساهمت هذه الأجهزة في متابعة حالات المرضى خاصة في حالات كبار السن أو مرضى الزهايمر.
التواصل بين الفريق الطبي
مكنت التكنولوجيا الرقمية الأطباء من تقديم رعاية أفضل لمرضاهم عن بعد. من خلال التواصل بين أطراف المنظومة مثل حصول أطباء الرعاية الأولية على معلومات من الاختصاصيين بشأن تشخيص بعض الحالات أو علاجها المناسب. ويمكن للطبيب إرسال الفحوصات والتاريخ المرضي ونتائج الاختبارات المعملية وصور الأشعة إلى الاختصاصي لمراجعتها و التشخيص ووصف العلاج، كما يمكن له طلب موعد افتراضي مع المريض.
السجلات الصحية للمرضى
يسمي نظام السجلات الطبية للمرض “PHR” . ويشمل المعلومات المتعلقة بالمريض وتاريخه الصحي والعلاجي وفحوصاته والتحاليل وصور الأشعة الخاصة به. ويمكن أعضاء المنظومة الصحية من الوصول لها عبر أي جهاز متصل بالإنترنت. لتوفير البيانات اللازمة لأطباء الطوارئ في حالة احتياجهم لها لخدمة المريض.
تطبيقات الصحة الشخصية
توفر عدد من التطبيقات خدمات متعددة لتنظيم المعلومات الطبية في مكان واحد. لتأمين الوصول إليها في حالة الاحتياج لها. وتشمل سجلات العلامات الحيوية. ومقدار السعرات الحرارية التي تم تسجيلها، وسجل الأنشطة البدنية للشخص، والأدوية التي يتناولها ومواعيدها.
كورونا.. سبب الاهتمام العالمي بالصحة الرقمية
كشفت جائحة كورونا عن دوراً مهما للصحة الرقمية خلال عمليات مواجهة فيروس كوفيد-19. حيث وفرت التقنيات إمكانية تتبع المصابين وتقديم الاستشارات الافتراضية. بل وتقديم الرعاية والأدوية عبر وسائل الاتصال غير المباشرة. كما ساهم الذكاء الاصطناعي بدور كبير في التوصل للقاحات المتوفرة الأن.
وتحول قطاع الصحة الرقمية ليتصدر قائمة القطاعات الأكثر نمواً بقيمة 504.4 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025. بعد أن اعتقد الجميع قبل الجائحة أن الصحة الرقمية ضرب من الخيال ولم يدركوا إمكانياتها الكامنة إلا خلال الأزمة.
الدكتور محمد العبيدلي، الرئيس التنفيذي لشركة “Patients Know Best” البريطانية. قال إن “مفتاح الصحة الرقمية يتمثل بالقدرة على نقل المعلومات دون تحرك الشخص. وهو أمر بالغ الأهمية عندما يرتبط الأمر بكوفيد-19. الأمر الذي يحد من إقبال جميع المرضى إلى المستشفى في المكان ذاته. وفي الوقت ذاته كما أن قدرة البشر على التأقلم مع جائحة فيروس كورونا كانت ستكون مختلفة بشكل كبير. إذا حصل الأمر قبل عقد أو أكثر. بسبب عدم توفر التقنيات الخاصة بالصحة الرقمية في ذلك الوقت.
ويؤكد إياد الموسى، الشريك المسئول لقطاع الصحة في شركة “بي دبليو سي” الشرق الأوسط للخدمات الصحية أن الخدمات التي كانت تُعتبر من المكملات فقط قبل ظهور جائحة “كوفيد-19” أصبحت ضرورية. واضطرت المؤسسات الصحية إلى إعادة ابتكار نفسها، والنظر إلى الأشياء التي تم الاستثمار فيها، ولكن، لم يتم تفعيلها بشكل جيد.
وعلى العكس يرى دكتور على عبد الله، رئيس المركز المصري للدراسات الدوائيه والإحصاء ومكافحة الإدمان. أن هناك عدد من التقارير العالمية انتقدت فكرة التطبيب عن بعد. وأن هناك ما يقرب من 75% من الروشتات التي تم صرفها أثناء الجائحة بهذه الطريقة. كانت خاطئة نظراً لأن المريض يحتاج إلى التشخيص المباشر ولا يمكن الاستعاضة عن ذلك بمجرد شعوره أو وصف ما يعانيه.
وأضاف عبد الله، أن الإحصائيات أثبتت أن هناك 1 من كل 3 تم تشخيص مرضهم خاطئاً بالاعتماد على التعامل الرقمي. ما كلف الحكومة الأمريكية أثناء أزمة فيروس كورونا نحو 20 مليار دولار فيما يخص الرعاية الصحية. و 35 مليار دولار كخسارة إنتاجية. مضيفاً أن الصحة الرقمية أثرت بشكل سلبي ومباشر على الأطفال دون العامين لأنهم الأكثر احتياجاً للفحص المباشر.
نجاح وإخفاق
يمكن للصحة الرقمية إحداث تحول جذري في جودة الحياة الإنسانية. عبر تمكين المرضى ومقدمي الخدمة الصحية من الأدوات التي يحتاجونها للحصول على رعاية أفضل وتحسين المنظومة الطبية. وتعزيز إمكانية الحصول على رعاية صحية جيدة بما يشمل الوقاية في الحالات المزمنة.
وتوفر الصحة الرقمية فرصة تطوير المنظومة الصحية فيما يتعلق بإجراءات دخول المستشفيات والسجلات الصحية الإلكترونية ومشاركة المعلومات بين مقدمي الخدمة والاختصاصيين.
كما تتيح تحسين الاستشارات الطبية او حتي إجراء العمليات الجراحية عن بعد عبر أجهزة الروبوت. وتتيح تلك الإمكانيات التكنولوجية المتطورة حتى للعيادات في المناطق النائية. حيث نجحت أحد المستشفيات في الصين في إجراء عمليات جراحية معقدة تشمل زراعة الكبد وزرع أجهزة تحفيز للدماغ لمرضى الشلل الرعاش. باستخدام تكنولوجيا الجيل الخامس. فضلا عن الدور الذي تقوم به أجهزة الصحة الشخصية. مثل الاستشعار والهواتف المحمولة وساعات اليد. التي تراقب وتسجل الأداء الصحي والبدني للشخص. بل يمكن للموبيل التقاط صور بالموجات فوق الصوتية لحصوات الكلى ومتابعة الحمل، وإجراء بعض الاختبارات مثل المساحات وتحليل العينات.
كما تم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات بدقة وإجراء عمليات التنبؤ والمحاكاة باستخدام الواقع الافتراضي عبر جمع البيانات من الأجهزة الالكترونية والمستشعرات. لتقديم حالة دقيقة من التشخيص والعلاج باستخدام الحاسبات الفائقة.
وعن أوجه الاستفادة من التحول الرقمي في القطاع الطبي يؤكد الدكتور علي عبد الله، رئيس المركز المصرى للدراسات الدوائيه والإحصاء ومكافحة الإدمان. أن الأطباء والمنظومة الصحية استفادت خاصة في الدور الذي قدمته للحصول على لقاح فيروس كورونا. والتمكين من إنجاز سجل طبي للمريض يساعد في كثير من الأوقات على تشخيص أدق وأقل في مخاطر التفاعلات الدوائية.
واعتبر عبد الله أن الأمر قد يتطور ويصبح لدى الصيدليات سجل للمريض أيضا يمكن من خلاله مراعاة التفاعلات الدوائية وتأثيرها عليه. بالإضافة إلى البرامج التي قد تساعد رقمياً في التعرف على هذا التأثير. مشيراً إلى أن ربط الصيدليات إلكترونياً يساعد في تحجيم صرف الأدوية المخدرة من منافذ متعددة. كما أنها توفر إحصائيات دقيقة وتسهل التواصل من خلال الخطوط الساخنة كما حدث أثناء الجائحة.
موقف الأطباء
منذ انتشار التعامل الإلكتروني في مجال الصحة. والكثير من الاحتمالات تم طرحها حول مستقبل الطبيب. وما إن كان التحول الرقمي قد يؤثر على مستقبله أو يقلل من ربحيته. إلا أن المخاطر التي يتعرض لها المريض حالت دون هذا الأمر بل وأضافت إلى استفادة الأطباء على جميع المستويات ومنها المادية.
وقال الدكتور علي عبد الله، رئيس المركز المصري للدراسات الدوائيه والإحصاء ومكافحة الإدمان. إن هناك مخاطر واضحة من “الصحة الرقمية” فبالنسبة للصيدليات التي باتت منتشرة بالطلب الإلكتروني فالوضع خطير للغاية خاصة مع صعوبة تتبع مصادر الدواء بها وطرق تخزينه وسلبها لحق المريض في التعرف على التعليمات الخاصة بالدواء الذي يحصل عليه ومخاطره.
واعتبر عبد الله أن التوجه الرقمي في مجال الصحة لن يؤثر على الأطباء بل على العكس من ذلك فالكثير منهم سيحققون أرباح بجهد أقل لأنهم قبل إعطاء النصيحة يطلبون استحقاق ثمنها بأحدى طرق الدفع الإلكترونية. معتبراً أن الفيديوهات المنتشرة عبر اليوتيوب وغيره من وسائل التواصل الإجتماعي لا يمكن الاستعاضة بها عن الطبيب وذلك لأنها لا تتعدى حيز الثقافة ولا علاقة لا بالتطبيب والمداواة في حد ذاتها والكثير منها تجاري مدفوع.
واستشهد رئيس المركز المصرى للدراسات الدوائيه والإحصاء ومكافحة الإدمان. على حديثه بنتيجة إحصائية تم إعدادها خلال فترة كورونا أن هناك ما يقرب من 71% من المضادات الحيوية التي تم صرفها أثناء الأزمة لا يتجاوز عدد مستحقيها الفعليين الـ 19%. ما قد يؤدي إلى إفراز ضحايا جدد لمرضى مقاومة بكتريا المضادات الحيوية المقدر عددهم بنحو 10 مليون شخص في 2050 والمتوقع وصولهم لنحو 11 مليون متضرر تأثراً بالأزمة الوبائية الأخيرة.