بضدها تتميز الأشياء، والمقارنة التي سنعقدها في السطور التالية ليست بين مصر وفرنسا، لكنها مقارنة بين الحالات الثلاث لتدخل المؤسسة العسكرية الفرنسية في الشأن السياسي بهدف تحقيق ما يسميه العسكريون -بثقة واعتزاز في كل مكان وزمان- بالإنقاذ الوطني، والغرض هو معرفة مآل كل حالة من تلك الحالات الثلاث، ولنستخلص من المقارنة أسباب الفشل والنجاح في الوفاء بمهمة الإنقاذ الوطني المدعاة.

كانت المرة الأولي هي التي نفذها علي مراحل نابليون بونابرت في بدايات القرن التاسع عشر، بذريعة القضاء على الفوضى العارمة التي أعقبت الثورة الكبرى، ومواجهة الأعداء الأقوياء المتربصين بالجمهورية الفرنسية الأولى من الخارج، والأعداء الطبقيين للثورة في الداخل. وبالقطع -كما يعرف الجميع – فقد نجح نابليون في هاتين المواجهتين نجاحا فاق كل الحدود، لدرجة أوقعت الرعب في قلوب كل ملوك وأمراء أوروبا، وأقنعت غالبية الفرنسيين بإلغاء الجمهورية وتتويجه إمبراطورا (شعبيا) في استفتاء عام.

لكن ماهي إلا عشر سنوات على هذا التتويج حتى هزم الإمبراطور الشعبي بعد أن ثارت شعوب أوروبا كلها عليه، واتحدت حكوماتها كلها أيضا ضده، وانتهى به المطاف منفيا تحت رحمة أعدائه الإنجليز، وانتهى المطاف بفرنسا نفسها خاضعة من جديد لملوك أسرة البوربون، مع شهوة متقدة للانتقام من كل ماله صلة بالثورة.

في عجالة حتى نعود إلى هذه النقطة في سياق المقارنة الشاملة، فإن المتفق عليه بين علماء السياسة أن السبب الرئيسي والوحيد تقريبا لفشل الإنقاذ على يد نابليون الأول هو أنه أهمل إقامة مؤسسات دستورية مدنية فاعلة ومستدامة، تحد من غلواء و جموح حكمه الفردي، وغوايات غروره بعبقريته الحربية غير المتنازع عليها، مقارنة بكثير ممن سبقوه، أو ممن جاؤوا بعده.

ثورة الكوميونة

وكانت المرة الثانية هي تدخل الجيش للقضاء على ثورة الكوميونة عام١٨٧٠ بعد هزيمة نابليون الثالث الفاضحة أمام الألمان، ودخولهم باريس نفسها، وبغض النظر عن اعتزاز كل اليساريين في العالم بتجربة الكوميونة، وإدانتهم المستحقة لشراسة الرجعية في القضاء عليها، فإن ما يهم هنا ومن زاوية مقارنتنا بين حالات تدخل الجيش الفرنسي في الحياة السياسية للبلاد هي أن قيادة الجيش في ذلك الوقت أحجمت عن فرض نظام حكم عسكري على فرنسا، بل إن العكس هو ما حدث فقد وضع دستور مدني أخذ بالنظام البرلماني للحكم، انتخب بموجبه قائد الجيش الجنرال هنري ماكماهون رئيسا دون سلطات تنفيذية واسعة، وتقاعد الرجل بمجرد انتهاء مدته الدستورية.

كوميون باريس

وظلت هذه الجمهورية الثالثة قائمة وفعالة، فانتصرت في الحرب العالمية الأولى، تحت قيادة زعيم مدني فذ هو جورج كليمنصو. ولم تسقط إلا بالغزو النازي لفرنسا في بدايات الحرب العالمية الأولى، أي بعد ٧٠ عاما من قيامها، غير أن هذه قصة أخري يهمنا ويتصل بموضوعنا فيها استيعاب الجنرال ديجول لدروسها، ليحول تدخل الجيش الفرنسي في الحالة الثالثة والأخيرة في الشأن السياسي إلى نظام سياسي مدني أكثر فاعلية ونجاحا.

كان ديجول الذي قاد المقاومة الشعبية ضد الاحتلال النازي، وصنع جيشا من القوات الفرنسية في المستعمرات قد طالب-بعد التحرير- بإصرار بتغيير النظام الدستوري من برلماني إلى نظام مختلط من النظامين الرئاسي والبرلماني، ولكن النخبة السياسية رفضت مطلبه بإصرار هي الأخرى فاستقال من رئاسة الحكومة المؤقتة، واعتزل الحياة السياسية بالمطلق، قائلا عبارته الشهيرة إنه سيعود إلى قريته منتظرا بجانب الهاتف استدعاء فرنسا له مرة أخرى لإنقاذها. وقد طال انتظاره أكثر من عشر سنوات هزمت فرنسا خلالها هزيمتين مخزيتين في فيتنام والسويس، ولاحت نذر الهزيمة الثالثة في الجزائر، مما أدى إلى تمرد عسكري بقيادة الجنرالين ماسو. ولاسال، ما ضغط علي البرلمان، أو حدا به لدعوة ديجول لرئاسة الحكومة.

لم يشكل ديجول نظاما عسكريا، ولو تحت غطاء مدني، بل إنه رأي الظرف أكثر ما يكون ملاءمة لتأسيس النظام السياسي المدني الذي ينتشل فرنسا من أزماتها المتكررة، والتي كان يري أن سببها الأول هو استحالة استقرار الحكومات في نظام برلماني ومجتمع تتكاثر فيهما الأحزاب على نحو لا يضمن أغلبية معقولة لأي منها، بل ولا يضمن أغلبية مريحة لحزبين مؤتلفين، مما يصيب الأداة الحكومية بالعجز والبطء، وهو ما كان سببا رئيسيا في عدم تطوير قدرات واستراتيجيات الجيش، وتسبب في عقم خطط الدفاع ضد ألمانيا النازية.

كان الحل الأسهل هو إلغاء الأحزاب كلية، أو اعتماد نظام الحزب الواحد، ولكنه بدلا من ذلك اقترح دستوره الذي أسس للجمهورية الخامسة الصامدة منذ أكثر من ستين عاما، فأدخل عنصر الاستقرار ممثلا في الرئيس المسئول عن الدفاع والسياسة الخارجية، والذي ينتخب مباشرة من المواطنين، وبالغ في إطالة مدة الرئيس الدستورية إلى ٧ سنوات، واحتفظ بعنصر التغيير من خلال حكومات تتشكل من الأحزاب أو الكتل الحائزة للأغلبية البرلمانية. وبالطبع لم تقمع حريات التعبير والاجتماع، ولا سائر الحريات.

شارل ديجول

اقرأ أيضا:

ثورات العالم الكبرى.. توقف الضجيج وبقاء الأثر

 

كما كان متوقعا واجه مشروع الدستور الديجولي معارضة شرسة خاصة من اليسار بشقيه الاشتراكي والشيوعي، وحذر الزعيم الاشتراكي فرانسوا ميتران الفرنسيين من أن الجنرال يتجه إلى تأسيس ديكتاتورية عسكرية، ناصحا الفرنسيين أن ينسوا ديجول زعيم المقاومة والتحرير، والذي كان الوطن والشرف هما رفيقاه، وأن يروا فقط ديجول الحالي الديكتاتور الذي يصطحب الرجعية والديكتاتورية، لكن رؤية ديجول هي التي انتصرت.

ومن مفارقات التاريخ أن ميتران لم يتذكر أن يلغى الدستور الديجولي، أو يعدله عندما انتخب رئيسا عام ١٩٨١، أكثر من ذلك كان ميتران هو الرئيس الفرنسي الوحيد الذي بقى في المنصب ١٤ سنة متصلة، في حين كان جاك شيراك الديجولي هو الذي عدل الدستور لاختزال الفترة الرئاسية إلى ٥ سنوات بدلا من ٧.  وليس هذا انتقاد لميتران ولكنه امتداح لرؤية ديجول التي سلم بصلاحيتها خصمه الرئيسي ولو بأثر رجعي.

النموذج الديجولي

يتصل بالنموذج الديجولي في الاختيار الحاسم لنظام الحكم المدني دون العسكري أنه هو نفسه من قمع تمرد أو انقلاب الجنرالات الذين كان تمردهم الأول سببا في عودته للسلطة، عندما أيقنوا أنه يتجه لمنح الاستقلال للجزائر، في حين أنهم كانوا يعتقدون أن عودته ستكون الضمان لعدم حصول الجزائريين على استقلالهم.

والشاهد هنا أن الرجل كان حريصا على تحرير فرنسا من أوهام عصر الاستعمار التقليدي الذي كان قد ولى، مثلما كان حريصا على إعطائها نظاما للحكم قادرا على الاستمرار وعلى ضمان الديمقراطية في ذات الوقت. أو على حد تعبيره هو أنه ليس مدينا إلا لفرنسا وحدها.

بأثر رجعي هل يشك أحد في أن أسباب نجاح كل من ماكماهون وديجول مقارنة بفشل نابليون الأول أن الرجلين وعيا درس هذا الفشل وأسبابه فلم يقعا فيها؟

أليس هذا هو تحديدا ما خلص إليه البروفسور الأمريكي دانكورت روستو رائد ومؤسس دراسات دور الضباط العرب في السياسة والمجتمع منذ ستيتنيات القرن الماضي، وهو أن النجاح مشروط بإقامة مؤسسات دستورية مدنية فعالة ومستدامة؟ أو باختصار فلابد من إبطال تحصين السياسة والبندقية مثلما يجب أبطال تحصينها بالنص المقدس، خاصة في العصر الصناعي وحلول المدينة محل الريف في صدارة التكوينات الاجتماعية.