لعل ردود فعل متسرعة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي العربية إزاء قرارات 25 يوليو 2021 للرئيس التونسي قيس سعيد تكشف عن الاستعداد لتكرار الخطأ نفسه حتى لو مرت سنوات وعشرات السنين.
نعم بيننا بعد تاريخ طويل من الانقلابات و الاستبداد والفساد المغطي بالقمع والقهر من هم على استعداد للمخاطر بالتضحية بالديمقراطية والحريات وفرصها تحت مبررات ومكايدات من قبيل فساد الأحزاب والحزبية واستئصال الخصوم السياسيين.
ولعل من مساخر إعلام وعقليات التضحية بالديمقراطية لو تطلب الحال من أجل استئصال الإخوان هو ما تم الترويج له عند انتخاب الرئيس قيس سعيد بالكذب والبهتان والجهل بأن “الرجل إخواني”. وهذا لمجرد كون حزب حركة النهضة حينها منحه تأييده في الجولة الثانية الحاسمة من انتخابات الرئاسة أكتوبر 2019 في مواجهة منافسه “نبيل القروي” رئيس حزب “قلب تونس” المحسوب بالأصل على نظام “بن على” والمتهم بالفساد المالي وغسيل الأموال.
وبالطبع وأيضا فإن من مساخر الحياة السياسية في تونس العودة السريعة من لحزب النهضة كي يتحالف مع النظام القديم ممثلا هذه المرة في “قلب تونس”ـ وبحقيقة أنه حل ثانيا في الانتخابات التشريعية بعد النهضة ـ من أجل ترتيب أوراق قيادة البرلمان واعتلاء راشد الغنوشي رئيس حزب حركة النهضة رئاستة.
وهذا بأمل لم يتحقق بتشكيل حكومة سياسية من النهضة وحلفائها. وهو ما أثبتت موازين القوى الهشة المتأرجحة داخل البرلمان استحالته. فالنهضة صحيح أنها حلت كحزب وكتلة أولى في البرلمان لكن بثقل لا يتجاوز ربع المقاعد فحسب. وعجزت وحلفاؤها في البرلمان أولا عن تمرير حكومة رئيس الوزراء في البرلمان الذي اختارته “حبيب الجملي”، ثم شاركت ثانيا في حكومة ” إلياس الفخفاخ” الذي اختاره الرئيس “قيس سعيد”. ثم عادت وأيدت حكومة تكنوقراط اختار الرئيس سعيد أيضا رئيسها “حكومة هشام المشيشي”.
وهذا قبل أن يدب الشقاق بين “سعيد” و”المشيشي” ويصبح الأخير محل اتهام بأنه أسير حزامه السياسي الداعم في البرلمان الذي تقوده النهضة.
ولعل من محددات الأزمة الراهنة ومستقبلها إدراك مدى هشاشة ولا مبدأية وسيولة التحالفات السياسية والقوى الحزبية حول مراكز ومؤسسات السلطات في الدولة التونسية. وهي هشاشة تغطي بين حين وآخر الانقسامات المجتمعية والثقافية ـ وحتى السياسية ـ في تونس ما بعد ثورة 2011.
وقبل ساعات أصدر حزب التيار الديمقراطي ـ وهو من أبرز مناوئي النهضة والغنوشيـ بيانا لقيادته يرفض قرارات الرئيس قيس سعيد، ويعتبر تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن كل أعضائه وتركيز السلطات في يد شخص واحد هو رئيس الجمهورية ولو لشهر واحد مخالف للدستور ولنص المادة 80 التي استند إليها.
وتنص المادة 80 من الدستور التونسي لعام 2014: “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب.
ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
وبعد مضيّ ثلاثين يوما على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو ثلاثين من أعضائه البتُّ في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية في أجل أقصاه خمسة عشر يوما. ويُنهى العمل بتلك التدابير بزوال أسبابها. ويوجه رئيس الجمهورية بيانا في ذلك إلى الشعب”.
وجاء موقف قيادة التيار الديمقراطي (المكتب السياسي والكتلة البرلمانية ) بعد ساعات معدودة من موقف مخالف تماما للقيادية بالحزب النائبة “سامية عبو” عبرت عنه في تصريحات صحفية الليلة الماضية. كما يأتي مخالفا لموقف شريكة في “الكتلة الديمقراطية” بالبرلمان “حزب حركة الشعب” القومي العروبي الناصري المؤيد لقرارات سعيد . وتشغل المرتبة الثانية بين كتل البرلمان إلى اليوم.
اقرأ أيضا:
مفاجأة تونس المتوقعة.. كيف مهدت الأحداث لحركة قيس سعيد
زالزال قيس” يهدد حركة النهضة في تونس.. مواقف سياسة متأرجحة وشارع محتقن
ليست الأزمة الأولى
من عايش مجريات تجربة الانتقال إلى الديمقراطية في تونس التي توصف بأنها من بين تجارب الديمقراطيات الناشئة يعلم بأنها ليست الأزمة الأولى بين مؤسسات السلطة في البلد. وفي ظل نظام دستوري خارج من زمن استبداد رئاسي طويل نشأت وسادت هناك فلسفة ما تحرص على توزيع السلطات والصلاحيات بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. وحتى داخل السلطة التنفيذية نفسها برأسيها ( رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة)، وأيضا في ظل نظام انتخابي حرص على تمثيل أوسع نطاقا للأحزاب والقوى السياسية و قطع الطريق على أغلبية برلمانية تعيد إنتاج ما كان من نظام الحزب الواحد، نشأت صراعات بين كل من الرئيسين السابقين “المنصف المرزوقي” و “الباجي قائد السبسي” والسلطة التشريعية، وكذا رؤساء الحكومات في عهدهما.
وقبل وفاة السبسي ـ وهي للمصادفة كانت قبل عامين في 25 يوليو 2019 عيد الجمهورية التونسيةـ كان الخلاف والصدام مفتوحا مع رئيس حكومته الذي اختاره هو أيضا بدوره “يوسف الشاهد”. وحينها قيل الكثير عن تذيل وتبعية “الشاهد” لحركة النهضة. لكن ثبت لاحقا أن الرجل يعمل لحساب مركز سياسي وطموح سلطوي خاص به متميزا عن النهضة. وعلى هذا النحو ، أسس حزب “تحيا تونس” خصما من حزب السبسي “نداء تونس”، و خاض الانتخابات الرئاسية مرشحا ومنافسا ومناوئا للنهضة.
بين الرئيسين .. السبسي و”سعيد”
والفارق بين الراحل “السبسي” والحالي “سعيد” يغرى الأخير بما لم يذهب إليه سلفه حتى لو خرج الأول خاسرا من معركة بحجم إقالة وتعيين وزير داخلية جديد في صيف 2018. كان “السبسي” رجل حوار و سياسيا محنكا تربى وصقل قدراته داخل الحياة الحزبية منذ ما قبل الاستقلال. وهذا على عكس “قيس سعيد” أستاذ الجامعة المتخصص في القانون الذي يجاهر بكراهية الأحزاب والحياة الحزبية ويتهم الساسة بالفساد وبتعميم لافت.
وقد جاء محمولا في انتخابات رئاسة 2019 وكأنه “من خارج النظام / السيستم” على موجة احباط وسخط عاتية إزاء اخفاق النخبة السياسية في التعامل مع القضايا المعيشية لغالبية التونسيين و تنازع هذه النخبة وتدني أساليبها في الصراع السياسي ولا مبدأية تحالفاتها، كما هوحال ” النهضة” مثلما أشرنا على سبيل المثال في السابق.
وكان للسبسي نقاط ضعف مؤثرة تحد من مناوراته وتخصم من رصيد قواه. ولعل أبرزها ،هو نجله المدلل ذو الحظوة ” حافظ”. ويشتبك مع “تراجيديا الإبن” هذه مسئولية الرئيس السابق عن اضعاف حزبه وتحلله. وهو بالأصل تحلل كامن في طبيعة تجميع المكونات والشخصيات حول ذات ” السبسي ” نفسه. ولا شك أن الرئيس قيس سعيد دخل بقوة الى الأزمة الراهنة مع حكومة “هشام المشيشي” والبرلمان وبالجملة حزب النهضة خاليا من نقاط الضعف هذه . وهذا على الرغم مما يقال عن نفوذ شقيقه الأقل بلاشك من حالة تراجيديا الإبن “حافظ”، وأيضا ما جرى داخل فريقه الرئاسي على مدي اقل من عامين من استقالات وإقالات وسوء أداء مس هيبة ” قصر قرطاج” الرئاسي.
اقرأ أيضا:
قيس سعيد الذي جاء من خارج “السيستم”.. لا يشرب القهوة في “الفيشاوي”
ويبقي ملمح آخر في المقارنة بين الرئيسين “السبسي” و” سعيد” يفتحان زاوية النظر ويتسعان بالرؤية على اللحظة غير المسبوقة اليوم في أزمة صراع “الرئاسات والمؤسسات” بتونس بعد الثورة. فالأول الذي لم يخل خطابه تماما من الإعراب عن عدم ثقته في المؤسسات الدستورية وسعيه لعرقلة عملها وتأسيسها، بما في ذلك المحكمة التي لم تر النور في عهده والى اليوم، لم يكن ليجرؤ كخلفه “سعيد” وبكل هذه القوة والوضوح والعنفوان عن المجاهرة والاصطدام بشأن السعي لتركيز السلطات والصلاحيات بين يد سلطة واحدة ورجل واحد هو “رئيس الجمهورية”.
مصادر قوة وضعف معا
هذا الأمر مركز قوة ومركز ضعف في الآن نفسه. هو مركز قوة لأنه يأتي متناغما مع ميل لاستعادة نموذج “الرئيس القوي الفاعل الأب ولو كان مستبدا” بين قطاعات في الرأي العام التونسي أنهكتها المعاناة الاقتصادية وتدهور أحوال المعيشة وعظم من اكتشافها للمعاناة حرية الإعلام والتعبير غير المسبوقة.
وهكذا تدافعت الأحداث لتضفي قوة على نزعة الرئيس “سعيد” الاستبدادية. فقبل أشهر ومع عودة وباء كورونا ليضرب بقوة التونسيين ومع حلقات متوالية من المناكفات والشد والجذب والتعطيل داخل البرلمان وبين مؤسسات الحكم، اكتسب خطاب الرئيس “قيس سعيد” من أجل تركيز الصلاحيات والسلطات بين يديه وتصعيده في معركة تلو أخرى زخما.
وكانت هناك محطات لافتة على هذا الطريق اتضح خلالها ضعف وعجز حلفائه، بل وإصابتهم بما يشبه الشلل في مواجهة تصعيد الرئيس سعيد خطوة تلو أخرى. ومن بينها: إطاحته بإرادة البرلمان وتصويته على منح الثقة بتعديل حكومة المشيشي الوزاري في 27 يناير الماضي وإلى اليوم وبحجة اتهامات فساد لعدد من الوزراء الجدد مع رفضه أي حلول للأزمة وتعطيله تشكيل المحكمة الدستورية مع رفض التصديق أيضا على تعديل تشريعي يفتح الباب للتغلب على صعوبة توفير أغلبية ممكنة في ظل برلمان متشظي ومنقسم ومتناحر كي يختار المجلس التشريعي مرشحيه في هذه المحكمة وفق الدستور.. وكذا منازعته رئيس الحكومة في ولايته ومجلسه على وزارة الداخلية وقياداتها .. وهكذا.
مفارقات نقطة القوة التي تمكن منها “قيس سعيد” من أجل رئيس معزز بسلطات واسعة وتجميد البرلمان وإقالة الحكومة بل و “مشروع العودة إلى الاستبداد الرئاسوي” برمته هو أن السخط الجماهيري ضد الأحزاب والبرلمان يأتي بينما جاء ممثلو الشعب في المجلس التشريعي في انتخابات تعد الأكثر ديمقراطية ونزاهة في العالم العربي ومضرب الأمثال في عالم الجنوب. وتحلق المفارقة الى ذروتها عندما نستمع لحجة تقول : هكذا هي اختيارات الناس والشعب قبل أقل من سنتين . هم اختاروا نوابهم في البرلمان كما اختاروا رئيس الجمهورية بحرية أيضا. وهذا مع ما يقال بشأن الانتخابات التونسية كغيرها عن تأثير المال والإعلام، و عن وعي سياسي مازال غير ناضج في تجربة ديمقراطي ناشئة لم يتعد عمرها عقد واحد بالكاد.
ونقاط الضعف الرئيسية في إدارة الرئيس “سعيد” للأزمة على مدى شهور وصولا إلى قرارات 25 يوليو الجاري لا تتمثل فقط في تخوفات وفزع قطاعات مهمة من الطبقة الوسطى و قوى المجتمع المدني وشخصياته الوازنة من “نزوع رئاسي واضح للتسلط و جمع السلطات في يديه” بما في ذلك سلطة الاتهام ممثلة في قيادته للنيابة العمومية كما جاء في قرارات الأمس. بل وأيضا في أن “سعيد” لا يملك مشروعا واضحا مختلفا مغايرا على مستوى القضايا الاجتماعية والاقتصادية.
كما لا يتمتع بمرونة وحنكة الساسة رجال الدولة التونسية، بما في ذلك من كانوا من بقايا جيل الاستقلال ورفاق الزعيم ” الحبيب بورقيبة”. ناهيك عن افتقادة لتنظيم شعبي واضح الملامح. فقط تدعمه تنسيقيات وائتلافات هلامية ظرفيه غير مستقره. وهذا ما قد يفتح الباب لأن تقع قراراته وسياساته تحت سطوة وعبر تأثير أحزاب وجماعات الثورة المضادة المنظمة في غياب رقابة برلمان ومؤسسات كالمحكمة الدستورية الغائبة. ناهيك عن استبعاد الهيئة الوقيته لمراقبة دستورية القوانين. وهي قائمة بالفعل وتم اللجوء إليها في تأمين الانتقال السلس للسلطة بعد وفاة الرئيس السبسي.
طلب متزايد على إزاحة البرلمان وحكومة المشيشي
ومع هذا يمكن القول بأن الرئيس “قيس سعيد” كما ظهر في عنفوانه مع قرارات 25 يوليو 2021 قد استطاع أن يبني على طلب متنام في الشارع وبين الرأي العام لإزاحة البرلمان والحكومة من المشهد ومعاقبة الطبقة السياسية (على سبيل المثال بين هذه القرارات رفع الحصانة عن كل اعضاء البرلمان الـ 217 وكأنهم جميعا محل شبهات فساد )، ناهيك عن المضي إلى مربع تعديل النظام الانتخابي والدستور . وهو طلب يختلط فيه من هم محبطون من عدم تحقيق أهداف الثورة بعد عشر سنوات كاملة مستوى الأحوال المعيشية كارتفاع الأسعار ومعدلات البطالة وضعف التنمية ومن هم من أنصار ومكونات النظام الذي قامت عليه الثورة.
خطايا حركة النهضة
وتتحمل “النهضة” بدورها مسئولية كبرى عن تراكم هذا السخط والطلب الممزوج بالاستهانة إزاء استكمال بناء الديمقراطية وضمان الحريات. فمن جهة اختارت قيادتها التحالف تلو الآخر مع نظام ما قبل الثورة ومنحت رموزه وقواه وتنظيماته السياسية شرعيه الوجود بل وممارسات مسيئة تعرقل عمل مؤسسات الدولة. وهذا أمر يعود إلى إسقاط نواب النهضة في المجلس التأسيسي لمشروع قانون تحصين الثورة في نهاية عام 2013 والذي كان يفرض حظرا سياسيا السياسي على رموز النظام السابق.
كما يمتد إلى التحالف مع حزب نداء تونس والرئيس السبسي لتمرير قانون المصالحة مع رجال هذا النظام، وصولا إلى التحول من معارضة نبيل القروي وحزبه “قلب تونس” بوصفه رمزا صاعدا للثورة المضادة والفساد إلى الانتقال للتحالف معه تحت قبة البرلمان وفي دعم حكومة “المشيشي”.
ومن جهة أخرى، فإن تمسك “الغنوشي” بالاستمرار في رئاسة حركة النهضة وتأجيل مؤتمرها العام ومحاولة الالتفاف على تدوال القيادة بها قد أضعف من الحزب ذاته وأهدر اعتباره حتى بين قطاعات من مناصريه. ولايخفى على المتابع للشئون التونسية الاستقالات المهمة المتوالية من قادة في الحزب مع بيانات النقد الذاتي المهمة التي صدرت على مدى أكثر من عام.
لكن لا النهضة أو الرئيس قيس سعيد وحدهما يتحملان المسئولية في الوصول إلى نقطة التصعيد الجديدة وغير المسبوقة في الأزمة التونسية. فالعديدون ارتكبوا الأخطاء والخطايا إلى حد يمكن استدعاء القول: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.
وبالقطع هناك ما يمكن أن يقال عن إخفاق الحياة السياسية عموما والنخب الليبرالية واليسارية بخاصة في الخروج ببديل سياسي تنظيمي قوى يكون بمثابة خيار ثالث أمام الناخبين والجمهور. حزب جديد وازن بإمكانه أن يخرج البلاد من استقطاب وتحالفات النهضة / النظام القديم ممثلا في بقايا حزب التجمع / الدستور ( الحزب الواحد فعليا منذ الاستقلال الى ثورة 2011). وهو استقطاب أعيد انتاجه بين النهضة والحزب الدستوري الحر لـ”عبير موسى”، وفي الوقت نفسه بالتحالف بين الحركة و حزب قلب تونس من جهة أخرى. وقد ترجم هذا الاستقطاب/ التحالف المزدوج نفسه في تعيين الغنوشي بوصفه رئيسا للبرلمان لـ “محمد الغرياني” آخر أمين عام لحزب التجمع الدستوري ( حزب بن على ) ضمن فريقه في ديوان البرلمان مكلفا بملف المصالحة وسط منازعات مع عبير موسي إساءت إلى صورة البرلمان برمته.
كما يتحمل المجتمع المدني وقواه الأبرز قدرا من المسئولية عن الوصول إلى هذه الذروة غير المسبوقة من الأزمة تمهيدا لقبول قطاعات من الرأي العام وفي الشارع التونسي لقرارات 25 يوليو وترحيبها به. فقد تبدت على مدى السنوات القليلة الماضية ملامح انحيازات سياسية حزبية داخل المجتمع المدني ومؤسساته الرئيسية. وهي انحيازات تفيد بالسقوط في الاستقطابات والصراعات الحزبية التي أزعجت قطاعات من الشعب التونسي، ناهيك عن وقوف اتحاد الشغل كبرى هذه المنظمات عاجزا عن دفع مبادرته قبل نحو ستة أشهر للمصالحة بين مؤسسات الحكم.
من محددات الأزمة اليوم
على صعيد اللحظة التونسية المشحونة بالتطورات المتلاحقة، ثمة ما يرجح اليوم بترتيب الرئيس قيس سعيد لأوراق تعزز قراراته وتمنحها القوة. وهذا بصرف النظر عن الرأي الراجح بأنها تخالف وتنتهك الدستور والفصل 80 تحديدا التي استند إليها ( أنظر نص الفصل لاحقا وهو لا يتضمن إعفاء الحكومة أو تعطيل و تجميد صلاحيات البرلمان ناهيك عن الجدل حول مبرارات مقبولة لفرض الحالة الاستثنائية) . نعم تبدو ترتيبات سابقة انعكست خلال الساعات القليلة الماضية في استخدام الرئيس “قيس سعيد” قوات الجيش لمنع انعقاد البرلمان و عمل الحكومة.و يشي بهذه الترتيبات تحركات سبقت للرئيس “سعيد” ذات الأداء الإعلامي الشعبوي بين وحدات الجيش وحتى قيادات ووحدات وزارة الداخلية.
كما هناك ترجيحات بترتيبات إقليمية دولية لتقبل ما يمكن وصفه بـ “انقلاب” دون جنرال يقود في الواجهة، بل رئيس منتخب انتخابا ديمقراطيا في اقتراع تعددي تنافسي. وثمة إلى كتابة هذا المقال انتظار لمواقف اقليمية ودولية تأخرت نسبيا، وكأنها تترقب كيف ستسير الأمور والتطورات. لكن من المحسوم أن ما فعله الرئيس “قيس سعيد” يحظي بتأييد ودعم من قوى خليجية على رأسها دولة الإمارات التي ظل إعلامها على مدى شهور وسنوات ينفخ إلى حد اصطناع مرة تلو اخرى وبلا يأس نزول معارضي النهضة والغنوشي إلى الشارع والإنقلاب على الدستور ونتائج انتخابات 2019، وإن كان خيار الحزب الدستوري الحر لعبير موسى هو المفضل بالنسبة لهذه القوى التي تتقدمها الإمارات.
محددات المستقبل
في ظل التطورات المتلاحقة القادمة من تونس يحسن النظر إلى العناصر التالية التي قد يتحدد على ضوئها مسار الأحداث مستقبلا:
ـ قدرة القوى المناوئة لقرارات 25 يوليو على التعبئة الكبيرة في الشارع. وهذا لأنه من الصعب الزعم بأن في تونس العاصمة ومدنها هناك شارع واحد، هو المؤيد لهذه القرارات.
ـ احتمالات حدوث مصادمات بين مؤيدي ومعارضي القرارات.. ومدى القدرة على تجنب العنف بينهما؟
ـ فرص إعادة تشغيل البرلمان بهدف إحداث ازدواج في السلطة مع مناوئة قرارات 25 يوليو. وهو أمر لم تظهر بوادر له إلى حينه وتتضاءل فرصه بمضي الوقت. وهذا وإن كانت عودة الرئيس “سعيد” لتوقيت قرار تجميد البرلمان بشهر واحد تجعل التساؤل حول مصير قراراته مستقبلا أمرا مشروعا وملحا.
ـ مدى استمرار تماسك المؤسستين العسكرية والأمنية حول الرئيس “قيس سعيد” وقراراته. واللافت هنا هو إقالة “سعيد” اليوم لوزير دفاعه “إبراهيم البرتاجي” الذي عينه بنفسه، وحيث هذا التعيين من صلاحياته دستوريا. وهو أمر يفيد بمعارضة ما لقرارات “سعيد” داخل بيروقراطية الإدارة التونسية أو مؤشرات لعدم الثقة تضاف إلى منع دخول الموظفين الى مقر الحكومة بالقصبة. والمعروف أن وزير الدفاع في تونس تاريخيا والى اليوم مدني وليس عسكريا.
ـ ما سترجحه مواقف قوى المجتمع المدنى الرئيسية يتقدمها اتحاد الشغل وجمعية المحامين على نحو خاص. وبالنسبة للأول فقد أصدرت قيادته بيانا يمزج بين القبول بإجراءات “سعيد” وطلب ضمانات باحترام الدستور والحريات. وهو على هذا النحو يخلط الترحيب الضمني بالمخاوف المعلنة ويترقب.
ـ استمرار أو انهاء الغموض حول ماذا سيفعل الرئيس “قيس سعيد” أو بإمكانه أن يفعل توليدا من قرارت 25 يوليو . أي ماذا بعد ؟ وماهي خياراته وفق توافق مع قوى اجتماعية وسياسية وازنة؟. وإذا سلمنا بالجزء الظاهر من العملية الجارية وهو تقديم عدد من النواب الى محاكمات بتهم فساد وهو أمر يستغرق حسمه بالطبع ما يجاوز الشهر، فماذا بعد ؟ هل يقدم الرئيس “سعيد” على ترتيب استفتاء لتعديل الدستور ؟ لكن كيف والدستور الحالي يتطلب موافقة أغلبية ثلثي النواب وهو ما لا يملكه ؟ أي أن الاقدام على تعديل الدستور بإرادة الرئيس دون مرور بالبرلمان يعني المزيد من انتهاك الدستور والمضي الى تعطيله أو الغائه.
ـ تبلور مواقف دولية وبخاصة الموقفين الأوروبي والدولي. وهنا تكتسب مواقف القوى الدولية الأكثر تأثيرا على مسار الانتقال إلى الديمقراطية في تونس ورعاية له أهمية خاصة، وتحديدا فرنسا ثم ألمانيا ويأتي تاليا إيطاليا وأسبانيا. ولاشك أن تأخر ظهور مواقف من هذه الدول قد يعني قبولا بما ستنتهى إليه موازين القوى الفعلية على الأرض في تونس. كما يرتبط بحسابات ومخاوف تتعلق بموجات هجرة عبر ضفتي المتوسط وانفلات أمني يعيد سيرة الإرهاب والإرهابيين لما كانت عليه تونس في الفترة بين 2012 و 2015. وقد ينطبق الحال إلى حد ما على الجارة والأخت الكبرى الجزائر. فالمواقف التقليدية لمؤسسات الحكم للجارة الكبرى من جيش وأجهزة مخابرات ورئاسة لا تستريح لثورات الربيع العربي، لكنها تخشى أكثر من عدم استقرار يصيب تونس يعود عليها بمشكلات في مقدمتها إرهاب عابر للحدود الجبلية بين البلدين.
لكن بصفة عامة فإن صمود التجربة الديمقراطية التونسية مسألة ليست بالسهلة في محيط إقليمي مناوئ وغير موات. فثمة من له ألف مصلحة في الإبقاء على الأوضاع السلطوية القائمة في المجتمعات العربية. ناهيك عن الاستمرار في الزعم بأن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. مع التحفظ مبدئيا على هكذا زعم لأن التساؤل والشك يظل قائما حول اقتران العنصرية بالديمقراطية.