مثلّت الاحتجاجات التونسية ذروة التذمر الشعبي المتنامي على خلفية تدني الأوضاع الصحية والاجتماعية والسياسية، تحت وطأة إخفاقات متباينة، حيث تشهد معدلات الإصابة والوفاة بفيروس كورونا المستجد قفزة هائلة، بينما ظل الوضع السياسي في حالة انسداد قصوى، وبينهما ينوء المواطن بأعباء اقتصادية ومعيشية ثقيلة، وسط مصير مجهول لحركة النهضة.
بيد أن قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد المباغتة والتي رافقت التطورات السياسية والميدانية المتلاحقة، أمس، اضطرت كل القوى السياسية والمدنية أن تقف على أطرافها لجهة فهم ملابسات ما جرى، ثم تحري مآلاته ونتائجه.
وفي أعقاب اجتماع طارئ عقده الرئيس التونسي في قصر قرطاج مع مسؤولين أمنيين، أعلن أنه سيتولى السلطة التنفيذية “بمساعدة حكومة يرأسها رئيس الحكومة ويعينه رئيس الجمهورية”. إذ أعلن الرئيس التونسي “تجميد” أعمال مجلس النواب لمدة 30 يوما، وقرر أيضاً إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، ورفع الحصانة عن النواب وتوليه رئاسة النيابة العامة لتحريك دعاوى ضد عدد منهم متورطين في قضايا.
واستند الرئيس التونسي إلى مضمون الفصل 80 من الدستور التونسي الذي يمنحه الحق في اتخاذ تدابير استثنائية في أوضاع محددة، وينص الفصل 80 من الدستور على أن “لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية”، كما ينص الفصل على أنه “يحب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال”.
وقال سعيد، في بيانه الذي أعلن فيه إقالة المشيشي وتجميد البرلمان، إنه علق أيضاً الحصانة القانونية لأعضاء البرلمان وتولي رئاسة مكتب النائب العام.
القرارات الاستثنائية شملت أيضا إقالة وزير الدفاع إبراهيم برطاجي، وهو ما فسره مراقبون بأنه أحد أضلاع حكومة المشيشي المحسوبين على حركة النهضة الإسلامية.
بداية الأزمة
جاءت قرارات سعيد في ظل احتدام الخلافات بين النهضة ومؤسسة الرئاسة، كما تلاحق حكومة المشيشي وحزامها البرلماني بقيادة حركة النهضة، اتهامات جمة تتصل بسوء إدارة الأزمة الصحية، الأمر الذي تسبب في تصاعد وتيرة الفوضى، والتوقف في عمل الحكومة والسلطات العامة.
واتهم رئيس البرلمان وزعيم حركة النهضة رئيس الجمهورية بـ”الانقلاب على الثورة والدستور”، وقال لوكالة “رويترز”: “نحن نعتبر المؤسسات ما زالت قائمة وأنصار النهضة والشعب التونسي سيدافعون عن الثورة”.
ففي مطلع الأسبوع الحالي، طرد مواطنون تونسيون غاضبون رئيس وزراء هشام المشيشي، أثناء زيارته لمراكز التلقيح بمدينة الناظور، في محافظة زغوان، شمال تونس، وتسجل منذ أسبوع أرقاماً قياسية مقلقة في عدد الوفيات والإصابات بالفيروس، والتي وصلت إلى أكثر من 5600 إصابة و317 حالة وفاة.
وبلغ العدد الإجمالي للإصابات أكثر من نصف مليون إصابة و18686 حالة وفاة، وقد تم تلقيح 7% فقط من سكان البلاد بشكل كامل.
احتدام الصراع
وبالتزامن مع الذكرى 64 لعيد الجمهورية، اقتحم متظاهرون تونسيون مقرات حركة النهضة التونسية في عدة مناطق، من بينها محافظة سوسة الساحلية وصفاقس (جنوب) والكاف (شمال غرب)، وطالبت بإسقاط الطبقة الحاكمة وتشكيل حكومة جديدة، وردد المحتجون هتافات ضد فرع الإخوان بتونس وزعيمهم راشد الغنوشي، ومن بينها: “ارحلوا سئمنا منكم”، “يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”، “تسقط حركة النهضة” و”تونس حرة حرة”.
ولذلك؛ تم إغلاق كافة الطرق والمنافذ المؤدية لمقر البرلمان وشارع الحبيب بورقيبة والشوارع الرئيسية القريبة منه، لتعطيل وصول المتظاهرين، ووصفت حركة النهضة، المحتجين بـ”العصابات الإجرامية”، كما اعتبرت الممارسات التي تمت بحق مقراتهم بـ”الأعمال الإرهابية”.
وفي بيان رسمي، اعتبرت حركة النهضة أن “العصابات الإجرامية التي يتم توظيفها من خارج حدود البلاد ومن داخلها للاعتداء على مقرات الحركة ومناضليها وإشاعة مظاهر الفوضى والتخريب”، تخدم “أجندات الإطاحة بالمسار الديمقراطي وتعبيد الطريق أمام عودة القهر والاستبداد”.
وتابعت “الاعتداءات الإجرامية على مقراتها وعلى مناضليها لن يزيدها إلا تمسكا بالمسار الديمقراطي وقيم الجمهورية والشراكة الوطنية والعدالة الاجتماعية”، وأردفت: “هذه الاعمال الإرهابية لن تثنيها عن خدمة التونسيين والانحياز إلى مصالحهم”.
وفي حديثه لـ”مصر 360″ يرى عيسى جابلي الصحفي التونسي أن الاحتجاجات في كل المدن التونسية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب كانت عفوية، وجاءت التظاهرات متحدية عدوى فيروس كورونا للتعبير عن الغضب من فشل سياسات حركة النهضة، الحاكمة في البلاد منذ 2011، بقبضة من حديد مستولية على القضاء والسلطتين التشريعية والتنفيذية.
ويردف: “نزلوا للاحتجاج ضد الفقر والبطالة والتهميش وتكريس الإفلات من العقاب والمحاباة والمحسوبية وتحدي القانون. نزلوا ضد فشل حكومتها في التصدي لجائحة كوفيد التي قتلت إلى حد اللحظة أكثر من 20 ألف تونسي في عام فقط بعد سياسة التخبط في مواجهتها والتأخر الكبير في جلب التلاقيح”.
تمويلات خارجية
وأهم ما يمكن ملاحظته في هذه التحركات الاحتجاجية أنها رفعت شعارت مطالبة بإسقاط المنظومة التي أفرزتها انتخابات 2011 والتي استولت فيها حركة النهضة على كل شيء في البلاد بتمويلات خارجية مشبوهة وجمعيات زرعتها في كل ربوع البلاد تعمل تحت إمرتها، بحسب الصحفي التونسي، وهي كلها ممارسات فضحتها تقرير دائرة المحاسبات الحكومية، مؤخراً، وقد تم تمريره إلى القضاء دون أن يبت في أمره كالعادة، ودون محاسبة حركة النهضة وحليفها حزب “قلب تونس”، وهما أكثر حزبين يتحايل كل منهما على القانون.
هذه التحركات شبابية عفوية لا تقف وراءها أحزاب لأن الشباب المحتجين رافضون للمنظومة برمتها حكومة ومعارضة، بينما “كعادتها أصدرت حركة النهضة بيانا عاجلاً تعقيباً على الأحداث تتحدث فيه عن “عصابات إجرامية” و”قوى خارجية” و”تخريب ممنهج”… الخ، وهو نفس المعجم الذي استعمله المخلوع بن علي في توصيف أحداث الثورة التونسية في ديسمبر 2010. وهذا يدل على أن هذه الحركة قد أصبحت هي الجلاد حالياً”.
ما قام به الرئيس سعيد هو من صميم الفصل 80 من الدستور التونسي الذي يحدد بعض الإجراءات الاستثنائية، بحسب المصدر ذاته، والتي يمكن أن يتخذها الرئيس التونسي لتفادي حالة الخطر الداهم الذي يهدد انهيار الدولة، وهي مطالب رفعها الشعب التونسي منذ أشهر بعيدة، وها هو يستجيب أخيراً وينقذ الموقف في آخر لحظة.
ويختتم: أعتقد أن الأوضاع الأخيرة إذا نجحت في إعادة قاطرة الدولة إلى طريق الجمهورية واستعادة الدولة هيبتها، فسيظل 25 يوليو يوما تاريخيا يدخل به قيس سعيد التاريخ، وتدخل به تونس الجمهورية الثالثة من الباب الواسع وأتمنى أن ننجح في ذلك”.
إجراء دستوري
أما التيارات والمجموعات التي تروج لـ”سردية الانقلاب فهم الإخوان كعادتهم ووكلائهم، في حين أنه لا أمان لهم ولا مبادئ، ومثال على ذلك: صعد عمر البشير إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، غير أن الإخوان يعتبرونه تمكينا لأنه احتضنهم حينها واحتضن زعيمهم الغنوشي، وحاولوا بدورهم الانقلاب على السلطة الحاكمة في 8 نوفمبر 1987 غير أن الجنرال بن علي سبقهم بيوم، وها هم اليوم يسمون إجراء دستوريا قام به رئيس دولة لإنقاذ بلده انقلابا. إنهم بلا مبادئ”.
عبد العزيز القطي النائب السابق في البرلمان التونسي، وأحد مؤسسي حركة نداء تونس، يقول إن الشعب التونسي يعيش حالة احتقان وغضب منذ مدة وخاصة بعد انتخابات 2019، موضحاً لـ”مصر 360″: “حركة الإخوان في تونس تتصدر المشهد خاصة في البرلمان برئاسة الغنوشي الذي فشل فشلا ذريعا في إدارة المجلس، الذي بينما حوله لمزرعته الخاصة خدمة لمصالحه الفئوية والحزبية، وتعمده التغاضي عن العنف المسلط من شركائه كتلة ائتلاف الكرامة على نواب الدستوري الحر ورئيسته عبير موسي وتعطيل عمله”.
هذا بالإضافة للفشل الذريع للحكومة النهضة وحزامها السياسي في إيجاد الحلول الاقتصادية والمالية، وعدم القدرة على مجابهة موجات الكورونا المتتالية لغياب الرؤية، وكذلك ضعفها بعد عملية إعفاء عدد من الوزراء وخلق أزمة سياسية مع رئيس الجمهورية وفقا للنائب السابق والقياي بحركة نداء تونس.
ويردف: “زد على ذلك مطالبة حركة الإخوان بما يعادل مليون دولار تعويضات لما تسميهم مناضليها كل هذا جعل اليوم الأغلبية الصامتة والشباب المهمش يحتج في وجه هذه المنظومة المجرمة، والشعارات المرفوعة دليل على أن الشعب يعي جيدا أن عدوه اليوم هي حركة الإخوان و حكومتها.. اليوم هي بداية حراك مهم ولافت، والمؤكد أنه سيفرض أمرا واقعا جديدا في الأيام القادمة”.