“الإجابة تونس”.. جملة كثيرا ما ترددت في الأعوام العشر الماضية كاستدلال على إمكانية العرب في خوض غمار التجربة الديمقراطية والاشتباك مع تبعاتها.

لكن يبدو أن تونس قد لا تبقى ذلك النموذج، فما تمر به البلاد الآن يلقي بظلال قاتمة على ذلك التصور الوردي.

مكونات الحكم في تونس

قبل محاولة فهم ما جرى في تونس البارحة (25-7-2021) يجب أولا استيعاب مكونات الحكم في العاصمة الخضراء، والتي تتكون من ثلاث قوى رئيسية تتحكم في مجريات السياسة ومساراتها:

1- رئيس الجمهورية:  قيس سعيد، الذي صعد للسلطة في الثالث والعشرين من أكتوبر ٢٠١٩، في لحظة شديدة الارتباك، بحث فيها التونسيون عن رجل “نظيف اليد” خارج النخب الحاكمة والطغمة القديمة. ليظهر لهم الأستاذ الأكاديمي الرصين، الذي لم تتلوث يداه بممارسة السياسة يوما، وأتى ليحدثهم بلغته الفصحى القديمة وخطابه الشعبوي، ليكون الإجابة التي بدت لهم الأنسب في تلك اللحظة على سؤالهم الحيوي: من يحكمنا؟

قيس سعيد

لكن الوقت أثبت أن الرجل الذي صعد للحكم من وراء ظهر الدولة والأحزاب، لا يحسن السياسة مطلقا، وظل متمسكا بخطابه المتشنج دائم الإشارة للمؤامرة التي تحاك ضد البلاد، مؤكدا أنه سوف يحاسب القوى الداخلية الضالعة في التآمر.

ومن فرط استخدام الرجل لمفردات التهديد والوعيد، بات هناك تصور عام عنه في الشارع التونسي أنه رجل “بتاع كلام” حتي فوجئ الجميع بقراراته الأخيرة.

اقرأ أيضا:

قيس سعيد الذي جاء من خارج “السيستم”.. لا يشرب القهوة في “الفيشاوي”

 

2-الائتلاف الحاكم: وهو الائتلاف الذي تشكل ليمثل الأغلبية في البرلمان بعد أن فشل أي حزب سياسي في الحصول على الأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا.

ويتكون الائتلاف من ثلاثة أحزاب، على رأسهم “حركة النهضة” الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين والذي يترأسه راشد الغنوشي السياسي المحنك والذي تولى منصب رئاسة البرلمان.

راشد الغنوشي في البرلمان التونسي

وبجانب النهضة هناك “ائتلاف الكرامة” وهو يمثل أقصى اليمين الديني الشعبوي الذي يقوده سيف الدين مخلوف، إلى جانب حزب ليبرالي آخر وهو حزب  “قلب تونس”، الذي يتزعمه نبيل القروي القابع في السجن منذ ٣ديسمبر ٢٠٢٠.

ويعتبر ذلك الائتلاف (النهضة – الكرامة – قلب تونس) بمثابة الحزام السياسي للحكومة التي يقودها هشام المشيشي.

3-القوى الاجتماعية الفاعلة: ممثلة في “الاتحاد التونسي العام للشغل” الذي يعتبر أكبر قوة اجتماعية نافذة ومؤثرة في البلاد، ومعه “الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة” وهو يمثل أيضا قوة اجتماعية لا يستهان بها ولا يمكن تجاوزها.

الاتحاد التونسي للشغل يمثل قاعدة كبيرة وقما بازرا في المعادلة التونسية

وتقبع في خلفية المشهد الأجهزة الأمنية والتي لها دور هام ومؤثر، ومن خلفها بخطوتين يأتي الجيش، الذي لا يمكن اعتباره فاعل أساسي في المشهد السياسي بحكم تكوينه ومساحة تحركه التي تختلف كثيرا عن مساحة حركة الجيش المصري والجزائري.

تقاطع تلك القوى الثلاث وتفاعلها هو ما سيحدد شكل تونس القادم

 

خلفية الصدام الحالي بين الرئيس وحركة النهضة

 

شهدت العلاقة بين الرئيس وحركه النهضة توترا ملحوظا منذ بداية عهده، وظهرت على السطح بوضوح بعد قرار البرلمان (الذي تسيطر عليه الحركة) سحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ (المواليه للرئيس) على خلفية اتهامات له بتضارب المصالح وفساد مالي لبعض أعضاء حكومته. لتدخل البلاد في لحظه ارتباك انتهت باختيار الرئيس لـ هشام المشيشي، الذي كان وزيرا للداخلية، آنذاك لتشكيل الحكومة الجديدة.

لكن المفارقة أن المشيشي سرعان ما انقلب على الرئيس وتحالف مع ائتلاف النهضة. وقد بدأت إرهاصات ذلك التحول في بوصلة الرجل من اليوم الأول مع ظهور صورة له مع راشد الغنوشي ونبيل القروي في حفلة عشاء.

عشاء المشيشي والقروي والغنوشي

تطورت الأمور بعد ذلك لمشادات مبطنة من الجانبين وتلميحات واضحة من قيس سعيد بأن حركه النهضة تتآمر على البلاد لصالح قوى خارجية، ثم أتت محاولة النهضة لتعديل قانون المحكمه الدستورية بحيث تصدر القرارت بالأغلبية النسبية وليس بثلثي الأعضاء، ليرفض الرئيس ذلك المشروع منوها إننا إزاء محاوله للهيمنة من النهضة، وهو ما وضع البلاد في أزمة دستورية جديدة تضاف إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة.

وعلي صعيد آخر، بدا أن هناك تناحر لا تخطئه عين على تصدر المشهد بين راشد الغنوشي (رئيس حركه النهضة) وقيس سعيد (رأس الدولة)، وهو ما دفع الأخير للتكرار دوما أن للدولة رئيس واحد، مبديا غضبه من زيارات الغنوشي المتكررة إلى تركيا وقطر.

وفي محاولة من حركة النهضة لإحكام السيطرة على الرئيس وتقليص سلطاته، تقدم نوابها في مايو الماضي بمشروع قانون للبرلمان لتعديل القانون الانتخابي الحالي، وتحويل صلاحية الدعوة للانتخابات أو للاستفتاء، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة. وهو ما اعتبره سعيد إعلانا واضحا للحرب عليه، ليرد عليهم ملوحا بورقه الدعوة لانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة، ولتغيير النظام السياسي ليكون برلمانيا صرفا أو رئاسيا.

تزامن ذلك مع قرار المشيشي بشكل منفرد ودون الرجوع لسعيد باجراء تعديل وزاري أقال فيه وزير الداخلية توفيق شرف الدين (المقرب من الرئيس)، بدعوى ضخ دماء جديدة في الحكومة، وهو ما أثار غضب الرئيس معتبرا الأمر انتهاكا للدستور، وامتنع عن استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستوري، لتدخل البلاد في أزمة جديدة، تضاف إلى أزماتها.

الشارع التونسي

وبالتزامن مع الاحتقان الدائم بين الرئيس والإخوان، كان هناك احتقان آخر في الشارع أشد خطورة وأكثر ديناميكية مشفوعا بغضب شعبي متصاعد من النهضة والبرلمان، ناجم عن الأداء الشعبوي الردئ لنواب المجلس، والذي يبث على الهواء، فضلا عن إدارة سيئة للملف الاقتصادي والصحي.

وقسم البعير شعره مشروع القانون الذي عزم البرلمان على إصداره والذي بموجبه تصرف تعويضات لمن عانوا من الانتهاكات في عهد بن علي (أغلبهم إخوان) والتي سوف تبلغ  ٣٦٠٠ مليون دينار تونسي، وهو رقم خيالي بالنسبة لميزانية الدولة، خصوصا في وقت تمر بيه البلاد بأزمة اقتصادية حادة.

وفجأة اندلعت المظاهرات في طول البلاد وعرضها مطالبة برحيل الحكومة وحل البرلمان، وهي المظاهرات التي لم تتبناها أي جهه سياسية، وغير معلوم تحديدا كيف اندلعت؟ هل بشكل عفوي، أم أن هناك من يدير المشهد من داخل الغرف المغلقة؟

لكن أيا كان المسبب، فالمؤكد أن هناك غضبا شعبيا حقيقيا من الأوضاع الاقتصادية والصحية، والمؤكد أيضا أن قيس سعيد وجدها فرصه ذهبية لتوجيه ضربة يحسبها قاسمة لخصومه، معلنا تجميد جميع سلطات مجلس النواب ورفع الحصانة عن كل أعضاء البرلمان. وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي من منصبه.

ضربة الرئيس وتبعاتها

ما فعله الرئيس بالأمس ليس مفاجأة تماما، إذ إنه في الثاني والعشرين من يوليو الماضي نشر موقع موقع “ميدل إيست آي” وثيقة وصفت بأنها “سرية للغاية” قال إنها مسربة من مكتب مديرة الديوان الرئاسي التونسي نادية عكاشة يعود تاريخها إلى الثالث عشر من  مايو 2021  تتحدث عن تدبير الرئيس خطة للخلاص من خصومه، وهي الوثيقة التي لم يأخذها أحد بجديه حينها.

الوثيقة السرية

من جانبه، أعلن الرئيس ارتكانه إلى المادة ٨٠ من الدستور و التي تعطي له مزيدا من السلطات وبإمكانه عبرها تغيير رئيس الحكومة، نافيا عن نفسه تهمة “الانقلاب الدستوري”. لكن الحقيقه إن ما فعله قيس سعيد البارحة هو  تجاوز صريح للدستور الذي لا يعطيه الحق في تعطيل البرلمان لمده شهر، والأخطر من ذلك أنه قرر أن يترأس النيابة العمومية، وبذلك جمع كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يديه!.

ردود أفعال متباينة على قرارات قيس

قرار الرئيس العنيف قوبل بابتهاج شعبوي من أطياف عدة في طول البلاد وعرضها، في مواجهة غضب محموم من أنصار النهضة، تزامن مع دعوة الغنوشي أنصاره للتصدي لهذا الانقلاب، وتوجيه رسالة للجيش بفتح باب البرلمان له ولنوابه. لكن طلبه قوبل برفض من الجيش الذي نفذ تعليمات الرئيس بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة. وهو ما دفع البعض لاعتبار الجيش شريكا في الانقلاب.

حتى الآن لا يمكن التنبأ بما ستجلبه الساعات القادمة لتونس، لكن المؤكد أن هناك عاملين سيساهما في حسم الصراع:

العامل الأول: هو موقف الأحزاب السياسية والتي لم تحدد موقفها النهائي بعد باستثناء “التيار الديمقراطي” وهو حزب قومي ناصري أصدر بيانا معتبرا ما حدث انقلابا. لكن الأهم للجميع هو موقف الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر قوة اجتماعية في البلاد) والذي أصدر بيانا أيد فيه قرارات قيس مشروطة بتحديد ضمانات دستورية مرافقة لقرارات الرئيس، وتحديد مدة تطبيق الإجراءات الاستثنائية والإسراع بإنهائها حتى لا تتحول إلى إجراء دائم.

العامل الثاني: هو موقف القوى الدولية والإقليمية من تحرك الرئيس التونسي، فمن المؤكد أن تركيا وقطر ليبيا سوف يعارضا ما يحدث، لكن ماذا عن أوروبا والولايات المتحدة، هل سيدعما الرجل أم أنه سيواجه ضغوطا دولية للتراجع.

الخوف الأكبر أن يفشل أي من الطرفين في حسم المعركة، كما فشلا من قبل في الوصول إلى حل وسط، ليجد التونسيون أنفسهم في خضم اقتتال أهلي لن يحتمل أحد عواقبه.

حفظ الله تونس.. وحماها وأهلها من كل شر