“أعتقد أن السياحة المصرية لن تتعافى أبدًا من هذا السؤال”.

هكذا كتب أحد المعلقين على موقع reditt  الشهير، ووافقه على تعليقه أكثر من 8 آلاف شخص، أما السؤال الذي شغل مستخدمي الموقع – وهو رابع أعلى المواقع تصفحًا في الولايات المتحدة الأمريكية – وجلب عشرات آلاف التفاعلات، فهو سؤال يقول: “ما هو البلد الذي لن تعود أبدًا لزيارته؟”.

وكانت الصدمة مؤلمة، ليس لأن مصر وردت ضمن قائمة البلدان التي ذكرها المستخدمون، بل لأنها احتلت المركز الأول بفارق ساحق، لدرجة أن الكثيرين ممن لم يزوروا مصر بعد، كتبوا أن تلك الإجابات حطمت أحلامهم بزيارة بلد الأهرمات، الرحلة التي كانوا يمنّون أنفسهم بها منذ الصغر.

في عالم الإنترنت، يتم الانتباه جيدًا إلى ما يسمى “معدل الارتداد” (Bounce rate )، وهو معدل عودة المستخدم لزيارة موقع الإنترنت مرة أخرى، فجميعنا يمكن أن يزور موقعًا ما بالصدفة، أمَّا ما يعني نجاح الموقع حقًا ويدخله في حسابات المعلنين، فهو نسبة عودة هذا القارئ لزيارة الموقع من جديد، كلما زادت نسبة عودة القارئ نفسه، كان معنى ذلك نجاح الموقع في تقديم خدمة متميزة، وإنشاء جمهوره الخاص.

ولا تختلف المواقع السياحية عن مواقع الإنترنت؛ فهناك الموقع الذي يزوره السائح مرة فيقرر أن يعود كل عام، وهناك المواقع التي تشبه المقاهي الرخيصة في مواقف المواصلات، التي تقدَّم أردأ خدمة بأعلى سعر؛ لأنها تعرف أنها لن “تربّي زبون” أبدًا، أو قل أنها لا تهتم بذلك.

سياح في مصر
سياح في مصر

ولابد أنك لا تحتاج للدخول إلى موقع reditt لتتعرف على أسباب من قرروا عدم العودة لزيارة مصر، فهي الأسباب نفسها التي تعلمها، والتي يتلخص أكثرها في التحرش الجنسي والنصب المتكرر والتسول وعدم نظافة الشوارع. لكن الأمر أن المشكلات لا تحل نفسها، وقد تُركت تلك المشكلات لتستفحل طويلاً دون علاج، وقبل سنوات طويلة، في عام 2005،  كتبتُ في جريدة الدستور عن كتب الإرشادات السياحية التي تحذر من التحرش الجنسي في مصر وتدعو السائحات إلى عدم الابتسام أو الحديث إلى الرجال المصريين أو الجلوس إلى جوارهم في المواصلات.. إلخ.

وقبل عدة سنوات أنتجت وزارة السياحة إعلانًا خجولاً ضد التحرش الجنسي كان شعاره “السياحة خير لينا كلنا”!. وكأن مشكلة التحرش أنه يؤذينا اقتصاديًا ويهدد مصدر دخلنا

في ذلك الوقت لم يكن مجرد الاعتراف بوجود مشكلة تحرش جنسي قائمًا، كان يتم تجاهله واعتباره تشويهًا لسمعة مصر حتى بعد أن وقعت حادثة التحرش الجماعي الشهيرة في وسط البلد. وقبل عدة سنوات أنتجت وزارة السياحة إعلانًا خجولاً ضد التحرش الجنسي كان شعاره “السياحة خير لينا كلنا”!. وكأن مشكلة التحرش أنه يؤذينا اقتصاديًا ويهدد مصدر دخلنا، فلو لم يكن يفعل ذلك فلا عيب فيه! والواقع أن هنا كما يقال “مربط الفرس”.

إن لي صديقة تحب أن تصف الشخص سيء السلوك بأنه “ما تربّاش ربع ساعة”. والواقع أن سلوكيات الكثير من المصريين، سواء كانوا مارة في الشوارع أو قادة سيارات، جيرانا في السكن أو في الحي أو الكومباوند، تجعلنا أمام تساؤل حقيقي عن فحوى التربية التي أنشأتهم، ما الذي استمعوا إليه صغارًا من الأهل وفي المدرسة حتى ينشأ كل هؤلاء المتحرشين، وكل أولئك المعنّفين، وموسخي الشوارع ومزعجي الجيران؟ فضلاً عن اعتبار النصب على الغريب شطارة وعلى القريب فهلوة.

صحيح أن الدولة انتبهت أخيرًا إلى استفحال مشكلة التحرش وتحاول مواجهتها بالقانون، لكن الطريق لا تزال طويلة، ومعركتها الأكبر على المستوى الديني والتربوي

يمكن أن أستمر إلى الغد في سرد تلك السلبيات التي تستحق أن نناقشها بتأنٍ، ولكن دعنا نقول إنه من السذاجة تصور أن “يعيش لنا” سيّاح إذا كانت تجربتنا كمواطنين في بلدنا هي تجربة إزعاج وتسول وتحرش، إن إنشاء المتاحف الجديدة شيء عظيم، ولكنه لن يحل المشكلة الأساسية وهي “السمعة” التي يتناقلها السائحون عن تجربة زيارة مصر، وعلى رأسها زيارة هضبة الأهرامات التي هي بلا شك أهم مزار سياحي على كوكب الأرض، ومع ذلك تكاد تكون – وعلى مدى عشرات السنين-  أسوأ تجربة سياحية على الإطلاق، للمصريين قبل الأجانب، ولهذا ليس غريبًا أن مدينة صغيرة مثل دبي تستقبل سياحًا ( 16.5 مليون عام 2019) أكثر مما تستقبله مصر بأكملها (13.5 مليون في 2019 )، بينما استضافت تركيا في العام نفسه 52 مليون سائح! إن الفارق الكبير بين تلك الأرقام ليس فارق الآثار أو الإمكانات السياحية بل فارق التجربة التي يعيشها السائح في كل بلد، وصحيح أن الدولة انتبهت أخيرًا إلى استفحال مشكلة التحرش وتحاول مواجهتها بالقانون، لكن الطريق لا تزال طويلة، ومعركتها الأكبر على المستوى الديني والتربوي، إذ كيف يمكن أن تمشي سائحة بأمان في شوارعنا إذا كنا نسمح لأحد الدعاة البارزين أن يقول علنا إن الرق ليس جريمة.