حجب الميراث من المسائل الشائكة والمسكوت عنها في المجتمعات المتدينة والمحافظة. مثل المجتمع المصري. ويتم غض الطرف عنها وتجاوزها رغم معارضتها لصريح الدين في توزيع الحقوق وحصص الأنصبة دون انتقاص.

وتلعب العادات والتقاليد والموروث الشعبي في المجتمعات المحافظة في الريف والصعيد. الدور الأخطر والأهم في حجب بعض الأفراد من الوصول إلي حقهم الشرعي في الميراث. مثل استحواذ الأخ الكبير علي الحصة الأكبر منه في أغلب الأحول. خاصة إذا رحل الأب في فترة مبكرة وقام هو بإدارة أعماله. وفي الغالب يُبرر ذلك الاستحواذ بأن “الكبير” دافع عن هذا المال أو قام بحراسته ورعايته.

الأم تمنع ابنتها من الميراث

من المفارقات الكبيرة التي تجدها في هذه المجتمعات المحافظة أن تمثل “الأم” معارضا قويا أو حاجب في منع “الابنة الأنثى” من الحصول على حقها الشرعي في الميراث. تحت مبرر عدم ذهاب أصولهم من الأراضي أو العقارات إلي عائلة أخري فيما يطلق عليه “الاقتصاد العائلي”. وتساوم ” الأم ” البنت علي نصيبها مقابل حصولها علي فرصة التعليم أو ما تم إنفاقه علي تجهيزها عند الزواج. علي الرغم من الابن الولد يحصل عن نفس فرص التعليم ويتم إعداد بيت الزوجية له ومساعدته ماديا في الزواج ولا يتم احتساب ذلك من نصيبه في الميراث.

من قلب الصعيد. نساء كيف حرمن من ميراثهن بحجة إنفاق نصيبهن في تعليمهن. في وقت انحازت الأم للذكور. وانتصرت للعادات والتقاليد ولم يفلح التعليم أو حتي الشاهدات الجامعية للبعض في تغيير الواقع الأليم وتمكينهن من الحصول علي حقهم في الميراث بقوة الموروث.

الحجب يخالف الشرع
الحجب يخالف الشرع

التعليم لم يغير الواقع

مرفت إبراهيم واحدة من الحالات العديدة التي عانت من غبن عائلي. بسبب  تحيز الأم للأبناء الذكور. نشأت مرفت في إحدي قري محافظة الفيوم. وحصلت علي ليسانس لغة عربية من كلية دار العلوم جامعة القاهرة.

تروي ميرفت قصة حرمانها من ميراث أبيها: عندما جئت إلي الجامعة: تصورت أنني قادرة علي تغيير الواقع وتخطي كل الحواجز من عادات وتقاليد بالية وأن نصيبي من التعليم هو سلاحي في الدفاع عن حقي. لكني اكتشفت بعد سنوات إنني لم أكن قارئة جيدة للمجتمع الذي تربيت وعشت فيه. كنت أظن أن أسرتي لا تفكر بهذه الطريقة الرجعية وإنها تجاوزت مرحلة التفريق بين الولد والبنت. وأننا تخطينا مرحلة تسلط العادات والتقاليد الصماء وإلا ما أدخلوني الجامعة أصلا.

“بعد تخرجي تزوجت وانتقلت إلي حياة جديدة في القاهرة مع زوجي وبعد وفاة والدي بخمس سنوات أراد أخي الأصغر أن يتزوج ولم يكن يرغب في بناء شقة له في بيت أبينا مثل باقي أخوته وكان يرغب في الزواج في شقة أبي التي تربينا فيها هذه الشقة كانت مرسي لي ولأخواتي البنات الاثنين”. تقول ميرفت.

النساء تحرم من ميراث العقارات والأراضي
النساء تحرم من ميراث العقارات والأراضي

تكمل ميرفت قصتها: فؤجئت برد فعل أمي وهي تقول أنت بالذات مش من حقك تعترضي  أنتي أخر واحدة تتكلم. أنت صرفتي حقك في الميراث في تعليمك!.

تتذكر مرفت: لم تمح تلك اللحظة البائسة من ذاكرتي. عندما تعثرت خطايا وتحطمت مُثلي وأفكاري وشعرت بخيبة أمل كبيرة. لأنني لم أكن علي وعي كامل بضحالة الواقع الذي عشته وتربيت فيه.

تتابع مرفت سرد قصتها: خرجت من بيت أبي منكسرة ومطرودة وأنا أجر أذيال الخيبة ودموعي تنهمر وكان رجائي أن يلحقني أحد ويقول لي أن ما حدث كان مجرد حلم كئيب.

“ابتعدت كثيرا عن والدتي التي ظلت طول الوقت تحرض إخوتي الذكور الخمسة ضدي وأقنعتهم إنني طمعانة فيهم وبحسدهم وليس من حقي أن أطالب بآى شيء و حسب تعبيرها قالت أمي “تعب الرجالة لا يذهب للأغرب يعني زوجي”..

6 سنوات مرت علي الواقعة لم تتمكن ميرفت فيها من دخول بيت أبيها الذي تربيت فيه. لم تحرم فقط ميراثها إنما حرمت من ذكرياتها طول 25 عاما..

40 عاما من المنع 

سامية عبد التواب سيدة تبلغ من العمر 65 عاما تعيش في قرية صغيرة تسمي كفر محفوظ تابعة لمركز طامية في محافظة الفيوم. منعت منذ 40 عاما من دخول بيت أبيها عقابا لها على مطالبتها بحقها في الميراث بسبب ضيق الحال وظروف زوجها الاقتصادية الضيقة.

تروي سامية: حرمتني أمي من رؤيتها لمدة 29 سنة ومن ميراثي. وساندت أخي الأكبر سيد في منعي من دخول البيت. استخدمت كل الطرق والوسائل لمصالحتها وحاولت إرضائها حتي بالتنازل عن الميراث الذي لم احصل عليه أصلا لكنها لم ترضي عني. وكانت كلما تقابلنا في مناسبة عائلية أو بالصدفة تدير وجهها عني.

كنت كلما اشتقت إليها أذهب إلي الجنازات الموجودة فيها أو انتظرها في أحد الشوارع وهي عائدة للبيت لأراها وهي تمر وبعد وفاتها حرمت من أخذ عزاءها وقام أخي بطردي من الجنازة أمام الناس من علي عتبة البيت.

 

تكرار التغرير

يتكرر التغرير لتمرير الوقائع والاعتداء لتضييع الفرص. وتروي ضحية أخري هي عبير محمود أن علاقتها انقطعت بأهلها منذ خمس سنوات. عندما فوجئت أن أبيها سجل بيته في مدينة القوصية بمحافظ أسيوط الذي يقدر ثمنه بــ 3 مليون جنيه لإخوتها الذكور. واستبعدها هي وشقيقاتها الأربعة من الحسبة بمساندة إلام ومباركتها.

تحكي عبير: تدخلت أمي لتغريرنا وأقنعتنا أن أبي سيقوم في المقابل بكتابة شقة لكل بنت في عمارة يمتلكها في حي مصر القديمة في القاهرة. لكنها كانت مجرد تهدئة لا أكثر حتي تمر الخطة بسلام وعندما طالبتها بتنفيذ وعدها بتسليم الشقة قالت لي: “هو أنتي محتاجة يا عبير ما أنتي جوزك ربنا فاتحها عليه مستكثرة علي أخواتك الاثنين حتة بيت نكتبه لهم”.

تشير عبير إلي أن معاملة زوجها تغيرت معها بعد هذه الواقعة. وأصبح أكثر قسوة لشعوره بتخلي أهلها عنها.

سامية مسعود عبد الله تروي: والدتي ظلت تساندي شقيقي عاصم الذي يعمل مهندس إلكترونيات في المملكة العربية السعودية واستحوذ على ممتلكات أبي تحت ذريعة أنه يجددها.

بدء الأمر –بحسب سامية-، عندما طلب الأخ أن يبيع أرض أبيه من أجل شراء قطعة أرض أكبر لكنه سجل الأرض الجديدة باسمه. وتكرر الأمر مع سيارة الأسرة..

تتابع سامية: لم ينتبه أبي لهذه المخططات إلا مؤخرا بعد فوات الأوان. عندما طلب أخي منه أن يبيع له مخزن أخشاب. شعر أبي بحجم المؤامرة عليه وقال له أنت جردتني من أملاكي وأنا حي. ماذا ستفعل بعد وفاتي.

الميراث مقابل الجهاز

سامية خريجة كلية حاسبات ومعلومات جامعة الإسكندرية. من مواليد محافظة الغربية. تقول: كنت دائمة الاعتراض علي تصرفات أخي عاصم وأراه يطمع في حق إخواته ويريد أن يستبعدنا من الميراث. لكن أمي كانت دائمة المساندة له قائلة: يا سامية بطلي تسليط في أبوكي.

من أكثر الأشياء قصوة أن يطلب منك أن تتخلي عن حقك مقابل مبلغ زهيد من المال. وكأنه حق مكتسب للأخر أن يبخسك حقك خاصة الإناث. حيث يتم تثمين أنصبتهم بأقل من قيمتها الحقيقة. لأن البنات لا ترث. وفي حالة حصولها على نصيبها يقتصر الأمر على الأموال فقط وليس الأراضي أو العقارات.

 

بسمة جمعة من محافظة الدقهلية. تروي أن إخوتها منعوها من الحصول علي إرثها بحجة أن زوجها يعاملها معاملة سيئة ويخشون منحها حقها خوفا من استحواذه عليه.

وتقول: عندما طلبت أن أحصل على نصيب في بيت أبي “شقة” لتعيش فيها لتحميها من الإيجار الذي يلتهم معظم دخل أسرتها  قالوا لها ” بيوت الرجالة لا تذهب للنساء.

تروي نسمة: ذهبت لعمي وهو طبيب بشري تخصص أمراض نساء في منطقة المعادي لاشتكي له بعد أن ساندت أمي أبنائها الذكور في حجب ميراثي وانحازت لهم. لكني فوجئت برد فعله. قائلا عايزة تاخدي حقك خدي  فلوس مش عقارات ولا تأتي برجل غريب يعيش في منزل أخي”.

تقول نسمة: هذا عمي الذي حصل علي أعلى شهادة جامعية ينتصر للعادات والتقاليد. علي حساب الحق والشرع.

البنات في الصعيد بتتراضي

مني عبد المجيد امرأة في منتصف الثلاثنيات حاصلة علي بكالوريوس تربية من جامعة أسيوط  وتعمل مدرسة لغة إنجليزية. وهي شقيقة صغرى لــ 6 أخوة من أم ثانية. تقول: أن شقيقتاها منعتاها من الحصول علي ميراثها في بيت أبيها. وبررن ذلك بأن بيوت الرجال لا تباع وأن بيت أبيهن من حق أشقائنا الذكور.

وتابعت: بعد مرور عشر سنوات تزوجت خلالها وأنجبت ثلاث أولاد. اختلف أشقائي الذكور على البيت وباعوه. ولكي تكون عملية البيع قانونية لابد من توقيع باقي الورثة على العقد. وطلبوا مني الموافقة علي البيع مقابل مبلغ مالي. وعندما رفضت تدخل أبناء عمي وقالوا: البنات بتتراضي يا أبلة مني مش بتورث ودي عاداتنا وتقاليدنا ومحدش يخرج عن الأصول ارضي باللي هيعطه لك أخواتك أحسن من ما فيش” .

 

تؤكد مني أنها رفضت الخضوع لهذا الابتزاز الصريخ. ورفعت دعوى قضائية ضد أشقائها الذكور الذين يطلبون منها أن  تتنازل عن حقها في ما يطلقون عليه “التراضي”.

أسباب اعتراض الأم

الدكتور طه أبو الحسن أستاذ الصحة النفسية كلية التربية جامعة الأزهر. يعتبر أن اعتراض المرأة الأم على توريث الابنة. ناتج عن موروث جاهلي تربت عليه هذه الأم يظهر من خلال معاملاتها مع الأبناء الإناث. فهي في الغالب تربي حسب نشأتها وتريدها أن تحصل علي نفس الحقوق والمكتسبات التي حصلت هي عليها.

ووصف طه هذه الممارسات الخاطئة بأنه جهل مطلق للتأثير البعيد من انتقال دورة رأس المال عبر أفراد عديد وعائلات مختلفة.

عوامل نفسية

يكشف طه عن أن هناك عوامل نفسية. ترسخت في  وجدان الأم هي التي تجعل لديها ما اسماه “عوامل الحقد”. كامنة داخلها وتراكمت عبر السنين نتيجة الحرمان ولا تظهر إلا بتكرار المواقف والمشاهد.

وأضاف طه، أن ميل الأم للأبناء الذكور وحرصها علي أن يكونوا الأفضل ماديا واجتماعيا ما يصوغ لها الوقوع في مثل هذه التصرفات التي لا تتسق مع صحيح الشرع في حفظ المال الموروث وعدم العبث به.

عوامل اجتماعية

وعن العوامل الاجتماعية لأسباب هذه الظاهرة البغيضة في بعض العائلات. تقول الدكتورة ثريا عبد الجواد أستاذ الاجتماع القانوني ووكيل كلية الآداب جامعة المنوفية: يصعب في المجتمعات المحافظة الفصل بين المقدس الديني والموروث من العادات والتقاليد.

وتصف المجتمعات بأنها تعامل المرأة بعقلية القرون الوسطي. وأن كل المجتمع وليس المرأة فقط خاضع لهذا الظرف التاريخي. حيث يتم استخدام الدين ونصوصه وإيقاظ الشريعة لإسكات المرأة ووضعها في مكانة أدني من الرجل. وإقناعها بأن اعتراضها علي هذه الممارسات هو خرق للدين والمقدسات.

وأكدت أن هذه الممارسات الاجتماعية ترسخت في وعي المرأة حيث ارتبط في ذهنها أن هذا الرجل سواء كان الزوج أو الابن هو حامي الأسرة وهو الذي ينفق عليها بالتالي من حقه انتقال الثروة إليه دون الإناث.

دكتورة هدي زكريا أستاذ علم الاجتماع السياسي جامعة الزقازيق. تؤكد أن العادات الاجتماعية خاصة في الريف والصعيد. تحرص علي أن لا يخرج المال الموروث عن نطاق العائلة. فيما يعرف بـ”الاقتصاد العائلي”. حيث تعمل العائلة كلها في دائرة مغلقة. وتعامل زوج البنت علي أنه غريب لا تنتقل إليه الثروة تحت ذريعة أن المرأة تقع تحت حماية هذا الزوج. وهي حماية غير أمنة ومن الممكن أن يقوم ذلك الزوج بالضغط عليها بشكل عنيف وأخذ المال منها.

صعوبة حماية الإناث

وتلفت هدي إلى أنه يصعب حماية الإناث في هذا الوضع الاجتماعي الضعيف حيث تعطي هذه المجتمعات الرجل عناصر القوة من المال والسلطة وممارسة الحقوق الساسية دون النساء.

وأشارت إلي أن الأمهات في هذه البني الاجتماعية الضعيفة تعمل مندوبات في تطبيق أعرافه وتقاليده. وتربي الإناث كما يريد المجتمع. وتنفذ الرؤية الذكورية. فيما اسمته هدي حقائب اجتماعية علي الإناث لا تستطيع مخالفتها أو الخروج عن هذه الثقافات فيما يعرف بالعادات والتقاليد