أعظم انتصاراته قتلته. عبارة تداولها رواد التواصل الاجتماعي خلال اليومين الماضيين. على خلفية جريمة عنف زوجي قامت خلالها الزوجة بقتل زوجها في أعقاب محاولاته خنقها والاعتداء عليها بحسب الطب الشرعي الذي أقر بوجود سحجات على رقبة الزوجة.
ترجع العبارة إلى منشور رومانسي، شاركه الزوج قبل الواقعة مع أصدقائه على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” قبل الواقعة. يظهر فيه حبه لزوجته التي اعتبرها بحسب وصفه “أعظم انتصاراته”، ليتجدد الجدل حول وهم السوشيال ميديا .
وهم السوشيال ميديا.. كرة الثلج
أصبحت منصات السوشيال ميديا بالنسبة للغالبية العظمى منا، أدوات أساسية لوجودنا اليومين. وبحسب الخبير الانجليزي بالقياس النفسي، ومحلل البيانات كيث ماكنتلي. فإن شبابنا ينمو في عالم تشكل فيه وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا من نسيج الحياة الطبيعي.
ويقول: لا تستطيع ابنتي الكبرى الانتظار لتصل إلى فيس بوك أو انستجرام رغم محاولاتي المستمرة لإبعادها عنهم لأطول فترة ممكنة. كما تقضي ابنتي الصغرى معظم وقتها في مشاهدة أشخاص آخرين يلعبون ألعاب الفيديو على يوتيوب. أنا متأكد من أن هذا يبدو مألوفًا جدًا للكثير منكم”.
ما مخاطر ذلك؟
يقول ماكنتلي لدي مخاوف بشأن البيئة التي تخلقها وسائل التواصل الاجتماعي وكيف تؤثر على حياة الناس، ولا سيما حياة الجيل الأصغر سنا، يشاركني في ذلك الكثيرين مما بدأوا في دراسة تاثير هذه المواقع على الرفاه النفسي للبشر، ويُجرى الكثير من العمل حاليًا لتحديد ما إذا كانت الزيادات الكبيرة في معدلات الانتحار بين الشباب في العديد من الدول الغربية في السنوات العشر الماضية مرتبطة بفقاعة وسائل التواصل الاجتماعي.
خدعة الكمال
مجرد إلقاء نظرة واحدة على خلاصة أخبار وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بك، يمكنك بالفعل أن تشهد الكمال في كل شكل يمكن تخيله.
صور شخصية مفلترة، صور زفاف صديقك الشديدة المثالية، وصور الإجازات اللانهائية التي تجعلك تفكر فيما تفعله بحق الجحيم في حياتك المملة والمثيرة للشفقة.
بدأت وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لبناء روابط ذات مغزى. وكادت أن تستمر في لعب هذا الدور، لكن ثقافة المشاهير حولتها إلى آلة علاقات عامة كبيرة يمكن للجميع الوصول إليها.
وبحسب الخبير ماكنتلي: لا تعرض وسائل التواصل الاجتماعي سوى الإيجابيات البارزة والمظاهر البراقة للأشخاص، وليس أخطاءهم الغامضة ولا ما وراء الكواليس.
وبناء عليه أصبحت هذه الوسائل تهديد خطير لصحتنا العقلية.
وفي دراسة أجريت عام 2014 في مجلة علم النفس الاجتماعي والإكلينيكي. وجد الباحثون أنه كلما زاد الوقت الذي يقضيه الأشخاص على فيس بوك. زاد احتمال تعرضهم للاكتئاب.
وسائل تغذي ميلهم لمقارنة أنفسهم بالآخرين
يقول ماكنتلي: يمكن أن تأخذ الأمور منعطفًا قبيحًا إذا قارنا جنة شخص آخر بأغوارنا الخاصة. أو إذا قارنا أنفسنا بشخص في مرحلة مختلفة تمامًا من الحياة.
وتابع: عندما تنظر إلى حياة الآخرين، لاسيما على انستجرام من منطلق كونه منصة لنشر الصور فقط، يكون من السهل أن نستنتج أن حياة أي شخص آخر أمتع وأفضل من حياتك، ووفقاً لنظرية المقارنة الاجتماعية، يبني الناس قيمتهم بأنفسهم بناء على أفضليتهم عن الآخرين.
يبدو أن عدم المشاركة في هذه المقارنات الاجتماعية المدمرة للذات هو الخيار المنطقي الوحيد لوقف هذا الجنون. لكن التحرر من فخ المقارنة ليس سهلاً كما يبدو بحسب ماكانتالي.
كما يشير باحثون إلى أن التعرُّض المفرط لفيسبوك وإنستغرام وغيرهما، يغذّي كثيراً السخط والتذمُّر والقسوة أكثر من أي شيء آخر، بما يعرض التعاطف الإنساني الذي طوَّرَته البشرية آلاف السنين لخطر حقيقي.
وهم المجانية
إنّ مجتمع اليوم بوصفه مجتمعاً للفرجة: يُفضِّل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التّمثيل على الواقع، المظهر على الوجود. وما هو مقدّس عنده ليس أكثر من الوهم، أمّا ما هو مدنّس فهو الحقيقة عينها. إنّه يقدّس الوهم على حساب تدنيس الحقيقة. بهذا المعنى تَكون: الفرجة مجتمعاً، والمجتمع فرجة. هذا هو مجتمع الفرجة.
مجتمع الفرجة
أصبح العصر الحديث والرأسمالية عنوانا لـ “مفيش حاجة بلاش”، والجميع على يقين من ذلك. ولكن نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في إيهامنا بمجانية خدماتها. فيما هي تستثمر في تغيير أفكارنا، وسلوكياتنا. وجعلنا جميعا زبائن محتملين لأسواقها. وبذلك فهي تستثمر طوال الوقت في أعز ما نملك ألا وهو عقولنا. فتشكلها كيفما ترى، وتشوهها بحسب بوصلة المكاسب.
وفي كتابه “مجتمع الفرجة” يصور “ديبور” العلاقات اجتماعية التي تتوسطها الصور” والتي يبثها الإعلام وما استحدثه العالم من وسائل للتواصل الاجتماعي، وتعكس “الفرجة” رغبة قوية في أن يكون العالم تحت ناظري الإنسان، لكن ينبغي التنبه إلى أن الصورة لا تنقل الواقع الفعلي بقدر ما تروج لمظهره.
في هذا المجتمع يصبح الفرد صورة أمام محيطه، بديلًا عن الواقعي، وتتبدى الحياة الإنسانية مجرد مظهر، لتصبح المجتمعات وسائط لتلك الوسائط حيث صار الإنسان نفسه وسيطاً لإنتاج الوسائط المعنية، ومن ثمَّ تحويل الواقع الإنساني إلى فرجة. إذ لا يكاد أيّ فعل اجتماعي في الوجود إلاّ وتسارع نقله “افتراضياً” لكي تنفخ فيه وسائل التواصل الاجتماعي.
وكانت النتيجة تلاشي الذات الإنسانية وخصوصية الفرد الأصيلة، لصالح سلع مفبركة تجاريا، ودخول سوق تنافس العروض بالرهان على مظاهر ليست كما تبدو ولا تنتمي إلى ذواتنا، أو على حد تعبير جان بودريار: “التظاهر بامتلاك ما لا نملك”.
أين وصلنا؟
طرحت عالمة النفس الأمريكية جين توينج كتابا بعنوان يثير قدرا كبيرا من القلق، وقرع أجراس الخطر، ويدعى “جيل التقنية: لماذا يكبر أطفال الإنترنت اليوم أقل ثورية، وأكثر تسامحا، وأقل سعادة، وغير مؤهلين تماما لمرحلة الرشد؟!”
وفي كتابها تتساءل توينج عن شرعية القلق بخصوص جيل من الشباب الهشن القابلين للكسر بسهولة، واثر ذلك على المجتمع، وهو الجيل الذي دخل الجامعات حاليا، كما ان منهم في عالمنا العربي من هو مسؤول عن أسرة، فيما هو يعاني من طفولة لم تفارقه منذ المراهقة.
ويبدو أن لمواقع التواصل الاجتماعي صلة ومساهمة في تلك الهشاشة، التي جعلته منكبا على ذاته، وتفاصيله، متخيلا أن العالم يدور حوله وحده، فهو الأقل حماسا للاشتراك في النضالات المجتمعية، والقضايا الكبرى، مكتفيا بالنجاة الفردية، والتي لم ينجح في تحقيقها، كما صورت له الحياة الافتراضية، بل وزادته انعزالا واكتئابا.
حتى وصلنا إلى التشيؤ وهو إن كان ثمة الرأسمالية، فهو سيد الموقف في النيوليبرالية، تشيؤ المشاعر، والحب، والعلاقات الإنسانية، والذي حدثنا عنه زيجمونت باومان في كتابه “الحداثة السائلة”
بعد أن ساهمت الحداثة بمرحلتها المعلوماتية في انعدام الأمن والاستقرار الاقتصادي للانسان، فأصبحت علاقاته وروابطه على نفس المستوى من التدهور، فصارت الروابط الاجتماعية مؤقتة، تستهلك لاتنتج، ولمرة واحدة.
فالناس الذين لايشعرون بالأمان بحسب باومان عصبيون يميلون إلى تحقيق رغباتهم وكفى، كذلك جعلت مواقع التواصل العلاقات كحال السلع في الأسواق، ذات طبيعة مؤقتة، كما يهدف أغلبها إلى الاشباع الفوري، والرفض دون بذل أدنى مجهود في محاولة الحفاظ عليها، في حال لم توافق تلك السلعة هوى المستهلك.