يحصل المولود الجديد في بلادنا على وثيقة ورقية فور ولادته، تحمل اسمه واسم أمه ثم أبيه واثنين أو أكثر من أجداده لأبيه، مثلما تحمل الوثيقة كذلك نوع المولود ذكراً أو أنثى ومحل الولادة وموضع الإقامة، وذلك كله مع تاريخ مولده الذي قد يُحْتَفَلُ به كل عام فيما بات يُعرف بأعياد الميلاد.

هذه الشهادة أو الوثيقة تحفظ لصاحبها حقوقه في خدمات رعاية الطفولة والأمومة وتُكسبه وضعًا قانونياً يلازمه طوال حياته، حتى يواريه التراب ويتم استصدار الوثيقة الأخيرة في حياته، وهي شهادة الوفاة.

“شهادة المواطنة” التي تثبت أن الإنسان هو مواطن جديد شريك حقيقي في ملكية هذا الوطن وليس مجرد عابر سبيل تنقضي رحلته بين مولده ووفاته

بين المحطتين والشهادتين؛ أيّ بين الميلاد والوفاة، يعجز إنسان هذه المنطقة من العالم عن الحصول علي الشهادة الأهم: وهي “شهادة المواطنة” التي تثبت أن الإنسان هو مواطن جديد شريك حقيقي في ملكية هذا الوطن وليس مجرد عابر سبيل تنقضي رحلته بين مولده ووفاته، وبالتأكيد لا أقصد بوثيقة المواطنة مجرد بيان ورقي يتم استنساخه من مكاتب وزارة الصحة بعد ختمه بالأختام الرسمية للدولة المصرية، ولكن أقصد الإقرار العام بأنَّ هذا المولود هو مالك وسيد وصاحب حق، يتساوى قدراً ومقاماً وحقاً وواجباً مع كافة المواطنين أمثاله، فلا يمنعه فقر والديه من حق هو له، ولا يمنحه غنى والديه وضعاً لا يستحقه، وهذه – في وجهة نظري المتواضعة – مُعضلة الإنسان في منطقتنا: هل نحن مجرد مواليد أم نحن مواطنون؟، هل انتسابنا للوطن يكون بمقدار ما يحوزه الوالدان من مركز اقتصادي واجتماعي أم بمقدار متساوٍ مع غيرنا من المواليد، بغض النظر عن تفوق ذويهم في المراكز الاقتصادية والاجتماعية؟، هل نتساوى مع غيرنا في الحقوق والوجبات أم علينا الواجبات ولغيرنا الحقوق؟

عشنا، كما عاش غيرنا، في شرق العالم وغربه مجرد رعايا لا مواطنين، أحقاباً طويلةً من الزمن، ولكن في القرون الأخيرة حدث التمايز الأكبر في التاريخ حيث اختارت أوروبا الغربية ومن يدورون في فكلها القريب – مثل الأمريكان- مسارات انتهت بها إلى ما يُعرف اليوم باسم الديمقراطية الحديثة، والتي تعود بذورها الأولى وجذورها البعيدة إلى التراثين اليوناني والروماني أو إلى أثينا وروما.

لكن أوروبا- بكاملها- ليست واحدة، فكثير من شرقها أقرب إلى الشرق يقفون على الجسر أو على منتصف الطريق بين الرعايا والمواطنين.

مصر قطعت ما يزيد على قرنين من الزمان في التحديث المتعثر، تقف مثل شرق أوروبا على منتصف الطريق بين الرعايا والمواطنين

وفي بلادنا- الشرق الأوسط بكل مكوناته من عرب وفرس وكرد وترك وأمازيغ وأفارقة- لسنا سواء، فبلد مثل مصر قطعت ما يزيد على قرنين من الزمان في التحديث المتعثر، تقف مثل شرق أوروبا على منتصف الطريق بين الرعايا والمواطنين، بينما ما زالت كثير من البلدان مجرد رعايا يشملهم ولي الأمر بعطفه أو بقسوته، حسبما يراه صالحاً لهم.

صحيح أنَّ أعداداً ضخمة من دعاة وزارة الأوقاف، بما في ذلك الوزير نفسه وكذلك دار الإفتاء ومن يتولون الفتوى الرسمية وفي مقدمتهم فضيلة المفتي يتولون- بوعي أو بدون وعي وبتوجيه أو بمبادرة ذاتية – الترويج في خطبهم وكتبهم وأحاديثهم وفتاواهم لنظريات الرعية وولي الأمر، لكن ذلك المجهود، رغم ضخامته ورغم صخبه وضجيجه، لا يجد آذانًا تسمعه بجدية واهتمام، وذلك لسبب بسيط جداً؛ وهو أنَّ الوعي العام لدى جمهرة المصريين قد تجاوز ذلك النمط القديم من الفكر السياسي للعصور الوسيطة (الراعي والرعية أو ولي الأمر والرعية) فالمصري- في أيّ مركز اجتماعي كان- يوقن في قرارة نفسه أنه ولي أمر نفسه لا سلطان عليه إلا سلطان الأمر الواقع، والوضع الظالم الذي عاد بالمصريين إلي مربع الحكم الفردي المطلق.

نختلف عن غيرنا، بالذات في المشرق العربي، بأنّ عندنا جمهورية وهذه نقطة تفوق، لكن الرئيس فيها- للأسف الشديد- يستمع بسلطات ملك وراثي ورث السلطة عن آبائه وجدوده، ويمارسها كذلك على نحو ملكي مطلق بلا قيود ولا ضوابط ولا أغلال، فكل ما على الرئيس الجديد أن يفعله هو ممالأة العواطف الشعبية في أيامه الأولى، ثم التخلص من خصومه من القوى الاجتماعية والسياسية، ثم التخلص من منافسيه داخل الدولة، ثم التخلص من مواد الدستور التي تقيد استعداده للطغيان، ثم المجيء بدستور جديد معدل يضمن له البقاء الآمن المُطمئن في القصر الجمهوري إلى آخر يوم في حياته، أو هكذا يخطط على الأقل.

هذا التشوُّه في البناء الجمهوري أفرز تشوهات فرعية كثيرة في مجمل الواقع السياسي المصري، فعندنا برلمانات لكنها تعبر عن إرادة الحاكم أكثر مليون مرة من تمثيلها للشعب

هذا المسار المتكرر شوَّه الجمهورية، فلا هي جمهورية حقيقة ولا هي ملكية حقيقية، وهذا التشوُّه حرم النظام الجمهوري منذ إعلانه عام 1953م، من أن يكون إطاراً مناسباً تستطيع مصر من خلاله أن تجد نفسها وتصنع تجربتها وتحقق مطامحها القومية وتتبوأ المركز الإقليمي والدولي الذي تستحقه كبلدٍ يملك كل إمكانات التقدم والمنافسة مع الكبار.

هذا التشوُّه في البناء الجمهوري أفرز تشوهات فرعية كثيرة في مجمل الواقع السياسي المصري، فعندنا برلمانات لكنها تعبر عن إرادة الحاكم أكثر مليون مرة من تمثيلها للشعب، وكذلك عندنا انتخابات لكنها غير عادلة وغير نزيهة وتفرز من يرضاهم الحكام أضعاف أضعاف من يرضاهم الشعب، وقل مثل ذلك عن باقي المؤسسات والأفكار.

تستطيع – وأنت مُطمئن – القول إنّ بلدًا مثل مصر فيها نسختها الخاصة من كل شيء حديث، من الدساتير إلى القوانين إلى المؤسسات إلى المحاكم إلى الصحف إلى الإعلام إلى الجامعات إلى المجتمع المدني، لكن- للأسف الشديد- يتم توظيفها عملياً وواقعياً لخدمة وتمكين حُكم فردي مطلق، كلما انتهى حكم فردي نهض مكانه حكم فردي جديد، يستأنف مسيرة الاستبداد بعد فترة انتقالية قصيرة لزوم إنجاز العودة إلى المربع صفر.

في نظام جمهوري هذا هو مضمونه ومحتواه نظفر بالمتناقضات التي تفوق القدرة على تصديقها أو استيعابها أو الجمع بينها، وسوف أكتفي بتناقضين اثنين فقط:

أولهما: نصوص دستور 2014 م فيما يخص رئيس الجمهورية من المادة (139) حتى المادة (162)، وهي الخاصة بشروط الترشح للمنصب وصلاحياته وسلطاته ومساءلته ومحاسبته وسحب الثقة منه وعزله، اقرأ تلك المواد ثم انظر وتذكّر ما جرى في انتخابات الرئاسة 2014 م، والتي لم تكن منافسة سياسية حقيقية تليق بنظام جمهوري، وتكرر المشهد بصورة أكثر تناقضاً في انتخابات 2018 م، فهي كذلك لم تكن انتخابات حقيقية تليق بنظام جمهوري، ومثلهما جاء استفتاء تعديل الدستور في 2019 م، وهو كذلك كان استفتاءً لا يختلف عن غيره من الاستفتاءات المصرية منذ تأسس النظام الجمهوري عام 1953م.

أما ثاني التناقضات في نظامنا الجمهوري المشوَّه فهو ما يختص بالحريات العامة دون سواها، وإذا تصفحت صفحات الدستور- حتى بعد تعديله- سوف تجد موادَّ ممتازة لا تقل في عظمتها عن دساتير وأعراف وممارسات أكثر الدول عراقة في التطور الديمقراطي وتقديس الحريات وصيانة حقوق الإنسان، فنصوص الباب الثالث كله من المادة (51) حتى المادة (93) تستحق الفخر والإشادة بأنّها مشمولة في دستورنا ومذكورة فيه في نصوص صريحة واضحة مباشرة لا يختلف في تأويلها وتفسيرها عاقلان.

الباب يحمل عنوان “الحقوق والحريات والواجبات العامة” ومما جاء فيه: “الكرامة حق لكل غنسان ولا يجوز المساس بها.. التعذيب بجميع صوره وأشكاله جريمة لا تسقط بالتقادم.. المواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة.. الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تُمس.. كل من يُقبض عليه تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته.. تُحظر في السجون كل ما ينافي كرامة الإنسان.. للحياة الخاصة حرمتها وهي مصونة لا تُمس.. للمنازل حرمة لا يجوز دخولها ولا تفتيشها ولا مراقبتها ولا التنصت عليها إلا بإذن قضائي مسبب.. الحياة الآمنة حق لكل إنسان.. لجسد الإنسان حرمة.. حرية التنقل مكفولة.. يُحظر التهجير التعسفي للمواطنين.. حرية الاعتقاد مطلقة.. حرية الفكر والرأي مكفولة.. حرية البحث العلمي مكفولة.. حرية الإبداع الفني والأدبي مكفولة.. حرية الصحافة مكفولة.. يُحظر فرض رقابة على الصحف والإعلام.. تلتزم الدولة باستقلال الصحف والإعلام المملوك لها.. للمواطن حق تنظيم الاجتماعات العامة.. للمواطنين حق تكوين الأحزاب والجمعيات والمؤسسات الأهلية على أساس ديمقراطي…” إلى آخر مواد هذا الباب الذي اعتبره نقطة الانطلاق في أي إصلاح سياسي جاد، سواء من جانب من في الحكم أو من جانب الذين في المعارضة دون الحاجة إلى المزيد من الاستبداد، وكذلك دون الحاجة إلى تكرار تجريب ما سبق تجريبه من ثورات غير مُثمرة من الناحية العملية.

يتضح التناقض الكبير بين الدستور الواقع حين تلقى بصرك على واقع الحريات العامة في مصر خلال السنوات الأخيرة، فالواقع أن الحريات العامة تعيش محنة غير مسبوقة في أيٍّ من العهود الجمهورية.

كان من الممكن للعهد الحالي أن يقف مع نفسه ومع دائرته الموثوقة ويسأل: كيف اقتبس إيجابيات من سبقوني؟ ثم كيف أتفادى سلبياتهم؟ ثم كيف نجعل من العهد الحالي نقطة تطوير وتجديد وتحديث للجمهورية وليس تكرار الأخطاء؟

النظام الحالي يقرأ ما حدث في 25 يناير 2011 على أنه خطأ من جانب الشعب وتطاول منه على الدولة، وأنَّ ما سمح بهذا الخطأ والتطاول هو ما كان مسموحاً به من مقادير ملموسة من إتاحة الحريات العامة.

ويبدو لي- فيما يغلب على ظني وفهمي- أنّ النظام الحالي يقرأ ما حدث في 25 يناير 2011 على أنه خطأ من جانب الشعب وتطاول منه على الدولة، وأنَّ ما سمح بهذا الخطأ والتطاول هو ما كان مسموحاً به من مقادير ملموسة من إتاحة الحريات العامة.

وهذه القراءة لا تحتاج إلى ذكاء حتى يتم دحضها، فالخطأ في حق الدولة جاء من داخل الدولة، والتطاول على الدولة جاء من داخل الدولة، فالدولة هي من تركت نفسها تائهة دون بوصلة واضحة بين الرئيس ونجل الرئيس حتى نزل الشعب بعد صلاة الجمعة 28 يناير 2011 م، وقال كلمته بكل نزاهة وتجرد ومسؤولية وشرف.

لكن لأن العهد الحالي متمسك بوجهة نظره التي ترى أن إتاحة مقادير من الحريات هو ما سمح للشعب، بما يُعتبر تطاولاً علي الدولة المصرية وخطأً في حقها فإنّه عن عمد وقصد يخنق الحريات العامة إلا من هوامش محدودة لا تكفي شعباً سبق أكثر شعوب الأرض- خارج غرب أوروبا وأمريكا- إلى الحداثة والتجديد في السياسة والعلم والفن والأدب والثقافة والعمارة والتخطيط والموسيقى والسينما.. إلى آخره.

هذا الوضع لا يجعلنا- فقط – مجرد مواليد لا مواطنين، ولكنه يجعلنا أفراداً عاجزين في مجتمع خاضع لسلطة غاضبة لا تخفي غضبها مهما حاولت كتمانه.

نحن الآن، في مثلث ذي ثلاث أضلاع “فرد عاجز، مجتمع خاضع، حُكم غاضب”.