ثلاث سنوات مرت على هذا الصباح الذي استيقظ فيه رهبان دير الأنبا مقار على رائحة الدم. دم زكي سال على الأرض بعد أن اغتالته يد الغدر من الخلف كما يفعل الجبناء. ثلاث سنوات على رحيل الأسقف المغدور، قارورة الطيب التي يفوح عطرها رغم الغياب. ثلاث سنوات على مقتل الأنبا أبيفانيوس رجل أبو مقار الكبير. الرأس التي كانت تفوح بالعلم، واللسان الذي لا ينطق إلا بالمحبة، والقلب الذي يفيض بالعفو والمغفرة، والروح التي تغمر الناس بالسماحة.

ثلاث سنوات مرت على مقتل الأنبا أبيفانيوس، آخر من تمسك بالرهبنة الحقة، وسط سيل من أساقفة الثراء الفاحش والسيارات الفارهة. الرجل الذي ترك الثياب الغالية والساعات الثمينة؛ مكتفيًا بعصا خشبية اقتطعه من جذع شجرة وشال أسود وجلباب بسيط دون ادعاء. بساطة تليق بالعلماء وسماحة كشيوخ البرية الأوائل الذين هجروا الدنيا لأجل الله. الكلمة لم تعيدهم إليها مقاعد الأساقفة ولا عصي الرعاية ولا رئاسات الأديرة.

تلميذ متى المسكين

كان الأنبا أبيفانيوس بعلمه الغزير كتلميذ مباشر للقمص “متى المسكين”؛ مهددًا للجميع، تهديد لا يتعمده ولا يقصده. ولكنه ذلك الفزع الذي يصيب الجهال في حضور العلماء، الخوف الذي يصيب أصحاب الميكروفونات العالية والأصوات الغوغائية والتعاليم الخاطئة. من هذا الصوت الخافت المسلح بالعلم والمعرفة، صوت الباحث الرصين متكئًا على رصيد لا ينضب من المعرفة بالمخطوطات الكنسية وباللغات القبطية واليونانية والعبرية. فضلًا عن اللغات الأوروبية بينما لا يستطيع كارهيه قراءة جملة عربية واحدة بشكل صحيح.

لقد شكل الأنبا أبيفانيوس حالة استثنائية في علمه ومعرفته وأستاذيته واحتوائه لهذا العدد غير القليل من باحثي اللاهوت الشباب. الذين كرسوا حياتهم لنمو الكنيسة والتعرف على تراث مدرسة الإسكندرية العريقة بالبحث والدراسة سواء في مصر أو جامعات العالم المتقدم.

متى المسكين وأبيفانيوس
متى المسكين وأبيفانيوس

فتح الأنبا أبيفانيوس أمام هؤلاء أبواب ديره ومكتبته التي تعتبر أحد أهم مصادر المخطوطات القبطية في مصر. ولم يبخل هو نفسه بالتدريس فقصد كلية اللاهوت الإنجيلية ليدرس في برنامج التراث العربي المسيحي، غير مكترث باتهامات هنا وهناك يطلقها رعاة الطائفية زارعي الإحن بين الطوائف المسيحية، هؤلاء الذين يكفرون كل من لا يدين بالأرثوذكسية ولا ينتمي لكنيستهم القبطية.

انفتاح على الطوائف الأخرى

مارس الأنبا ابيفانيوس انفتاحه على الطوائف الأخرى بشكل حقيقي بعيدًا عن الشعارات واللقاءات البروتوكولية. وارتبط بصداقة وطيدة مع الكثير من رجال الدين في كافة الكنائس سواء في مصر أو خارجها. متبعًا في ذلك منهج معلمه وأستاذه القمص متى المسكين حتى إن البابا تواضروس نصبه مسؤولًا عن أحد لجان الحوار المسكوني بالمجمع المقدس. ثقة في معرفته الكنسية الهائلة وانفتاح قلبه وعقله على الجميع.

أما التهديد الكبير، فقد مارسه الأسقف المغدور، حين قدم للمجمع المقدس ورقة علمية يطلب فيها إصلاح الرهبنة القبطية. مما أصابها من عطب لكي تعود لجذورها الآبائية وروحها الأصلية، وذلك في مؤتمر الرهبنة الذي استضافه دير الأنبا بيشوي قبل عامين من مقتله.

لقد طالب الأنبا أبيفانيوس في مقترحه هذا بإيقاف تنصيب الرهبان في الرتب الكهنوتية. لتعود الرهبنة القبطية كحركة للشباب العلماني الراغب في معرفة الله والانعزال في الصحراء. وذلك بدلاً من الصراع على المناصب الكنسية والخدمة في المدن وترك حياة العزلة.

قُتل مرتين

قتل الأنبا أبيفانيوس مرتين، المرة الأولى حين ضربه إشعياء المقاري على رأسه ثلاثة ضربات أودت بحياته. أما المرة الثانية حين رأى من قبره ملايين الأقباط يمجدون قاتله ويلقبونه بالشهيد. بينما كان الأسقف المغدور يرى فيه رجلاً ابتعد عن رهبنته وسار في طريق الشيطان. حتى إنه طالب المجمع المقدس بعقابه أكثر من مرة قبل أن يلين قلبه، ويستجيب لتوسلاته بعد صدور قرار إبعاده عن الدير فيبيت له القاتل النية ويقضي عليه جزاء لين قلبه.

قتل الأنبا أبيفانيوس مرتين، حين ساد الخطاب الغوغائي؛ متغلبًا على صوت العقل ورصانة العلم وجمال المعرفة. فصار القاتل شهيدًا والمقتول ممقوتًا والظالم مظلومًا والكذب صدقًا والصدق كذبًا. لقد انقلبت الموازين، ولم يعد لأي شيء معنى وسط شيوع نظرية المؤامرة والترويج للأكاذيب وكأنها حقًا مبينًا.

انشغل الناس بالقاتل فجعلوا منه بطلاً عظيمًا ونسوا أن للمقتول حرمة وأهل وتلاميذ وحواريين. وإن لذكراه آداب لم يرى أحد ضرورة اتباعها فوسط هوجة الدفاع عن الظالم، يتمزق جسد القتيل إربًا ليدفع ثمن إيمانه بالعلم مرتين. مرة حين قتل غدرًا ومرة حين صدق الناس الخرافة وكذبوه حيًا وميتًا.

خط فاصل بين عهدين

قتل الأنبا أبيفانيوس، فصار تاريخ مقتله رمزًا وعلامة واضحة في تاريخ الكنيسة المعاصر. فليس كمثله شيء، ما مر لا يشبه القادم، والآتي لا يماثل ما مضى. لقد وضع الرجل بدمه خطًا فاصلاً بين عهدين. عهد من الصمت وعهد لا ينفع الصمت فيه، ولا السكوت يجدي نفعًا.

قتل الأنبا ابيفانيوس، فترك مقعده شاغرًا في الدير وفي الكنيسة، فلم يختار البابا خليفة له منذ مقتله وحتى اليوم. ولم يظهر من يلعب دوره في الكنيسة ولا يحل محله حتى الساعة. لقد ترك الرجل بغيابه فراغًا أبديًا بكل هذا العلم وتلك الرهبنة الأصلية. لكن روحه التي فاضت شهيدًا أبت أن تغادر دون أن تترك خلفها عشرات التلاميذ ممن تعاهدوا على استكمال المسيرة. طريق العلم مهما كلف الأمر من تضحيات. مشوار المعرفة مهما ظهر في الطريق حروب أو عقبات يضعها جهال أو متآمرون، لولا العلم ما عاش للناس دنيا ولا دين ولولا الأساتذة ما عاش العلم.

ثلاث سنوات مضت على مقتل الرجل الكبير، ولكنها البداية التي فتحت طريق الإصلاح الصعب والطويل. فربما ذهب دمه فداء للرهبنة التي أخلص لها أو للعلم الذي ترهب في محرابه، أو للكنيسة التي قتل لأجلها.