وصلتُ عزبة “الحمراء (الحمرا) القبلية” بمحافظة البحيرة في نحو الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الأربعاء 28 يوليو 2021 من ناحية مدخلها البحري (الشمالي). كان عدد من سكانها في انتظار عربة شركة المياه بعدما انقطعت عنها مياه الشرب تمامًا في نهاية شهر مايو الماضي. وكما أبلغني الأهالي فإنِّهم يؤرخون بالعاشر من رمضان للانقطاع التام وعلى مدى 24 ساعة للمياه عن المنازل.
وعلى مدى أكثر من ثلاث سنوات بدأت العزبة وتوابعها، التي يقدر عدد سكانها بنحو 70 ألف نسمة. تعاني شح مياه الشرب وانقطاعها طوال اليوم، باستثناء ساعة أو ساعتين في الليل ليس إلا.
في انتظار سيارة المياه، وبوصول “غريب” إلى القرية يصيح الأطفال “عايزين مايه”. ويطلعني الحاج “سعد طايل” على استغاثة أرسلها قبل يومين من مكتب فاكس بمدينة “كفر الدوار” إلى عدد من كبار المسئولين. يتقدمهم رئيس الوزراء ومحافظ البحيرة ورئيس الشركة القابضة للمياه ووزيرة الصحة. ويشير إلى ورقة منها بعينها تحمل عنوان “فخامة السيد رئيس الجمهورية”. ويضيف: “أبلغنا المكتب بأن رقم الفاكس لا يعمل، فعجزنا عن إسماع استغثتنا (للريس) ونحن نموت من العطش في عز الصيف”.
أغيثونا من العطش
نص الاستغاثة التي وقَّع عليها العديد من الأهالي تضمن ما يلي:
“نحن أهالي عزبة الحمراء مركز الحمراء القبلية/ مركز أبو حمص/ البحيرة نعاني من عدم وصول مياه الشرب منذ ثلاث سنوات. وقد تقدمنا بعدة شكاوى لشركة مياه الشرب بالبحيرة ولكل المسؤولين لحل هذه المشكلة دون جدوى. ولم يسأل فينا أي مسؤول حتى الآن، وقد وجدنا سيارة مياه تأتي كل فترة. وهذه السيارة لا تكفي ويتكالب عليها الأهالي؛ مما أدى إلى إصابة سيدة احتاجت إلى عملية جراحية تكلفت مبلغًا كبيرًا. وأصبحنا نشرب من مياه الترع والمصارف مضطرين لعدم وجود مياه الشرب. علمًا بأننا ندفع قيمة فواتير المياه بانتظام، دون أن يكون في الحنفيات قطرة مياه واحدة. لذلك نستغيث بمعاليكم مساعدة أهل القرية بتوصيل مياه الشرب حفاظًا على أرواح الأطفال وكل أهالي القرية”.
في حضور عربة شركة المياه
مشهد استقبال أهالي “الحمرا القبلية” لسيارة شركة المياه يستحق فيلمًا تسجيليًا طويلاً، يمسك بتلابيب المعاناة. يهرع الأهالي، خاصة النساء والأطفال، لاستقبال السيارة قبل دخولها القرية ويصاحبونها جريًا حتى تتوقف. يرتفع صراخهم وهم يتصارعون حاملين “الجراكن” البلاستيك حول الصنابير، خلف السيارة وعلى أحد جوانبها. حقًا إنه العطش الذي يدفع أحيانًا الأهالي للصراع والعراك والمشاجرات أملاً في قطرة ماء. وفي أقل من ثلث الساعة تفرغ مياه السيارة وتعود جراكن بالمياه، وأخرى خالية خائبة في أسى.
ويبلغني سائق السيارة قبل أن ينصرف بأنها تحمل نحو 12 طنًا من المياه (الطن ألف متر مكعب) لا تكفي وسيارة أخرى احتياجات أهل القرية. اسأله هل انقطاع المياه أصبح ظاهرة هنا في البحيرة، يصمت قليلاً ويطلب مني قبل أن يجيب ألا اذكر اسمه. يقول: “فعلاً أصبحت ظاهرة بعدد من القرى الأخرى بالمنطقة.. وتقريبًا ثلث قرى مركز (أبو حمص) تعاني من شح مياه الشرب”. وأعود لأسأل: “وهل هناك سبب معروف؟، فيجيب: “لا أعرف لكن المسئولين بالشركة يقولون إنه كثرة البناء العشوائي بعد الثورة”. ولكني أسأل مرة أخرى: لكن لماذا الآن؟ وهل للأمر صلة بما يقال عن سد النهضة ونحن على مقربة من نهاية فرع النيل برشيد؟، فيشيح بوجهه للناحية الأخرى بعيدًا، ويضيف: “لا أعرف هم يقولون إنه البناء العشوائي”.
مياه للشراب في عربة رش مبيدات
يبقي العديد من أهالي قرية الحمرا القبلية في مدخلها بأمل أن تجود شركة المياه بسيارة أخرى. وخلال ساعات تظهر من حين لآخر عربات تجرها الحمير قادمة من قرى أخرى، محملة بجراكن مياه للبيع بأسعار ليست في مقدرة أغلب سكان العزبة وملحقاتها. وحتى سيارة رش مبيدات رأيتها تستخدم في حمل مياه الشرب. ويقول الحاج “شعبان القليني”: “ظهرت في القرية تجارة بيع المياه بواسطة أهالي من القرى المجاورة. هم يبيعون لمن يستطيع ويقدر ماليًا حمل (التروسيكل) نحو 500 لتر مع 3 جراكن بـ 100 جنيه”. وهكذا وكأنه عاد السقا ليعيش في مصر القرن الحادي والعشرين.
معاناة فوق معاناة
لا يهتم من تحدثنا معهم من أهالي القرية بقضية سد النهضة، ولا يربطون بينها وبين انقطاع مياه الشرب تمامًا عنهم. فقط لاحظوا انخفاض مياه ري المحاصيل الزراعية (الري بالمناوبة) أخيرًا بشكل ملحوظ أدى إلى جفاف العديد من حقول الأرز. وانخفاض محصول الفدان منه كمتوسط من 20 أردب إلى عشرة فقط. لكن كل ما يشغلهم الآن هو مياه الشرب والعطش. وحتى عندما ذهب وفد منهم للاعتصام أمام مقر المحافظة في دمنهور، جرى تحذيرهم بفض الاعتصام مع صعود اثنين منهم لمقابلة المسئولين. لكنهم لم يقتنعوا أو يكترثوا كثيرًا بكلام قيل عن مياه الشرب التي ستأتي وفيرة مع مشروع “حياة كريمة ” الرئاسي. وقال لي أحد أعضاء هذا الوفد: “يعني صدقنا سيحدث بعد خمس سنين على الأقل تكون القرية ماتت بمن فيها”.
ولا يفكر الناس هنا في حل إلا بمد خط مياه الشرب (12 بوصة) من قرية “كوم النص” الواقعة على بعد نحو 500 مترا إليهم. ويتهمون أهالي هذه القرية بمنع هذا الحل عنهم، بدعوى أن المياه تشح عندهم أيضًا.
الاستحمام في مياه مصارف الأرز
ترفع الفلاحة “صباح سعد القليني” أمامي طفلها الصغير وهي تنتظر بأمل أن تأتي سيارة مياه أخرى ومعها جراكينها الخالية. وتقول إنها تضطر لغسيل طفلها هذا في مياه مصارف الأرز؛ مما يعرضه للإصابة بالبلهارسيا وغيرها من الأمراض. وتتدخل في الحوار “أم محمد” لتقول إن عبء ملأ المياه من سيارات الشركة وقع أساسًا على كاهل النساء إلى جانب عمل البيت. وتضيف: “كنا قد اضطررنا لوضع كلور في المياه وغليها كي نستطيع استخدامها في الغسيل. فالديدان تسرح في المياه حتى قبل الانقطاع التام. والصنابير تأتي بمياه محملة بالديدان تسبب لنا الأمراض”. وتواصل: “في الانتخابات الأخيرة جاء إلينا المرشحون بوعود لم ينفذونها. عدنا لمن فاز منهم اليوم وحسبنا الله ونعم الوكيل فيهم. وكل ما حدث أن عمليات حصو الكلي زادت عن ذي قبل”.
هنا تتدخل جارتها “إيمان نمر” لتقول إن زوجها “هاني جلال/51 سنة” اضطر لعمل خمس عمليات استئصال وتفتيت الحصى بالكلى. منها ثلاث عمليات اعتبارًا من أول شهر رمضان الماضي. واللافت أن هؤلاء النساء تحدثن عن حمامات السباحة التي يرينها في التلفزيون مع إعلانات القصور والفيلات والكومبوندات في المدن الجديدة.
وفي منزل غير بعيد من مدخل القرية وانتظار سيارات شركة المياه زرت الحاجة “سماح زكريا الحناوي”. وهي مصابة جراء التسابق على ملء المياه من إحدى هذه السيارات. وفي غرفة داخلية تتمدد أمامها ساقها اليمني في الجبس وقد جلست قعيدة لا تستطيع الحركة. وإلى جانبها زوجها “كريم عوض” يروي لنا كيف وقعت وانكسرت ساقها في غرفة تفتيش صرف الزراعة بجوار سيارة المياه يوم وقفة عيد الأضحى. ويقول زوجها: “خلال التدافع وقعت في غرفة تفتيش الصرف الزراعي وتنقلنا بها بين مستشفيات (أبو حمص) و(دمنهور) نهاية بمستشفى خاص بكفر الدوار. وأجريت لها خياطة 20 غرزة وربط شرايين وتجبيس لأصبع وساق القدم اليمنى. ويضيف: “الجبس سيأخذ 45 يومًا وهي ست أم عندها أطفال.. والعلاج كلفنا 15 ألف جنيه إلى الآن”.
سابقة تاريخية
يؤرخ شيوخ القرية لدخول مياه الشركة إليها بعام 1995. ويقول الحاج جمعة حسين النفراوي (69 سنة وموظف سابق بإحدى شركات هيئة الثروة السمكية): “لم يشهد منذ ذلك التاريخ أزمة مياه شرب في القرية بهذه الحدة والخطورة”.
ويضيف: “منذ دخول مياه الشرب النقي عام 1995 لم يحدث هذا الحال أبدًا. انقطاع تام للمياه. والقرية أصلاً بلا صرف صحي ولا وحدة صحية ولا مستشفى”. ويشير إلى استحالة اللجوء لحفر الآبار أو استخدام “الطلمبات” للحصول على مياه شرب من جوف الأرض. ويوضح: “مياه الطلمبة هنا (شرش مالح) لا تصلح للشرب. ونحن سأمنا الوعود بحل المشكلة. أنا شخصيًا اضطر إلى استئجار (تروسيكل) بخمسة وثلاثين جنيها لشراء المياه من القرى المجاورة على بعد خمسة كيلو مترات على الأقل.
يتعجب الحاج “جمعة” من استمرار شركة المياه في هذه الظروف على تحصيل الفواتير بدون أي توقف ويتحدث عن أنه تكلف في شهر يونيو الماضي 100 جنيه منحها لشركة المياه دون أن يحصل على قطرة مياه واحدة
فواتير بدون مياه
ويتعجب الحاج “جمعة” من استمرار شركة المياه في هذه الظروف على تحصيل الفواتير بدون أي توقف. ويقول: “موتور الكهرباء الذي يسحب المياه يستهلك معها المزيد من المال في محاولاتنا عبثًا الحصول على مياه بدون طائل”. ويتحدث عن أنه تكلف في شهر يونيو الماضي 100 جنيه منحها لشركة المياه دون أن يحصل على قطرة مياه واحدة من الصنابير بمنزله.
وأسأل المزيد من سكان عزبة “الحمرا القبلية”، خاصة من هم في انتظار سيارة شركة مياه أخرى. فتأتي إجابتهم عن فواتير مياه شهر يونيو الماضي على النحو التالي: “أسماء محمد 19 جنيها، فايزة أحمد رمضان 150 جنيها، كريم الشحات 70 جنيها، رمانة صلاح 54 جنيها”.
ويضيفون أن محصل شركة المياه يخلي مسؤوليته عن عبثية دفع الفواتير فيما المياه لا تصل المنازل بالأصل. ويشيرون إلى أن هذا كلام موظف الشركة تصحبه تهديدات بغرامات تأخير في حالة عدم السداد.
في تاريخ القرية جرح نازف
في تاريخ القرية جرح مع السلطة كما ما زالت تعيش صراعًا حول ملكية نحو 400 فدان يخوضه فلاحو الإصلاح الزراعي. هؤلاء الفقراء الذين تنازعهم أراضيهم التي يزرعونها عائلات متنفذة اشترت مساحات من شركة زراعية بالمنطقة. فمع تطبيق قانون الإيجارات الجديد للأراضي الزراعية في التسعينيات من القرن الماضي تعرضت “الحمرا القبلية” وتوابعها إلى حملة أمنية كبيرة. أسفرت عن اعتقال نحو 60 من فلاحيها الفقراء. وهذا بغرض فض اعتصام خاضه الأهالي احتجاجًا على محاولة انتزاع أراضي الإصلاح الزراعي منهم. وكان أصحاب الأرض من الفلاحين الفقراء قد اعتصموا بالقرية مطالبين بإتمام إجراءات تمليكهم؛ تنفيذًا لأحكام قضائية حصلوا عليها. وتركت الحملة الأمنية زمن وزير الداخلية الأسبق “زكي بدر” ذكريات كجرح نازف في الذاكرة الجماعية للناس هناك.
ذكريات عن مداهمة البيوت وتكسير محتوياتها مع اعتقال امتد لنحو شهرين وتعذيب في مركز شرطة كفر الدوار. وتحتفظ هذه الذاكرة الجماعية بقصة الفلاح الأب “س . ع” الذي طلب ضابط شرطة من ابنه “أحمد” أن “يصفعه بالكف على خده. ومع التهديد فعل. وقد مات الأب بعدها بفترة قصيرة”.
ومع هذا لا تكف وفود من شيوخ القرية من الذهاب إلى مقر محافظة البحيرة. وفي آخر محاولة قبل زيارتنا للحمراء القبلية بيومين، تحديدا يوم 26 يوليو الجاري، وعدهم وكيل وزارة بالمحافظة بحل المشكلة خلال عشرين يومًا وإيصال مياه الشرب النقية إليهم. لكن بعد دقائق كان مسؤول بشركة المياه في دمنهور يبلغهم باستحالة ذلك. وهو ما يقول الحاج “سعيد طايل” إنه حدث قبل سنوات، حين وقعت محافظة البحيرة السابقة الدكتورة “نادية عبده” مذكرة بتوصيل المياه إلى “الحمراء القبلية” وتوابعها من خلال خط الإثنتي عشرة بوصة الواصل إلى قرية “كوم النص”، لكن شركة المياه اعترضت ولم تنفذ. وقالت إن الخط لا يتحمل المزيد من ضخ المياه.
وبين هذا وذاك ومرة تلو الأخرى تعيش “الحمراء القبلية” العطش في عز الصيف. ولقد أثبتت بعد كل هذه العهود والعصور أن “السقا عاش”.