شكّلت حركة الشباب الموالية لتنظيم “داعش” في موزمبيق، مصدر إزعاج للعالم، بالتزامن مع تركيز هجماتها على أهداف اقتصادية. تقول إنها تحت سيطرة “ناهبي الثروات” وتقصد بذلك دول أجنبية تستثمر حوالي 60 مليار دولار في حقول نفطية بالدولة الأفريقية.
وسيطرت الحركة في السابق على مدينة بالما (شمال شرق)، عاصمة الغاز في موزمبيق، وهو ما شكّل تهديدا لمصالح كبرى الشركات العالمية للطاقة. سواء الأمريكية منها أو الفرنسية والإيطالية والصينية وحتى اليابانية.
وفي مارس الماضي شنت الحركة هجومًا مباغتًا على “بالما”، استغرق 4 أيام، قبل أن تنهار دفاعات المدينة. التي سقطت بالكامل في يد التنظيم المتطرف، الذي أعلن أنه قتل 55 من قوات الأمن. وفي أبريل أعلن الجيش الموزمبيقي أن المنطقة “آمنة”.
وأثارت الحركة مخاوف بعد تحول كبير وسريع في أدائها وأدواتها من مجموعة متواضعة تستخدم المناجل في القتال إلى محاربين يحملون مدافع الهاون وقذائف آر بي جي.
ميلاد “حركة الشباب” وتطور وجودها
تعود بداية وجود حركة الشباب إلى عام 2007 بظهور مجموعة حملت اسم “أنصار السنة” واستهدفت بناء المساجد. ولكنها تبنت موقفًا إسلاميًا صارمًا تجاه التعاليم الدينية وتفسير أكثر حدية على مستوى التدين، وأدواته والتعامل مع المخالفين.
ولأنهم فقط اكتفوا آنذاك بالحديث عن الدين وتعاليمه فقط، لم تظن الحكومة في موزمبيق أنهم يشكلون خطرًا عليها. بل لم يخطر ببالهم أن يكونوا محاربين قادرين على مواجهة قواتها يوماً ما.
ولأن موزمبيق أصبحت قبلة الاستثمار في مجال الغاز، بدأت ثرواتها في الظهور إلى النور. وتعزيزاً أيضاً لفكرة “أينما ظهر المال تبعه إشهار السلاح لملاحقته”، بدأت الحركة المسلحة البحث عن طرق للسيطرة على الثروة. والتي اعتبروها حقاً لهم، خاصة أن أداء حكومة موزمبيق كان يلاقي عدم قبول محلي بعد إدراك المواطنين أنهم سيحرمون من خيرات بلادهم. ولن يحصلوا سوى على الفتات، وجرى تهجير الكثير منهم عن المنطقة لإفساح المجال لعمل الشركات الأجنبية.
وتحول اكتشاف الاحتياطات البحرية من الغاز إلى نقمة وضعت الأهالي في قبضة الطرف الأجنبي الطامع من جهة. والمسلحين الراغبين في الثراء والسيطرة من جانب آخر.
في عام 2017 بدأ التنظيم الإعلان عن وجوده وهويته الجديدة من خلال عدد من أشرطة الفيديو التي استعرض فيها قوته. وأعلن عن سعيه نحو تأسيس خلافة إسلامية دون تحديد هوية تكوين هذا التنظيم أو أسماء قادته.
وأعلن “الشباب” ولاءهم لتنظيم الدولة في عام 2019، لتبدأ بذلك مرحلة وجود جديدة أكثر دموية وعنفاً مقارنة بالفترة السابقة على ذلك. كما بدأت تنفيذ هجمات نوعية استهدفت مشاريع الدول الأوروبية التي وصفوها بـ “ناهبي الثروات”. وذلك في محاولة للسيطرة على أدوات الثروة في المنطقة.
وسيطر “الشباب” على جزء كبير من النطاق الساحلي. واستولوا في أغسطس عام 2020 على ميناء “موكيمبو دا برايا” المهم للمنشآت الغازية، باعتباره مركز الإمداد الرئيسي لها بالمواد والمعدات.
قطع الرؤوس والقتل الجماعي
اتبعت حركة “الشباب” الموزمبيقية أدوات محددة لإثارة الرعب لدى المخالفين لها ووضع هالة من الخوف تجاهها تمثلت في قطع الرؤوس على نطاق واسع وبشكل علني. وتعمدت إقامة “حفلات قتل جماعي” كأحد مظاهر العنف المتناهي وإعلان واضح عن فقدانهم آدميتهم.
ولم تكن أدوات حركة الشباب العنيفة عشوائية، ولكنها مدروسة ومحسوبة إلى حد كبير. فقد تمكنت بالفعل من نشر الخوف ليس فقط على الصعيد المحلي. ولكنه على النطاق الدولي أيضاً، الأمر الذي راحت معه عدد من الدول تبعث وتعرض على حكومة موزمبيق المساعدة لإمساك بلجام التمرد المخيف، قبل تفاقم نفوذه وتوسعه المتوقع خلال الفترة المقبلة.
وقامت حركة الشباب بخطف الكثير من الشباب في سن يسمح لها باستخدامهم لتعزيز قدراتها وتعدادها وتجديد أفرادها وتعزيزهم بطاقات قتالية جديدة. تلك العمليات تسببت في أكبر عمليات النزوح الجماعي هرباً من المصير الحتمي المتمثل في الموت بأسوأ الطرق وأبشعها أو الخطف والدمج في هذا الكيان الدموي.
الاستيلاء على “بالما” وإغلاق توتال الفرنسية
في أحدث التطورات الناتجة عن الضربات القوية التي وجهتها حركة “الشباب” في الشمال الأفريقي. قررت شركة توتال الفرنسية إيقاف العمل في مشروعها الضخم للغاز الطبيعي المسال في موزمبيق.
أكثر ما تخشاه الدول الغربية وخاصة الشركات التي استثمرت عشرات مليارات الدولارات، أن يستولي “داعش” على المنشآت الغازية في موزمبيق.
وتسببت هجمات “داعش” في عرقلة مشاريع تصدير الغاز. التي تأمل موزمبيق أن تنقلها من أفقر 10 دول في العالم إلى نادي الدول الأغنى في إفريقيا.
وشنت الحركة هجومها على “بالما” في مارس الماضي على بعد نحو 10 كيلومتر من موقع عمل شركة توتال. وهو ما يهدد بشكل مباشر أرواح العاملين فيه؛ مما اضطرهم للإغلاق. وهذه ليست المرة الأولى، حيث سبق أن علقت الشركة أعمالها في نهاية 2020 إثر زيادة هجمات التمرد. وفي نفس توقيت إعلانها العودة إلى العمل تم شن هجوم آخر اضطرها للإغلاق تمامًا لحين عودة الهدوء للمنطقة.
وتعتبر شبه جزيرة أفونجي التي تم الهجوم عليها في “بالما” المركز الرئيسي للاستثمار في منشآت الغاز ولتوتال الفرنسية الصدارة هناك في مشروعها المستهدف انجازه خلال 2024 والتي تبلغ تكلفته عدة مليارات.
واعتبر المختصون أن الهجوم الأخير وتبعاته المرتبطة بإيقاف العمل على استخراج الغاز المسال بداية عهد جديد من التدهور الاقتصادي. وإنذار بعدم قدرة حكومة موزمبيق على السيطرة هناك، بل يستهدف منع المشاريع القائمة هناك. خاصة أن الهجوم جاء في نفس يوم إعلان توتال عن عودتها للعمل بعد التوقف المؤقت.
أهداف التنظيم
حرص التنظيم منذ تشكيله على إحاطة نفسه بحالة من الغموض، ولكنهم منذ الإعلان الرسمي عن هويتهم في عام 2017 كشفوا أنهم يستهدفون تأسيس خلافة اسلامية.
ومن خلال تحليل البيان الذي نشرته الحركة عبر المنصات الجهادية في تلغرام بعد هجومها على “بالما” يمكن تحديد أعداءها. وكذلك أهدافها حيث قالت: “إنها شنت هجوما بمختلف أنواع الأسلحة على ثكنات عسكرية ومقرات حكومية”. وتم السيطرة على المدينة بعد قتال استمر ثلاثة أيام قتل فيه العشرات من “النصارى ومنهم رعايا الدول الصليبية. وأفراد من الجيش الموزمبيقي، وتمت السيطرة على مصانع وشركات وبنوك حكومية”.
وتستهدف الحركة عناصر الحكومة الموزمبيقية والأجانب الذين تسميهم “الصليبيين” والنصارى “المخالفين لهم في الدين. ويسعون بما توفر لديهم من سلاح نحو الهيمنة على الغاز، وعلى الحكم في حركة تمرد وصفت بأنها الأقوى بتلك المنطقة. التي لم تعتد على هذا النوع من الهجمات الكبرى المدروسة.
والهجمات الأخيرة، وفق أحدث التقارير الأميركية، أسفرت عن قتل نحو 2600 شخص. ونزوح ما يقرب من 700 ألف مواطن عن منازلهم وأرضهم هرباً من الخطر المحدق بهم.
أسباب تقوية حركة “الشباب”
الأوضاع المعيشية للسكان المحليين الذين تم استقطاب العديد منهم للمسلحين، من بين العوامل التي أدت لقوة جبهة حركة الشباب. فالأهالي يعانون التهميش والتجاهل في مختلف المجالات وتدني الأوضاع الاقتصادية وزيادة في معدلات البطالة. وذلك رغم تمتع المنطقة بالغاز ومزاولة أعمال التنقيب في مشاريع تكلفتها تقدر بنحو 60 مليار دولار.
وزادت معدلات الفقر بنسبة سجلت نحو 63.7%، وارتفع إجمالي الدين الحكومي إلى 121.3% خلال عام 2020. وهو الأمر الذي جعل موزمبيق أرضًا خصبة بثرائها وفقر مواطنيها للجماعات المسلحة التي استهدفت السيطرة على كليهما.
ويعاني الجيش الموزمبيقي من ضعف شديد مكَّن المسلحين من الاستقواء بقدراتهم. فعدده لا يزيد على الـ 11 ألف و200 جندي موزعين بين 10 آلف جندي في الجيش وألف جندي في السلاح الجوي و200 آخرون في سلاح البحرية.
واضطرت حكومة موزمبيق إلى طلب المساعدة من الولايات المتحدة الأميركية لردع المتمردين. وطلبت الدعم الفني من مستشاريها العسكريين في تدريب جنودها لمواجهة حركة الشباب. وصنفت واشنطن الحركة “منظمة ارهابية”.
ولم تقتصر المساندة على أمريكا، بل قامت البرتغال بإرسال 60 مدرب عسكري لموزمبيق في محاولة لدعمها فنيا. فيما يخص “مشاة البحرية والقوات الخاصة”، بالإضافة إلى انتشار بعض الأنباء حول اعتماد الحكومة الموزمبيقية على مرتزقة روسيين في حربهم.
وأعلن السفير التركي أن بلاده على استعداد لتقديم كافة المساعدات الممكنة لموزمبيق في حربها على الإرهاب. في محاولة من تركيا لتعزيز وجودها على الساحة الدولية من جهة والاستفادة من الأزمة الموزمبيقية على الجانب الآخر.
وتعد العمليات العسكرية التي قامت بها حركة “الشباب” ناقوس خطر ينذر بعودة داعش لقوتها. في الوقت الذي أعلن المجتمع الدولي أنها محاصرة وفي طريقها للانحسار. إلا أن الهجمات الأخيرة أظهرت تعقيدًا جديدًا في الأمر، وكشفت قدرة “داعش” على تطوير نفسها وأدواتها. بل وحجم ما يتمتع به من موارد مالية وأعداد بشرية موالية تمكنه من العودة لمرحلة تشكيل الخطر والتهديد مرة أخرى.