استدعيك في تفاصيلي اليومية الصغيرة. عندما استيقظ لعمل فنجان القهوة الصباحي فوق مكتبي بغرفة النوم. وعندما أذهب إلى الحمام لحلاقة الذقن، فيتدفق الماء سهلاً من الصنبور فوق حد الموسي ليجرف بقايا شعر، كي أعيد تمرير ماكينة الحلاقة لأتأكد من تمام إزالته. أتذكرك كثيرًا حتى في هكذا تفاصيل، وأفكر في مشقة أن تنجزها في محبسك. فكيف أنساك مع مرور كل ما هو أهم وأكبر، وبخاصة قضايا العمال التي كنتَ بمثابة نافذه لي ولغيري في الاطلاع عليها والتفاعل معها، وأيضًا قضايا نقابة الصحفيين والوطن بصفة عامة. وكل هذا وذاك في حاجة إليك وإلى فهمك وجهدك وإخلاصك.

عرفتُ فيه الصحفي المهني الملتزم بقضايا العمال والفلاحين وبالحقوق النقابية. وعرفت مواقفه الإنسانية النبيلة إزاء زملائه، وحتى من لا يعرف

عرفتُ هشام فؤاد للمرة الأولى في تجربة صحفية مهنية خضناها معًا في عام 1990 (قسم التحقيقات بجريدة مصر الفتاة)، ومنذئذ أصبحنا صديقين. عرفتُ فيه الصحفي المهني الملتزم بقضايا العمال والفلاحين وبالحقوق النقابية. وعرفت مواقفه الإنسانية النبيلة إزاء زملائه، وحتى من لا يعرف. وخضنا معًا على مدى أكثر من ثلاثين عامًا معارك ونضالات في نقابة الصحفيين المصريين جنبًا الى جنب، وكتفًا بكتف، من أجل استقلاليتها ودفاعًا عن حرية الصحافة والحريات بصفة عامة، وعن حقوق الصحفيين من كل الانتماءات والاتجاهات دون تمييز.

وأودُّ هنا أن أذكر على نحو خاص جماعة “صحفيو الغد” في منتصف تسعينيات القرن الماضي التي ترأس تحرير نشرتها غير الدورية المتميزة. وهي متميزة بحق لأنها كانت أداة تواصل ديمقراطي مهمة وفعَّالة بين أعضاء الجمعية العمومية وبين النقابة مع الصحفيين داخل مؤسساتهم وصحفهم وفي علاقات العمل والمهنة وإلى جانب الحريات.

في الذكريات بيننا معاناة هشام مع والدته التي توفيت بالسرطان، ومع مرض والده في شيخوخة طويلة بعدها. وفي قلب هذه المعاناة ذهابي معه بصحبة والده وصديقنا الصحفي “عصام عبد الحميد” ليتقدم لخطبة زوجته الوفية نادرة المثال زميلتنا الأستاذة “مديحة حسين”. وفي الذكريات بيننا كيف اختار لابنته اسم “فاطمة” على اسم والدته الراحلة. وأيضًا فيض من تفاصيل كبيرة وصغيرة، بالنسبة لي أيضًا كان هشام بدوره حاضرًا وضلعًا وسندًا في كل منها.

 “هشام فؤاد” الصحفي والمترجم والمناضل النقابي اليساري، بمثابة فيض عطاء إنساني ونقابي بلا حساب لمن يعرفه ولا يعرف. ويكفي أن يشعر بأنَّ شخصًا أو جماعة ما مضطهدة أو مظلومة أو ترفع الرأس للمطالبة بحقوقها كي تراه حاضرًا وسندًا

“هشام فؤاد” الصحفي والمترجم والمناضل النقابي اليساري، بمثابة فيض عطاء إنساني ونقابي بلا حساب لمن يعرفه ولا يعرف. ويكفي أن يشعر بأنَّ شخصًا أو جماعة ما، ولو على البعد في هذا الوطن، مضطهدة أو مظلومة أو ترفع الرأس للمطالبة بحقوقها كي تراه حاضرًا وسندًا. وهذا حتى لو اختلف معهم في الفكر والرأي السياسي، وحتى لو لم يكن على أي صلة بها أو بهم قبل علمه بما يعانون أو يناضلون من أجل رفع المظالم.

منذ أن عدتُ من غربة مراسلة “الأهرام” في تونس بين عامي  16 و 2018، وجدتني مصدومًا ومذهولاً من كم الأصدقاء والمعارف معتقلي وسجناء الرأي من مختلف المشارب، سواء بالحبس الاحتياطي المتجدد أو بأحكام وليدة محاكمات تفتقد الحدود الدُّنيا للعدالة. لكنني حقًا لم أعشْ تفاصيل المعاناة والمأساة لمحبوس حبسًا مديدًا على ذمة قضايا الرأي في هذا الزمان على هذا النحو إلا بعد رنة الهاتف المحمول لاستيقظ فجر يوم 25 يونيو 2019 على صوت زوجتك المروعة من اعتقالك. والتفاصيل التي روتها ما زالت محفورة مؤلمة في ذاكرتي أيضًا. ومعها الأسئلة كيف يعامل المصريون في القرن الحادي والعشرين على هذا النحو؟.. وكيف يلاقي أنبل أبناء هذا البلد المخلصين لشعبها وفقرائها كل هذا الشر والانتهاكات والعدوان يومًا بعد يوم وشهرًا بعد آخر وسنة بعد أخرى في المحابس والنيابات والمحاكم؟. وهل يستحق المصريون هذا؟.. كل هذا.

هي أسئلة ظلت وستظل تكبر كل يوم مع مزيد من تفاصيل مؤلمة أطل عليها عبر أسرة “هشام فؤاد” ومعاناته ومعاناتها. وفقط بعد 25 شهرًا من حبس احتياطي في ليمان طرة بلا اتهامات لهشام ورفاقه في “قضية الأمل“، وبلا أدلة، وبالتجاوز للحد الأقصى لهكذا حبس (إثنان من الأعوام) رأيتك للمرة الأولى.

رأيتكُ بمحكمة أمن دولة طوارئ بالطابق الثالث من مجمع محاكم “زينهم” في ملابس الحبس الاحتياطي البيضاء التي ما زالت. وقد جرى هذه المرة الزج بك وأعزاء آخرون في قضية نشر صريحة بلا أي تمويه أو التباس. هي قضية لا تخرج عن نطاق التعبير عن الرأي. وما أعلم أن الحبس الاحتياطي ممنوع قانونًا في قضايا النشر. وهكذا كأنهم لا يرغبون في أن يتركوك لنا ولعمالك وناسك الذين تحب ويحبونك. وثمة تفاصيل لن تمحى في يوم الرؤية هذا بعد أكثر  من 25 شهرًا. يوم الخميس 29 مايو 2021 هذا. وكيف أخرجوا ستة صحفيين كانوا في انتظارك من قاعة المحكمة بعد خمس ساعات منذ الصباح على أمل مجرد أن نراك؟. وكيف تحايلوا ودبروا كي يجلبوك والحبيبين المحامي “زياد العليمي” و الصحفي “حسام مؤنس” وشابين غضين آخرين متهمين بالنشر على “فيس بوك” لا نعرفهما بعيدًا عن أنظار ومشاعر وأفئدة الصحفيين وعشرات من الأصدقاء المطرودين من القاعة؟. ولن أحكي كيف تحايلت وأربعة أو خمسة أصدقاء آخرين كي ندخل القاعة بعد رفع الجلسه كي نراك؟

لكن ما يعلق بالذهن وسيظل حتى رحيل هذا الشخص الذي أصبحته أنا بعد الستين هو تفاصيل هذا الزمن/ الرؤية الذي لم يتجاوز الدقيقتين. سلام وعناق بيننا استخدمت أنت فيه ذراعًا واحدة. جسدك الذي نحل كثيرًا بسبب إضراب عن الطعام دام لنحو أسبوعين في حبس انفرادي ما زال، مع ما فاجأني أيضًا من شعر أبيض يغزو هامتك. ثم سريعًا يهتز كل شيء حولنا، وأدرك وأبصر القيد الحديدي في يدك مشدودا إلى حارس/سجان يدفعك بتعجل وهمة وقسوة للخروج.

لكن ابتسامتك ظلت كما هي.. كما عهدناها منذ عرفناك قبل الحبس الظالم.