تمثل لبنان حالة فريدة من نوعها بين دول العالم. بتعقيدات الأطياف السكانية  والسياسية التي تضمها، وارتباطاتها الخارجية التي تجعلها كطاولة شطرنج تتنافس عليها القوى الإقليمية والدولية. ويلعب فيها الشعب دور العساكر الذين يتم التضحية بهم لحماية القطع الأهم.

لا يعتبر الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان حاليًا مفاجئا. فهو ميراث عدة عقود من التدخلات الاقتصادية المشفوعة بالتمويل الاقتصادي ونخب سياسية شكلتها الطائفية. ولم تتحرر من ميراث الحرب الأهلية، التي استمرت ربع قرن كاملة، وإن ادعت خلاف ذلك.

تخلفت لبنان عن سداد ديون دولية بقيمة 30 مليار دولار منذ أكثر من عام. عجزت حكوماتها في تنفيذ الإصلاحات لمحدودية سلطتها. فنجاح الوزراء مقرون بمدى وجود ظهير سياسي يقف وراءه ينصره سواء أكان ظالمًا أم مظلومًا.

غضب شعبي من الانهيار الاقتصادي في لبنان
غضب شعبي من الانهيار الاقتصادي في لبنان

تمثل لبنان الدولة الوحيدة التي ظل فيها منصب الرئيس شاغرا لقرابة السنتين ونصف. بدأت من نهاية ولاية الرئيس ميشيل سليمان حتى تسلم الرئيس ميشيل عون الحكم في لبنان. كما أنها الوحيدة أيضا التي تتعقد فيها مشاورات تشكيلَ حكومة إنقاذ لمدة عام كامل رغم أن مهمتها الإنقاذ ومنع انهيار الليرة التي فقدت أكثر من 85% من قيمتها.

لا تزال لبنان عالقا في حصاد الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت من عام 1975 حتى عام 1990. وأسفرت عن مقتل ما يقدر بـ 120 ألف شخص وتشريد 75 ألف شخص،  ونزوج قرابة المليون.

الحرب الأهلية في لبنان
الحرب الأهلية في لبنان

اندلعت الحرب مع محاولة اغتيال فاشلة للزعيم الماروني بيار الجميل. وأسفرت عن مقتل اثنين من مرافقيه وردّاً عليها هوجمت إحدى الحافلات المدنية وقتل فيها 27 شخصًا. قبل أن تندلع الاشتباكات بعدها بين المسيحيين الموارنة والشيعة و السنة، والدروز، والفلسطينيين.

تقسيمة طائفية

بعد عقود من الحرب لا تزال تلك التقسيمة متواجدة على الأرض، مع الممولين ذاتهم. فالسياسيين الُسنة مدعومين من السعودية وفي مقدمتهم سعد الحريري، والشيعة (حزب الله وحركة أمل) مدعومون من إيران وسوريا، والمسيحيون يتلقون دعمًا من فرنسا، والدروز بحكم توزعهم في لبنان وسويا واسرائيل، لديهم دعم موزع بين الولايات المتحدة وتل أبيب، ولكل منها له مصالحه المختلفة.

فرنسا لديها شركات قديمة ومتغلغلة في فهم الأوضاع على الأرض وتعمل في كل مجال بداية من البنوك وحتى الدواء والغذاء. وربما تكون زيارة الرئيس الفرنسي بيروت مرتين في أعقاب حادثة انفجار المرفأ. خير دليل على الأولوية التي تضعها باريس لإبقاء دورها في لبنان حاضرًا. مكررا ما فعله الرئيس الأسبق جاك شيراك حينما كان أول رئيس غربي يصل بيروت للتعزية في وفاقة رفيق الحريري.

الدور الفرنسي

حشدت باريس الجهود الدولية لدعم لبنان قبل ثلاثة أعوام. واستضافت مؤتمر “سيدر للمانحين الذي وعد بأكثر من 11 مليار دولار للاستثمار في البنية التحتية. بشرط تنفيذ إصلاحات لم تنفذ. قبل أن تشهد العلاقات بين البلدين فجوة منذ مؤتمر روما عام 2018، وتراجع بيروت عن شراء فرقاطة بحرية من فرنسا وميلها نحو إيطاليا.

يسمح الغرب حاليًا لفرنسا بلعب الدور الأكبر في لبنان كممثل لأوروبا. لأسباب براجماتية صرفة. فسوطها يعني تدفق ملايين البشر إلى الناحية الأخرى من المتوسط وهي مشكلة لا تريد الدول الكبرى السماح لها خاصة في ظل الأزمة السورية التي دفعت بآلاف اللاجئين المقيمين في معسكرات الإيواء حتى الآن.

ودعم فرنسا للمسيحيين في لينان يعود لعام 1860 حينما زادت التوترات الدينية في جبل لبنان وحدوث أعمال عنف بين المسيحيين والدروز. وأجبرت باريس حينها العثمانيين على السماح لها بقوة بحمايتهم. ولا يزال ذلك التأثير موجودًا.

تتعامل فرنسا بشكل من الفوقية مع لبنان حاليا. ووبخت السفيرة الفرنسية في لبنان مطلع يوليو الحالي رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب (السابق) على الهواء مباشرة. حينما تحدث  عن حصار مالي تمارسه الدول على لبنان، لتقول السفيرة إن: الأزمة اللبنانية نتاج سوء الإدارة وفساد استمر عقودا، وليس حصار خارجي، مؤكدة أن المسئولية تقع على عاتق الطبقة السياسية وليس على الدول”.

واقتنصت شركة “Cma cgm” الفرنسية عقدًا مرفأ مدينة طرابلس اللبنانية لاستخدام المنصة كمحطة أساسية لها في شرق البحر المتوسط. وتشغل الشركة أيضًا 2500 متر مربع من المباني في منطقة بيروت الرقمية، واستحوذت المجموعة على مبنى آخر في قلب العاصمة بيروت بهدف مواكبة عملية تطوير المجموعة.

دخول روسيا

يهدد النفوذ الفرنسي بلبنان حاليًا روسيا المتواجدة بقوة في الملف السوري، وإذا كان لموسكو قاعدة عسكرية في طرطوس السورية فإنهم يريدون ميناء ضخما على في الشام يضعون من خلاله قدما في غزو المنطقة ببضائعهم.

بدأت روسيا تنظير للبنان بعد زيارة وفد “حزب الله” الى موسكو الذي طلب من الأخيرة الفراغ السياسي في المنطقة بالتزامن مع الانكفاء الأمريكي، وبدأ بعدها الروس الاتصال بمختلف القوى السياسية بداية من سعد الحريري والوزير جبران باسيل ووليد جنبلاط، ما يجعل تواجدها مقبولا من مختلف الأطياف.

وتسعى روسيا حاليًا للانقضاض على ملف الاستثمارات النفطية في لبنان للظهور أكثر بصورة الداعم خاصة في دولة تعاني من مشكلات في ملف الطاقة تهدد حتى المستشفيات بالتوقف، وأبدت موسكو إمكانية الاعتماد على نظام الشراكة أو حق الانتفاع (البناء والتشغيل دون التملك) على عكس فرنسا التي تريد منح القروض والحاصل على الفائدة فقط.

والتواجد الروسي يتزامن معه انحسار في الدور السعودي، الذي ظل ممولا للسُنة طوال عقود، وتحديًدا بعد زيارة رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري  للرياض والحديث حينها عن وضعه تحت إقامة جبرية بمنزله بالرياض بعدما استقال كرئيس للوزراء، والتي تحدث البعض حينها عن محاولة لخلق صدام مباشر بين بيروت وطهران.

صراع سعودي ـ إيراني

ضخت السعودية في الاقتصاد اللبناني بين 1990 و2015، أكثر من 70 مليار دولار، بشكل مباشر وغير مباشر، بين استثمارات ومساعدات ومنح وهبات، وقروض ميسّرة وودائع في البنوك والمصارف، بجانب وديعة مالية بقيمة مليار دولار خلال حرب 2006، كما أن 10% من الودائع غير المقيمة في لبنان مملوكة لمستثمرين سعوديين.

تتضمن شبكة الممولين أيضًا إيران التي تدعم حزب الله بخط تمويل مفتوح، فوفقًا لتقرير صادر عن “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” فإن نصر الله يتلقى 750 مليون دولار سنوياً من إيران في خط تمويل مستمر بدأ منذ عام بنحو 100 مليون دولار.   لكن دراسة أخيرة لمعهد واشنطن للدراسات ترفع تلك الأرقام إلى مليار دولار.

حسن نصرالله
حسن نصرالله

أبدت إيران، كثيرًا، عن اهتمامها في قطاع الطاقة اللبناني وعرضت تأهيل مصفاتي النفط على الأراضي اللبنانية، وبناء شركة توليد كهرباء وتزويد بيروت بالكهرباء خاصة أنها تصدر  25 ألف ميجاوات ولديها فائض بنحو 6 آلاف ميجا، بينما لا تحتاج بيروت أكير من 3 آلاف ميجا.

بلغ حجم التبادل التجاري لمختلف السلع المتبادلة بين إيران وبيروت عام 2012 نحو 115 مليون دولار بينها صادرات إيرانية  بقيمة 78 مليون دولار، ويتوقع أن يتزايد في ضوء تحسن العلاقات بين النظام الإيراني والولايات المتحدة الأمريكية بعد وصول بايدن للبيت الأبيض.

اتفاق الطائف

يتخذ التنافس السعودي الإيراني طابع طائفي. فعلى مدار العقود الماضية تغيرت التركيبة السكانية التي قام عليها اتفاق الطائف. فالمسيحيين شكلوا عام 1932 نسبة 58.7% من اللبنانيين، فيما شكّل المسلمون حينها 40%، بينما اختلفت حاليًا ليصبح المسيحيون 30.6% وارتفعت نسبة المسلمين إلى نسبة 69.4%، بينما حلّت الطائفة الشيعية بالمرتبة الأولى من حيث العدد، وشكلت نسبة 31.6% من اللبنانيين، وجاء السنّة في مرتبة متقاربة وشكّلوا نسبة 31.3%.

ينص الدستور اللبناني أن لبنان بلد جمهوري ديمقراطي برلماني لكن البنية الطائفية جعل من المستحيل اتخاذ أي قرارات دون توافق جميع الفرقاء السياسيين الموزعين على أساس طائفي يتم توزيع مقاعد مجلس النواب البالغة 128 مقعدًا مناصفة بين المسيحيين والمسلمين حسبما ينص عليه اتفاق الطائف.

 

يقضي الاتفاق بأن يترأس المجلس أحد أبناء الطائفة الشيعية، أما منصب رئيس الوزراء فهو من نصيب المسلمين السنة، وقائد الجيش على سبيل الجيش ماروني، ووزير الداخلية سني، ومدير قوى الأمن الداخلي سني، ومدير المخابرات العسكرية شيعي، وهناك أيضًا حصص للطوائف والأقليات الأصغر مثل الدروز والمسحيين الأرثوذكس والأرمن.

نجيب ميقاتي

نجيب ميقاتي

وبدأ رجل الأعمال نجيب ميقاتي، بتشكيل الحكومة، عقب اعتذار سعد الحريري، وتعهد بتشكيل الحكومة وفق المبادرة الفرنسية، داعيًا جميع الأطراف السياسية إلى التعاون والابتعاد عن المناكفات لتجنيب البلاد الانهيار.

يسعى نجيب ميقاتي الذي يتواجد مع شقيقه طه في قائمة فوربس لأغني أثرياء الشرق الأوسط. لتشكيل “حكومة من اختصاصيين”. وهو أمر شديدة الصعوبة، في ظل تأكيد حزب الله في مارس الماضي أن حكومة تكنوقراط التي لا تدعمها جماعات سياسية لن تستطيع إنقاذ لبنان.

وتشهد لبنان أوضاع اجتماعية شديدة الصعوبة. ففي عامي 2020 و2021 ارتفعت جرائم القتل بنسبة 93٪ لتقفز في 2021 بنسبة 162٪. بعدما أصبح أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر. وارتفع معدل البطالة، وانكماش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 20.3%، بعد انكماشه بنسبة 6.7% العام 2019.

انخفض إجمالي الناتج المحلي للبنان من حوالي 55 مليار دولار عام 2018 لنحو 33 مليار دولار في 2020. وسط توقعات بأن ينكمش بنسبة 9.5% عام 2021. كما تعاني البلاد نقصًا شديدًا في الطاقة. وتم تسعير متوسط سعر البنزين “95 أوكتان” عند 61.1 ألف ليرة لبنانية لكل 20 لتراً، بزيادة قدرها 15.9 ألف ليرة، أو ما يعادل 35%، بينما قفز سعر الديزل 46.1 ليرة، بارتفاع 12.8 ألف ليرة تعادل 38%.