2-  التاريخ كمشروع

ما جدوى أن نراجع طريقتنا في فهم التاريخ أو قراءته؟ إجابة هذا السؤال تعتمد على استخدامنا للتاريخ في خدمة أهداف لنا في الحاضر والمستقبل. سواء حدث ذلك بشكل واعٍ ومتعمد، أو بالعكس، فالحقيقة هي أن من يكتب التاريخ أو يقرأه في أيّ لحظة، يكتبه ويقرأه من خلال الحاضر الذي يعيشه، والمستقبل الذي يسعى إليه. هذا يعني أن قراءتنا للتاريخ تعكس الطريقة التي نرى بها حاضرنا ومستقبلنا، أو الطريقة التي نفشل بها في رؤية الحاضر والمستقبل.

وما أطرحه في هذا المقال، والمقال السابق له، هو أن طريقتنا في قراءة التاريخ تعكس فشلا في رؤية الحاضر والمستقبل، وما يكشف هذا هو الطريقة التي نختلف ونتشاجر بها حول قراءاتنا المختلفة للتاريخ

وما أطرحه في هذا المقال، والمقال السابق له، هو أن طريقتنا في قراءة التاريخ تعكس فشلا في رؤية الحاضر والمستقبل، وما يكشف هذا هو الطريقة التي نختلف ونتشاجر بها حول قراءاتنا المختلفة للتاريخ. ليس لأن مجرد الخلاف أو حتى الشجار حول التاريخ أو غيره مشكلة، وليس لأن التاريخ لا يجوز أن يكون له قراءات مختلفة بل ومتناقضة، ولكن لأن التاريخ يصبح أداة عقيمة عندما نسمح لأغراضنا من استخدامه بأن تعمينا عنه، والنتيجة هي أننا نخترع تاريخًا لم يحدث. ليس لأننا قد نبتدع وقائع لم يكن لها وجود على الإطلاق (مع أن هذا يحدث أحيانا)، ولكن لأننا نختار أن نرى الوقائع على خلاف حجمها وأثرها الحقيقيين.

اقرأ أيضًا| تاريخنا الحي.. ربما أكثر مما ينبغي

في المقال السابق، تعرضت لإحدى الصور التي نختار بها أن نرى الوقائع التاريخية بغير حجمها وأن ننسب إليها آثارًا لا تحتملها. في تلك الصورة ننظر إلى واقعة ما على أنها تمثل قطيعة مع الماضي، بمعنى أنه تضع نهاية لواقع سبقها فيختفي فجأة، وتخلق مكانه واقعًا جديدًا، يختلف عن سابقه بشكل جذري، ويظهر من العدم فجأة. المشكلة هنا ليست فقط أننا نحمل الحدث مسؤولية أكبر مما يحتملها، ولكن الأهم هو أننا نمارس نوعًا من التعامي عن حركة التاريخ نفسه. في هذه الحركة لا يمكن لظاهرة أن تنشأ في فراغ، بمعنى أن حدثًا ما لن ينشئ ظاهرة كأنَّما يرسمها على صفحة بيضاء، فحتى إن كان بالإمكان إثبات أن الحدث كان ضروريًا لتشكل الظاهرة، فعملية تشكلها ستتم من خلال التفاعل بين الحدث والعوامل المنتجة لها، وبين الواقع القائم لحظة وقوع الحدث وبعده. فكرة القطيعة مع الماضي، تؤدي إلى إعفال ما أسهم به الواقع القائم في تشكيل الظاهرة. وهو ما يؤدي إلى أن يكون فهمنا لها غير صحيح بالضرورة.

التاريخ كحدوتة

البشر كائنات تبحث عن المعنى لأيِّ شيء وكل شيء طيلة الوقت. أغلب الظن أنَّ هذا له علاقة بالطريقة التي يتركب ويعمل بها المخ البشري. كل محتويات هذا المخ تتصل ببعضها البعض، وقدرتنا على استدعاء ذكرى أو معلومة تتوقف على أنَّ لها روابط بغيرها. ذكرياتنا توجد على هيئة سلاسل متصلة بحيث تؤدي كل منها إلى الأخرى.

بعبارة أخرى؛ توجد ذكرياتنا في صورة قصة، أو حدوتة، ونحن نتوقع أن لأيِّ قصة معنى، بمعنى أن كل سلسلة من الأحداث المتعاقبة والتي يؤدي كل منها إلى ما يليه، لها غرض أو هدف هو ما تصل إليه في نهايتها. وينتقل هذا النمط من التفكير إلى تصوراتنا حول التاريخ، فنحن ننظر إليه كثيرًا كقصة لها بداية وذروة ونهاية، وما يصل بين هذه الأجزاء هو وجود غاية ما، فد تنتهي القصة بالنجاح أو الفشل في تحقيقها.

العنصر الذي تتطلبه أي قصة بالطبع هو شخصياتها، البطل أو الأبطال، وشرير الرواية، إضافة إلى الشخصيات الثانوية، وربما دور هنا أو هناك للكومبارس والمجاميع. تتوافر تلك العناصر جميعًا في الرواية التاريخية؛ خاصة عندما يكون في مركزها شخصية رئيسية، وتلك في الحقيقة واحدة من الملامح الرئيسية للكتابة التقليدية للتاريخ، فقد كان التاريخ يُكتب طيلة الوقت على أنه سلسلة من السير الذاتية للملوك والزعماء وغيرهم من الشخصيات البارزة. في الواقع البدايات الأولى للتأريخ التي نعرف بها في بلاد الرافدين وفي مصر القديمة، والتي تعود إلى أربعة آلاف من السنين قبل ميلاد المسيح، اعتمدت على قوائم الملوك وسنوات حكمهم.

مع نشأة الدولة الحديثة، ربما يبدو أن تمحور التاريخ حول الأفراد، لم يعد منطقيًا، في الوقت الذي أصبحت فيه مؤسسات الدولة البيروقراطية أكثر استمرارية وثباتًا من أيّ فرد، ولكن التاريخ في منطقتنا بدا وكأنه يتحدى هذا الاتجاه

ثمة منطق عملي لأن تستخدم سير أصحاب السلطة الاسمية أو الفعلية كعلامات على فترات التاريخ. إضافة إلى ذلك كان حكم الفرد هو النمط السائد في العالم كله حتى وقت قريب، وهو لا يزال السائد في بلادنا حتى اليوم. ومن ثم يسهل كثيرًا أن نرى التاريخ على أنه سلسلة من قصص صعود وازدهار، ثم سقوط واندحار هؤلاء الذين تجمعت في أيديهم السلطة المطلقة على حيز جغرافي ما لفترة من الزمن.

مع نشأة الدولة الحديثة، ربما يبدو أن تمحور التاريخ حول الأفراد، لم يعد منطقيًا، في الوقت الذي أصبحت فيه مؤسسات الدولة البيروقراطية أكثر استمرارية وثباتًا من أيّ فرد، ولكن التاريخ في منطقتنا بدا وكأنه يتحدى هذا الاتجاه. فبصورة أو بأخرى ظل تاريخنا يبدو وكأنه يدور حول شخصية الحاكم الفرد ذي السلطات المطلقة. في الواقع ربما ساهمت نشأة الدولة المركزية الحديثة في جمع قدر من السلطة والنفوذ لمن يمكنه السيطرة على المؤسسات البيروقراطية أكبر كثيرًا مما تمتع به أي حاكم فرد في وقت سابق. ولكننا مع ذلك يمكننا إذا أمعنا النظر أن نرى أن الحيازة الظاهرية للسلطة المطلقة لا تعني بالضرورة ممارستها على أرض الواقع، ولا تعني أن يعكس الواقع وما يتغير فيه، إرادة صاحب هذه السلطة. بعبارة أخرى، إذا أردنا حقًا أن نفهم كيف تطور الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في فترة بعينها، فلا ينبغي مطلقًا أن نختزل هذا التطور في كونه انعكاسًا لإرادة فرد ما، مهما كان قدر السلطة المطلقة التي كان يظن هو نفسه أو يظن الآخرون أنه يملكها.

التاريخ كمشروع

الانتقال من النظر إلى التاريخ كحدوتة أو كسيرة ذاتية لصاحب السلطة المطلقة في فترة ما، إلى النظر إليه كمشروع، أمر سهل. كل ما يتطلبه الأمر هو أن نرى هذا الشخص، الحاكم الفرد، كصاحب مشروع. في الواقع، لسنا في معظم الوقت في حاجة إلى أن نخترع مشروعًا من فراغ وننسبه إلى حاكم ما، فهم عادة يتطوعون بادعاء ذلك بأنفسهم. هذه واحدة من الملامح المميزة بصفة خاصة لعصرنا الحديث. عندما لم تعد شرعية الملكية الوراثية متاحة، ولم تعد شرعية الغلبة بالقوة جذابة بحيث يمكن استخدامها علانية، أصبح المشروع مصدرًا مناسبًا للشرعية، المشكلة هنا تكمن فقط في تصديق أن المشروع المعلن هو حقًا المصدر المباشر والوحيد لممارسات السلطة، ثم الأخطر وهو تصديق أن هذا المشروع المعلن هو المسؤول الأوحد عن تطور الواقع من خلال ممارسات السلطة وسياساتها.

العنصر المهم والرئيسي الذي أضافه عصرنا الحديث إلى هذا الخليط هو الأيديولجية. المعيار الذي أصبحت مشاريع الحكم تُصنَّف حسبه هو الأيديولجية التي يعكسها كل مشروع. ليس هذا فحسب، بل إن أي قوة مجتمعية تسعى إلى أن تكون بديلاً للحاكم، أصبح عليها أن تقدم مشروعًا بديلاً يعكس أيديولوجية مختلفة. يصبح الأمر أكثر عبثية عندما تعاد صياغة فترات من التاريخ سابقة على عصرنا الحديث لتعكس مشروعات أيديولوجية. يكاد يكون ذلك أمرًا تنفرد به منطقتنا مع نشأة حركات الإسلام السياسي فيها. فهذه الحركات التي تدعي السعي إلى إعادة مجد كيان وهمي، هو مجتمع الأمة الإسلامية، من خلال إعادة إخضاع هذا الكيان لحكم أيديولوجية وهمية، قد أعادت صياغة ما يسمى بالتاريخ الإسلامي ليعكس مشروعًا لأيديولوجيتها الوهمية التي تعتقد أنها التطبيق المباشر للإسلام. عبثية هذه الصياغة تكمن في أن الأديان والعقائد ليست أيديولوجيات، وتحويل أي منها إلى أيديولوجية لا يعني شيئًا أقل من إعادة خلفها من جديد بشكل يختلف تمامًا عن حقيقتها، في الحاضر، وبالتأكيد في الماضي.

يصبح الأمر أكثر عبثية عندما تعاد صياغة فترات من التاريخ سابقة على عصرنا الحديث لتعكس مشروعات أيديولوجية. يكاد يكون ذلك أمرًا تنفرد به منطقتنا مع نشأة حركات الإسلام السياسي فيها

من السهل السقوط في وهم التصديق بأن ممارسات السلطة في أي وقت تعكس مشروعًا أيديولوجيًا، عندما ننغمس في تفكير دائري، يعرف الأيديولوجية بالممارسات ثم يعرف الممارسات بالأيديولوجية. إذا بدت هذه الفكرة مستعصية عل الفهم فعليك فقط أن تتذكر المرات التي اعتبر فيها أحدهم أن ممارسة ما لابد أنها تعكس أيديولوجية اشتراكية مثلا لمجرد أنه هذه الممارسة تعود إلى العهد الناصري، الذي يفترض أنه كان اشتراكيًا. وفي المقابل، في جدال مختلف تستخدم الممارسة نفسها كدليل على أن العهد الناصري كان اشتراكيًا. الأمر نفسه يتكرر عندما يتعلق بما يسمى بـ”العصر الإسلامي”، فكل ممارسات هذا العصر يمكن اعتبار أنها تعكس أيديولوجية إسلامية لمجرد أنها سادت في الفترة التاريخية الممتدة من الفتح العربي الإسلامي وحتى بداية القرن التاسع عشر. وفي الوقت نفسه عند الحاجة إلى تعريف الأيديولوجية الإسلامية نفسها، استخدمت نفس الممارسات للدلالة عليها.

لا يعني ما سبق بأيِّ حال نفي أن تكون الأيديولوجيات أو الشرائع الدينية مصدرًا لممارسات الحكم أو لممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية. ولكن هذا أمر مختلف تمامًا عن تصور المشروع الأيديولوجي، وهو أكثر اختلافًا عن تصور التاريخ نفسه كمشروع. فتصور المشروع الأيديولوجي يتخيل أن لكل سلطة برنامجًا معدًا مسبقًا بحيث يعكس تطبيقًا أمينًا لهذه الأيديولوجية. أما تصور التاريخ كمشروع، فهو يضيف إلى ذلك أيضا التصديق الساذج في أن الواقع التاريخي يعكس نجاح وضع هذا البرنامج موضع التنفيذ. ومن يصلح هذا الواقع كمعيار ليس فقط لتقييم السياسات التي تضمنها البرنامج أو البرنامج نفسه بل الأيديولوجية التي يفترض أن البرنامج بعكسها.

واقع الأمر، أنه لم تنجح أي سلطة في تحويل أيديولوجيتها المعلنة أو الضمنية إلى برنامج يعكس هذه الأيديولوجية بشكل أمين، وفي الواقع لم يرغب ممارسو أي سلطة في ذلك، لأنه في الحقيقة لم يكن ليعني شيئًا إلا أنهم أغبياء إلى حد تجاهل الواقع ومحاولة إعادة صياغته من الصفر. لا تحدث أي ممارسة للسلطة في فراغ، وهي سواء تعمدت ذلك أم لا ستستجيب لإملاءات الواقع الذي عليها التفاعل معه، يستحيل أن تكون أي أيديولوجية هي المصدر الوحيد لأي برنامج للسلطة أو لسياساتها أو ممارساتها. ربما تختار السلطة ادعاء ذلك، ولكن هذا يظل غير صحيح. ولكن الأهم هو أنه لم يحدث مطلقًا أن نجحت أي سلطة في إعادة صياغة الواقع وفق برنامج وضعته. البرامج هي في أفضل الأحوال إعلانات للنوايا، للأمنيات وربما الأحلام. ولكنها على أرض الواقع عليها أن ترتضى أن تتفاعل مع الواقع بشكل يقترب من تحقيق أهدافها. عندما تحاول أي سلطة فعل ما هو أكثر من ذلك تكون النتائج كارثية، مثلما تعلمنا تجارب مثل الثورة الثقافية في الصين أو حكم الخمير الحمر في كمبوديا.

لم تنجح أي سلطة في تحويل أيديولوجيتها المعلنة أو الضمنية إلى برنامج يعكس هذه الأيديولوجية بشكل أمين، وفي الواقع لم يرغب ممارسو أي سلطة في ذلك، لأنه في الحقيقة لم يكن ليعني شيئًا إلا أنهم أغبياء إلى حد تجاهل الواقع ومحاولة إعادة صياغته من الصفر

يتورط الكثيرون في الدفاع عن ممارسات السلطة في مرحلة زمنية دفاعًا عن الأيديولوجية التي يظنون أن هذه الممارسات تعكسها أو حاولت أن تعكسها. المشكلة الحقيقية في ذلك هو أنه يعكس تخيلاً أكثر سذاجة، وهو الاقتناع بأن إثبات نجاح أيديولوجية ما قبل عدة مئات أو عشرات من السنين يصلح للتدليل على إمكان نجاحها اليوم. من الواضح طبعًا أن ذلك يعتمد على سلسلة من المغالطات التي أشرت إليها في الفقرات السابقة، ولكنه إضافة إلى ذلك يؤدي إلى عبث لا ينتهي بالتاريخ نفسه لمحاولة صياغته بحيث يصلح كأداة دفاع أيديولوجي. لا يقتصر الأمر فقط على تعديل هذه الواقعة أو تلك، ولكنه قد يصل إلى التزوير المحض. في النهاية، لا يصدق مثل هذا الدفاع العبثي إلا أصحاب الأيديولوجية أنفسهم، بناءً ففط على تصديق أعمى في صوابيتها. وفي المقابل لا يبقى لنا من التاريخ سوى نسخ مزورة لصالح أيديولوجية أو أخرى.

ربما يكون أكثر ما أرغب في التأكيد عليه هو الحاجة ليس فقط إلى إنقاذ التاريخ من الأوهام الأيديولوجية، ولكن إنقاذ الحاضر والمستقبل من تعلق الأيديولوجيات بشكل مرضي بماض وهمي. في النهاية المعيار الحقيقي لتقييم أي أيديولوجية ينبغي أن يكون قدرتها أن تلهم أصحابها بسبل عملية للعمل على التفاعل مع الواقع بحيث يمكن تعديله ليصبح أفضل في المستقبل. لا يحتاج ذلك بأي حال إلى الحصول على دلائل وشهادات نجاح مزعوم من التاريخ، فالماضي يظل دائمًا مختلفًا عن الحاضر، حتى وإن عبثنا به لنوهم أنفسنا بأنه يشبهه، في النهاية لا ننجح إلا في اختلاق صورة زائفة للماضي وللحاضر معا. التاريخ الحي هو ذلك الذي يمكننا إعادة بناء صورة له من خلال دراسته دون أن تعمينا أغراضنا الأيديولوجية عما تنبئنا به مصادره، ولكنه إذا كان حيًا أكثر من اللازم من خلال تعليق حاضرنا ومستقبلنا به، أصبح وهمًا نتخبط فيه حتى نقتله ونقتل معه الحاضر والمستقبل أيضًا.