اعتدنا في أعقاب كل موسم للأعياد إفصاح الجهات الرسمية عن إحصائيات بالمليارات تخص استهلاك المواطنين للسلع. والتي كان آخرها تصريح البنك المركزي بأنّ المصريين سحبوا 30 مليار جنيه في 10 أيام، هي فترة عيد الأضحى.
قبل ذلك تداول رواد التواصل الاجتماعي معلومات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بأنّ المصريين استوردوا قمصانًا للنوم. بالإضافة إلى مايوهات بمبلغ 190 مليون دولار خلال ستة أشهر. أو تناولوا فسيخًا بمبلغ 18 مليار جنيه، فهل المصريون مسرفين؟
كالعادة تتلقف بعض وسائل الإعلام تلك الأرقام لتتقاذف كرة “أن الجمهور غلطان”، دون محاولة التدقيق في حقيقة تلك الأرقام.
الوهم الملياري.. بالأرقام
وبمقارنة تلك الأرقام مع عدد السكان، فإنّ مبلغ 30 مليارًا، لا يعد ضخما في دولة حجم سكانها 110 مليون نسمة. حيث اتضح أنّ المبلغ موزّع بواقع 300 جنيه وأقل لكل فرد. أما بالنسبة لقمصان النوم فالحسبة صادمة، إذ تكشف أن كل سيدتين في أفضل الأحوال يشتركان في قطعة ملابس واحدة!
ومع ذلك، لازالت الأرقام غير دقيقة، فهي لم تراعي أوجه الإنفاق على حسب الدخل بين شرائح المجتمع. وكذلك القرب أو البعد من خط الفقر.
وقفا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فإن دخل الأسرة التي تقترب من الخمسة آلاف جنيه. وهي شريحة تمثل ما يقترب من ثلث المجتمع يتم إنفاقه على الوجه التالي:
جاء الإنفاق على الطعام والشراب بصدارة ترتيب أوجه الإنفاق والاستهلاك اﻷساسية بنسبة 37%. وذلك بواقع 27.8% للحوم، و14.2% للخضراوات، تلاهما الحبوب والخبز بنسبة 13% والجبن والبيض 12.5%.
بعدها في القائمة يأتي الإنفاق على المسكن ومستلزماته بواقع 18.6%، تلتها الخدمات والرعاية الصحية بنسبة 9.9%. وفي مثل هذه الظروف الطاحنة عادة ما يتذيّل قائمة أوجه إنفاق الأسر بند الثقافة والترفيه بنسبة 2.1%.
أما التعليم، فحلّ في المركز الثامن بين 12 بندًا للإنفاق السنوي للأسرة، وذلك بنسبة بلغت 4.5%. وبتفصيل بنوده تبين أن 30.8% هي نسبة إنفاق الأسرة على المصروفات والرسوم الدراسية، مقابل 37.7% على الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية.
الشريحة اﻷقل اقتصاديًا تنفق 49.8% من إجمالي إنفاقها على الطعام والشراب، بينما تنفق أعلى شريحة 25.9% على البند نفسه
أما بالنسبة للشرائح الاجتماعية، قارنت الإحصائية بين أعلى وأدنى شريحة اقتصادية في المجتمع وأوجه إنفاقها. وتبين أن الشريحة اﻷقل تنفق 49.8% من إجمالي إنفاقها على الطعام والشراب، بينما تنفق أعلى شريحة 25.9% على البند نفسه. ولا تعني هذه النسب المتزايدة الإسراف بقدر ما تشير إلى تضخم في أسعار السلع ومزيدًا من الفقر.
وبحسب الإحصاء أيضًا، زادت نسبة الفقراء من 16.7% عام 1999/2000 إلى 32.5% عام 2017/2018. فيما شهدت الفترة من 1999-2009 زيادة في نسبة الفقر المدقع، ثم أخذت في التراجع خلال 2009- 2013. لكنها عاودت الزيادة لتصل إلى 6.2% عام 2017/2018.
الفقراء يزدادون فقرًا
ويقول الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني: “الحديث الذي يتردد بأن سحب المصريين من البنوك خلال إجازة عيد الأضحى بلغ 30 مليارًا. واعتبار ذلك دليلاً على إسراف المصريين، هو بالحقيقة تصريح مغلوط 100%، ولا يعبر عن الواقع الحقيقي. لذلك نوضحه بعدة حقائق أخرى رسمية منشورة منها:
– عام 2020 بلغ عدد الفقراء في مصر وفقاً للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 29.7%. وهي نتائج تشير إلى أنّ 30.3 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر، ويقل دخل الفرد الشهري عن 857 جنيهًا. وبالتالي إذا كان دخل أسرة مكونة من خمسة أفراد أقل من 4285 جنيها شهرياً.
– دراسة معهد التخطيط عن كورونا والفقر ودراسة التعبئة والإحصاء، أكدت أنّ المصريين قلّصوا استهلاكهم الضروري حتي على الطعام والشراب. وبما ينعكس على صحة المصريين.
– ودائع المصريين في البنوك بلغت في شهر أبريل الماضي 3.8 تريليون جنيه. بخلاف 658.4 مليار دولار بالعملات الأجنبية أي ما يعادل 10.3 تريليون جنيه بسعر صرف للدولار = 15.67 للجنيه.
هنا يتساءل الميرغني: نتحدث عن ودائع بـ14.2 تريليون جنيه. لذلك فإنّ الـ 30 مليارًا تمثل نسبة لا تُذكر من الودائع في البنوك تماثل 0.0021%.
تساءل الميرغني عن عدد العمال والموظفين وأصحاب المعاشات المحولة أجورهم ومعاشاتهم على البنوك، وكم تمثل كنسبة من الـ30 مليارًا
وتساءل الميرغني هل هذه النسبة تمثل شيئًا للودائع؟، وهل يعكس ذلك تزايد الإقبال على المصايف أو زيادة الاستهلاك؟. وهل نسب الإشغال في الفنادق والمصايف هذا الشهر عادت لمعدلاتها في 2019 أم لا؟.
وتابع: “لمصلحة من تروج هذه الأكاذيب التي تبرر تفاقم حدة الفقر في الوقت الذي تضاعفت فيه ثروات أغنى المليارديرات في مصر، وفقا لدراسة أوكسفام نوفيب ومجلة فوربس”. وقال: “لماذا لم يهتم الإعلام بتراكم الثروات وارتفاع معدلها خلال الأزمة”.
كما تساءل الميرغني عن عدد العمال والموظفين وأصحاب المعاشات المحولة أجورهم ومعاشاتهم على البنوك، وكم تمثل كنسبة من الـ30 مليارًا.
مليارات الغلابة وجرائم قتل الأزواج
وتابع الميرغني أن “الكثير من الإعلاميين المعبرين عن الطبقة الرأسمالية يزيفون الحقائق لتبرير الاستغلال القائم”. في حين أن “الجهات نفسها تتجاهل أي تعليق على الفاتورة المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي عن إقامة بلغت أكثر من مليون جنيه لمواطن من الطبقة المخملية لمدة ست ليالي في فندق العلمين”.
وتساءل: “لماذا لم نسمع رأي علماء الاجتماع والاقتصاد حول حوادث القتل بين الأزواج بسبب مصاريف العيد؟. وهل هي في معدلاتها الطبيعية أم زادت هذا العام؟”. وأردف أن “بعض الإعلاميين يتلاعبون بالأرقام ويظهرونها بغير حقيقتها، لكن الصورة الكاملة تعكس أننا فقراء (قوي) بأرقام الحكومة نفسها”.
لا يقف الأمر على ذلك، إذ إن سحب المصريين لأموالهم الخاصة خلال العام الماضي، أو حتى إنفاقها، أدى إلى تحديد السحب والإيداع بالبنوك بقيمة 10 آلاف جنيهاً للأفراد، ونحو 50 ألف جنيهاً للشركات، فمن يراقب من؟!
تريليونات الديون.. أين ذهبت أموال المصريين؟
على الجانب الآخر، كشف محافظ البنك المركزي طارق عامر، العام الماضي، أن إجمالي التدفقات النقدية الدولارية بلغت 431 مليار دولار. على مدار 6 سنوات.
وقال آنذاك: “كنا نتمنى أن نحصل على 5 أو 10 مليارات دولار. وإحنا جالنا الفترة اللي فاتت دي 431 مليار دولار من الأسواق الدولية والصادرات والتحويلات”. ومع ذلك أقر “عامر” باستمرار المشكلات الاقتصادية.
يأتي ذلك في وقت أعلن فيه البنك المركزي ارتفاع الدين الخارجي للبلاد خلال الربع الأول من العام الجاري. ليبلغ 134.8 مليار دولار بنهاية مارس 2021، مقارنة بـ129.1 مليار دولار في ديسمبر عام 2020. بزيادة قدرها 5.64 مليار دولار، أي بنسبة 4.37%.
الميرغني: “القروض والديون هي الأولى بالمراقبة بدلاً من الحجر على إنفاق المواطنين، أو التذمر من تصرفاتهم الاقتصادية”
وبهذا الارتفاع، بلغ معدل الزيادة في ديون مصر الخارجية خلال عام نحو 21%. بعد أن بلغت 123.5 مليار دولار في مارس عام 2020.
وبذلك لم تتحقق أمنية “عامر” أو نصيحته التي ألقى بها منذ العام 2016، حين قال ” تحملوا زيادة الأسعار سنة”. وعن ذلك يقول الاقتصادي الهامي الميرغني: “زادت الديون المحلية والأجنبية، ومنها زادت الضغوط على صناع السياسة الاقتصادية. ومعها تفقد مصر سيطرتها على مواردها بحيث أصبح 45% من الإنفاق الحكومي يوجه لسداد فوائد وأقساط الديون. وهي كارثة بكل المقاييس تضر باستقلاليتنا، كما أن مضاعفة الديون يشكل عبئًا على التنمية وعلى الأجيال القادمة”.
ويختم الميرغني: “تلك القروض والديون هي الأولى بالمراقبة بدلاً من الحجر على إنفاق المواطنين، أو التذمر من تصرفاتهم الاقتصادية. في مقابل الكثير من الوقائع التي تشي بفساد، وأخطاء، تحيط بتلك الأموال (السائبة)”.