شهد العالم  في النصف الثاني من القرن الماضي طفرة في بناء السدود، وساهمت المياه العذبة التي وفرتها السدود في تحقيق زيادة هائلة في إنتاج الغذاء، فتضاعف الري 3 مرات وزادت نسبة الأراضي المروية إلى 17% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، كما ساهمت في تحسين الصحة عن طريق توفير مياه الشرب والصرف الصحي للملايين، ووفرت الطاقة الكهربية المولدة من السدود الأساس للتوسع في التصنيع.

لكن على الرغم من وفرة المواقع المحتملة للسدود في أفريقيا، لم تشارك معظم الدول الأفريقية في هذه الطفرة، فحرمت من منافعها، وتجنبت آثارها السلبية. السبب الرئيس في بناء السدود في أفريقيا في الوقت الحالي هو الحاجة إلى الكهرباء، فنسبة الوصول إلى الكهرباء منخفضة في معظم دول القارة، ولا يستطيع العرض تلبية الطلب، والأهم من ذلك، أن الطلب يتزايد على الكهرباء مع زيادة أعداد السكان وخطط ومشروعات التنمية في كثير من الدول الأفريقية.

في بعض البلدان الأفريقية، مثل مصر، ترتفع نسبة السكان الذين يستطيعون الحصول على الكهرباء، لكن الوصول إليها لا يزال محدودا في كثير من الدول، ويبدو التفاوت في أوضح صوره في الريف، حيث تقل نسبة من يستطيعون الحصول على الكهرباء عن 30% من السكان، ويقدر برنامج البنية التحتية في أفريقيا، أنه لكي تتمكن القارة من مواكبة وتلبية الطلب المتزايد، يتوجب أن تزيد إمدادات الكهرباء سنويا، بنسبة لا تقل عن 6% خلال العقدين المقبلين.

تمتلك القارة حاليًا قدرة إجمالية لتوليد الكهرباء تبلغ 147000 ميجا وات، أي 147 جيجا وات،  هذه الكمية لا تكفي سوى ثلث سكان أفريقيا. (للعلم: يكفي 1 جيجا وات لتشغيل مليون منزل في أوربا). وتحظى الطاقة الكهرومائية بجاذبية كبيرة، بسبب وجود عدد من الأنهار سريعة التدفق، كهر النيل ونهر الكونغو ونهر النيجر ونهر أورانج ونهر السنغال. وتمثل مصدرا رئيسيا للكهرباء، خصوصا في الأجزاء الشرقية والجنوبية من القارة. ففي إثيوبيا وملاوي وزامبيا وناميبيا وموزمبيق، يأتي 90%من الكهرباء من محطات كهرومائية.

وتستخدم بعض البلدان، مثل مصر وغانا وموزمبيق، الطاقة الكهرومائية منذ الستينيات في القرن الماضي. في ذلك العقد، أنشأت مصر السد العالي في أسوان، أكبر محطة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، وينتج  2100 ميجاوات من الكهرباء، (2.1 جيجا وات)، وعندما بدأ السد العمل بكامل طاقته عام 1975، كانت هذه الكمية تمثل حوالي نصف إمدادات الطاقة في مصر، وكذلك أدى السد إلى زيادة مساحة الأراضي القابلة للزراعة بنسبة 20%.

أحد الآثار الجانبية للسد هو أنه يقلل من سرعة تدفق مياه النيل، خاصة عند وصوله إلى منطقة الدلتا، حيث يزرع الأرز، وهو أحد الزراعات الهامة والاستراتيجية لغذاء المصريين. ويتسبب ذلك في عدد من المشكلات، من أهمها زيادة معدل تملح الدلتا، وإنتشار أنواع من النباتات المائية التي تعوق تدفق المياه، ويمكن أن تتسبب في غلق القنوات والممرات المائية، وزيادة تلوث قنوات الري، كما يقلل من حركة الرواسب، وهي عملية حيوية وضرورية لتبادل العناصر الغذائية مع الأراضي الواقعة في اتجاه مجرى النهر.

ترى إثيوبيا نفسها باعتبارها أكبر خزان للمياه العذبة في أفريقيا، كذلك، بسبب الإمكانات الهائلة للطاقة الكهرومائية، وتقدر هذه الإمكانات بحوالي 45000 ميجاوات، أو 45 جيجا وات، وهي كمية هائلة، تكفي لتلبية الطلب  في كل دول جنوب الصحراء الكبرى تقريبًا.

تخطط لإنشاء ما لا يقل عن 15 سدا جديدا على نهر النيل ونهر أومو. ومن المتوقع أن ينتج مشروع “جيلجل جيب” (Gilgel Gibe) على نهر “أومو”، وهو سلسلة من 5 سدود، ما لا يقل عن 4700 ميجاوات، وإذا عرفنا أن شبكة الكهرباء الإثيوبية كانت تنتج 800 ميجاوات فقط، سندرك أن هذا المشروع، بالإضافة إلى سد النهضة، يوفران فرصا تنموية كبيرة لإثيوبيا. ويوفر نهر أومو حوالي 80-90% من المياه التي تصل إلى بحيرة “توركانا” الحدودية مع كينيا، وهو الرافد الوحيد الذي لا يجف تمامًا حتى في مواسم الجفاف، وفي كينيا تتزايد المخاوف من أن يؤدي السد إلى خفض كمية المياه التي تتدفق إلى البحيرة.

نهر أومو

بدأ ملء خزان السد في عام 2015، بعدها أعلنت هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية، أن الأقمار الصناعية كشفت عن انخفاض منسوب البحيرة بمقدار 1.5 مترا. هذا الإنخفاض يعني، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة درجة ملوحة المياه، ونقص الثروة السمكية في البحيرة، وتهديد حياة أولئك الكينيين، الذين يعتمدون على البحيرة في صيدهم وطعامهم وأمنهم المائي وسبل عيشهم. هذا بالإضافة إلى مخاوف أخرى تتعلق باحتمالات نقص كميات المياه إلى تتدفق في الجزء الكيني من نهر أومو، بعد تحويل إثيوبيا ما يصل إلى نصف المياه إلى مزارع قصب السكر في أراضيها.

في ديسمبر عام 2016 تم افتتاح سد “جيب- 3” على نهر أومو، ضاعف السد إنتاج الكهرباء، وأبرمت الحكومة الإثيوبية بالفعل إتفاقا مع كينيا يتم بموجبه تصدير 400 ميجاوات كل عام، كما تتفاوض الحكومة مع جنوب السودان وتنزانيا واليمن من أجل إبرام اتفاقيات لتصدير الكهرباء إلي هذه البلدان.

ويقول الإثيوبيون أن تشغيل السد بكامل طاقته سوف يقلل من تأثير التقلبات الموسمية لهطول الأمطار على الزراعة، وسوف يسمح بالمزيد من إنتاج الغذاء، وربما يكون كل -أو جزء- من هذه الدعاية صحيح، لكن الأمر المؤكد هو أن السد أقيم على حساب حياة سكان توركانا الفقراء من المزارعين والرعاة والصيادين الكينيين الفقراء.

جمهورية الكونغو الديمقراطية أيضا تسعى منذ السبعينات في القرن الماض لاستغلال نهر الكونغو في توليد الكهرباء. تدفق النهر سريع وقوي في معظم أجزائه،  وفي بعض المناطق، يكون تدفق المياه بفعل الجاذبية الأرضية – وحدها- كافيًا لتشغيل التوربينات لإنتاج الكهرباء، ما يقلل من الحاجة إلى إنشاء سدود التخزين الكبيرة. كانت الخطة تتضمن مشروعين، هما “إنجا-1” ،  و إنجا-2″، (Inga-1, Inga-2)، لكن المشروعين تعرضا للتوقف والإهمال بسبب عدم الإستقرار والحرب الأهلية الطويلة في البلاد.

أما مشروع “إنجا-3“، والذي طرحت فكرته قبل سنوات، فيقع مشروع “إنجا-3” في غرب البلاد، بعيدا عن الشرق المضطرب وغير المستقر، وتموله جزئيا شركات البناء والتشييد الصينية، فيتوقع أن يولد طاقة كهربية أكبر من السد العالي في مصر، إذا تم بناؤه. قد تكون تكلفة المشروع، التي تقدر بحوالي 80 مليار دولار أمريكي، هي السبب الرئيسي في عدم إتمام المشروع حتى الآن، فهي تكلفة باهظة، لا يمكن لموازنة الدولة أن تتحملها،  ولا يتوقع أن تمثل الكونغو الديموقراطية -التي تلفها المخاطر والحروب- وجهة جاذبة للمستثمرين الجادين، اللهم إلا قليل، من المغامرين وتجار السلاح، والإسرائيليين.

من المقرر أن يكون “إنجا-3” الثالث ضمن سلسلة تتكون من 7 سدود. وإذا نجحت الكونغو الديموقراطية في بناء السدود السبعة، فمن المتوقع أن تنتج ما مجموعه 42000 ميجاوت، وهي تمثل ضعف الكهرباء التي تنتجها أكبر محطة للطاقة في العالم، محطة سدود الممرات الثلاثة في الصين. وبموجب إتفاق وقعته الحكومة مع مرفق الطاقة في جنوب أفريقيا  “إسكوم” (Eskom) سيتم بيع معظم الكهرباء المولدة إلى جنوب أفريقيا، وسيتم بيع الباقي داخليا لشركات التعدين والتي يمتلك بعضها رجال أعمال إسرائيليون.

مشروع سد الكونغو

مع ذلك، لا تزال الإمكانات الهائلة للطاقة الكهرومائية في أفريقيا غير مستغلة، ويقدر البنك الدولي أن ما يتم استغلاله لا يزيد على 10% من هذه الإمكانات، مقارنة بأكثر من 30 % في أوروبا، و 65 % على الصعيد العالمي. ومن شأن زيادة استغلال هذا الموارد، أن يوفر المزيد من إمدادات الكهرباء، وزيادة مساحة أراضي الزراعات المروية، ولكن بثمن غال وتكلفة فادحة، وعلى حساب المزارعين والرعاة والصيادين وبعض الصناعات وحياة المجتمعات التي تعتمد على تدفق الأنهار.

اقرأ أيضا:

الصراع على المياه.. تاريخ من العنف

تغير المناخ ومعدل الأمطار والصراع الاجتماعي في أفريقيا

 

لم يخل الانتشار السريع للسدود في أواخر القرن العشرين من المشكلات، فقد أدى الري المكثف مع سوء شبكات الصرف، إلى زيادة التملح والتشبع بالمياه وتآكل طبقات الطمي. وعندما زاد الطلب على مياه الري العرض المتاح من الأنهار والسدود، لجأ بعض المزارعين والمصنعين إلى استخدام المياه الجوفية، ما أدى إلى استنفاد الخزانات بمعدلات أسرع بكثير من معدلات تعويضها في بعض المناطق. لذلك تعتقد منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة أن حوالي 10 % من الزراعة في العالم غير مستدامة على المدى الطويل.

كما وجد تقرير اللجنة العالمية للسدود أنه مقارنة بالتوقعات التي تم إجراؤها قبل بنائها، انتهى الأمر بمعظم السدود الكبيرة التي تم بناؤها خلال تلك الفترة إلى: تكاليف أكثر بكثير؛ ري مساحات أقل من الأراضي؛ وطاقة كهرومائية أقل. كما أن الظروف المناخية في أفريقيا ليست مناسبة دائما للسدود، فبسبب الأمطار الموسمية الغزيرة تحمل الأنهار الأفريقية عموما مستويات مرتفعة من الرواسب، ما يعني أن تحتاج السدود إلى صيانة أكثر وتكاليف أكثر مقارنة بالسدود المماثلة في مناطق أخرى من العالم، وبالتالي، قد يصبح عمر هذه السدود أقصر، مقارنة بالسدود في المناطق الأخرى.

ويثير الاعتماد على الطاقة الكهرومائية مشكلات في مواسم وأوقات الجفاف، وتشير دراسة حديثة لمركز “فيوتشر دايركشنز” الإسترالي إلى أنه في حال تنفيذ جميع السدود المزمع بناؤها في إفريقيا، فإن 70 % من إجمالي قدرة المحطات في شرق إفريقيا، و 59 %  في جنوب القارة، سوف تعتمد بشكل رئيسي على معدلات الأمطار في هذه المناطق، وأن ذلك سيضع شبكات الكهرباء في تلك المناطق تحت ضغوط شديدة في أوقات الجفاف. فعلى سبيل المثال، اضطرت شركة الكهرباء المملوكة للدولة في ملاوي إلى إغلاق محطة للطاقة الكهرومائية بعد جفاف شديد في ديسمبر 2017. وخلال ظاهرة النينيو التي حدثت في 2015-2016 ، شهدت كل من تنزانيا وزامبيا وزيمبابوي وملاوي نقصًا حادا وواسع النطاق في الكهرباء بسبب انخفاض هطول الأمطار، وقدرت التكلفة الاقتصادية لهذا النقص بنسبة تتراوح بين 5-7 % من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول. لذلك، ليس من المرجح أن يكون الاعتماد على الطاقة الكهرومائية هو الحل السحري لنقص الكهرباء في أفريقيا.

مشروعات زيادة الطاقة الكهرومائية

تمثل مشروعات زيادة الطاقة الكهرومائية في أفريقيا فرصًا كبيرة وتحديات كبيرة أيضًا. زيادة الكهرباء ستساعد في دفع عجلة التصنيع، وإنشاء المزيد من الصناعات الثانوية، وزيادة سعة تخزين المياه، سوف تخدم الصناعات الزراعية، وتقلل من الإعتماد على المطر في الزراعة. ومن جهة أخرى، ثمة علاقة ارتباط وثيقة بين الموارد الثلاثة: المياه والغذاء والطاقة، ومن أجل زيادة أحدها، قد يتطلب الأمر مقايضة، مع واحد على الأقل، من الإثنين الآخرين. الإعتماد المفرط على السدود، يمكن أن يهدد أمن الغذاء والمياه والطاقة خصوصا في أوقات الجفاف.

قبل أسبوعين، أفاد تقرير للأمم المتحدة وخمس وكالات تابعة أن انعدام الأمن الغذائي في العالم، قد زاد في العام الماضي بسبب جائحة كورونا، وقال التقرير إن ما يصل إلى 811 مليون، أي ما يقرب من عشر سكان العالم، يعانون من نقص التغذية، بزيادة قدرها 161 مليون عن العام السابق.

وأشار التقرير إلى أن أكبر زيادة كانت في أفريقيا، وأن 21% من الأفارقة يعانون من نقص التغذية، وهي نسبة أكبر من ضعف النسبة في أي منطقة أخرى، وأن أكثر من ثلث الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية-282 مليون- يعيشون في أفريقيا، وأكد التقرير على أن الأطفال والنساء هم أكثر الفئات تضررا.

وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 149 مليون طفل دون سن الخامسة يعانون من التقزم، ويشير التقرير إلى زيادة عدم المساوة بين الجنسين في الأمن الغذائي، ففي مقابل كل 10 رجال، وجد التقرير 11 إمرأة تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

كتب رؤساء الوكالات الخمسة في مقدمة التقرير، أن ارتفاع تكاليف الغذاء الصحي، بالإضافة إلى الفقر وعدم المساواة، تحرم حوالي 3 مليار شخص من التغذية الصحية، وأن أكثر من 2.3 مليار شخص، يمثلون حوالي 30% من سكان العالم، يفتقرون إلى الغذاء الكافي طوال العام. هذا الرقم، يعني أن انعدام الأمن الغذائي، الشديد والمعتدل، قد زاد في عام واحد، بما يساوي الزيادة في السنوات الخمس السابقة، مجتمعة. وقال بيان مشترك صادر عن الشبكة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أنه من المرجح أن تستمر أزمات الغذاء، وأن تصبح أكثر تواترا، وأكثر حدة، وقالوا في بيان صدر مع التقرير، أنه لمواجهة هذه الأزمات مطلوب “تحول جذري” في نظم الزراعة والتغذية.

على البلدان الأفريقية التي تسعى لبناء سدود جديدة أن تتعلم من أخطاء الماضي، وأن تعمل لتخفيف الآثار السلبية لهوس بناء السدود، وأن تضع في اعتبارها هذا التوازن الحرج بين المياه والغذاء والطاقة، وأن تدير هذه الموارد الثلاثة، بطريقة منسقة متكاملة ومستدامة.