مثلت تطورات الأحداث الأخيرة في تونس أزمة عميقة لكل من آمنوا وشاركوا قبل عشر سنوات في ثورات الربيع العربي، والتي تلت عقودا طويلة من الديكتاتورية وحكم الفرد، سواء في مصر أو في تونس وليبيا وسوريا واليمن والعراق. مرة أخرى، يجد المدافعون عن دولة مدنية ديمقراطية حديثة تقوم على احترام الدستور والقانون وشرعية الانتخابات في مصر أنفسهم في مأزق حقيقي: هل يتم التمسك بنصوص واضحة قاطعة للدستور تمنع مثلا حل البرلمان أو تنص على ضرورة أن يكمل الرئيس المنتخب مدته، والقول بأن المسار الديمقراطي قادر على إصلاح نفسه مع الوقت رغم كل الأخطاء الفادحة، أم يتم الانحياز لمقولات من نمط “الشرعية الشعبية أهم من الشرعية الدستورية” وأن “المخاطر والتحديات التي تواجه الوطن تستوجب وضع الدستور المكتوب بحسن نية وفي ظروف مثالية على الرف،” أو “اذا تعرض أمن الوطن للخطر، فلا مجال للحديث عن الدستور والقانون.”

ففكرة الدستور كوثيقة واجبة الاحترام ولا تخضع للتغيير إلا وفقا لشروط صعبة للغاية وإجماع شعبي واسع وحقيقي بناء على تصويت نزيه وحر، غائبة بشكل شبه كامل تقريبا في كل الدول العربية، وذلك على عكس الحال في دول الديمقراطيات الراسخة في أوروبا والولايات المتحدة التي تخلصت من حكم الكنيسة والتفويض الإلهي في القرن الثامن عشر، ليحل مكانها دساتير كتبها البشر حسب احتياجاتهم. ففي دولنا العربية، وغيرها من النظم الشمولية في مختلف دول العالم، يرى الحاكم أنه هو الدستور والدولة والقانون كما يشاء، أو كما قال الملك الفرنسي لويس الرابع عشر: انا الدولة والدولة أنا.

الاستهانة بالنص الرائع عادة ما تأتي في نهاية ذلك النص نفسه بأن يتم القول مثلا بأن المواطن يتمتع بحق كامل في حرية الرأي والتعبير، ولكن مع تذييل تلك الجملة بـ”في إطار ما ينظمه القانون”

في عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك، وقبله الرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات، كانت الدساتير عادة رائعة جميلة في توفير كافة الضمانات التي تجعل المواطن المصري يتمتع بحقوق تساوي حقوق المواطن السويسري أو الانجليزي والأمريكي. ولكن هناك بون شاسع بين النص والتطبيق، بل إن الاستهانة بالنص الرائع عادة ما تأتي في نهاية ذلك النص نفسه بأن يتم القول مثلا بأن المواطن يتمتع بحق كامل في حرية الرأي والتعبير، ولكن مع تذييل تلك الجملة بـ”في إطار ما ينظمه القانون.” ثم يأتي القانون فيهيل التراب ويدفن تماما أي مجال لحرية الرأي والتعبير تحت مسميات من قبيل حماية أمن الوطن والوحدة الوطنية والتماسك الداخلي أو أخلاق المجتمع، وكلها معايير مطاطة للغاية ونسبية. كما أن المحكمة الدستورية العليا كانت تجد أحيانا مصاعب عند الفصل في دستورية قوانين معينة، ولا يتم الفصل فيها مطلقا، أو يستغرق الأمر سنوات طويلة للغاية.

وحتى عندما ترفع جماعات الإسلام السياسي شعارات مطاطة من قبيل “القرآن دستورنا” و”الإسلام هو الحل” فإن أي قارئ للتاريخ العربي والإسلامي لا بد ان يعترف أن القرآن، كأي كتاب مقدس، حمال أوجه ويخضع تفسيره وتفصيل أحكامه للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة. ولا ننسى في هذا المجال التذكير والتأكيد أن جماعات الإسلام السياسي، أو غالبيتها، لا تعتبر الديمقراطية أو احترام الدستور الذي كتبه البشر قضية تدافع عنها من الأساس. فقضيتهم، من واقع أدبياتهم، هي كيفية استعادة الخلافة الإسلامية وتطبيق تفسيرهم ورؤيتهم للشريعة، بينما جميعهم يرددون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بما معناه أن المسلمين سينقسمون من بعده سبعين فرقة، كلهم في النار ما عدا فرقة واحدة، قد تكون فرقة الإخوان أو الجماعة الإسلامية أو الجهاد أو الشوقيين أو التبليغ والدعوة وربما التكفير والهجرة وداعش والقاعدة.

سماع جماعات الإسلام السياسي تصرخ “وادستوراه” و”ديمقراطيتاه” أمر يجعل أي شخص موضوعي في أحكامه يصاب بالدهشة، إن لم يكن بالغثيان. عن أي دستور وقانون تتحدثون أيها الإخوة، بينما كثير منكم يلقن أتباعه أن الدستور فكرة غربية كافرة صنعها الاستعمار

وكما هناك “ترزية قوانين” السلطة الحاكمة، فهناك كذلك “فقهاء السلطان” والذين يطوعون الدين والقرآن والشريعة لرغبات وتوجهات الحاكم. ولن اخوض في التاريخ البعيد الممتد منذ انتشار الإسلام للتدليل على كيفية تطويع القرآن الكريم، لو اعتبرناه الوثيقة الدستورية الإلهية التي لا يجوز المس بها، لتلبية تطلعات الحكام. لنتذكر فقط أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما كان الصلح مع العدو الإسرائيلي خيانة ليس فقط للوطن ولكن للعقيدة والإسلام على اعتبار أن فلسطين قضية عربية إسلامية بموجب فتاوى شرعية ودينية. نفس شيوخ السلطان أصدروا فتاوى مضادة تماما عندما قرر الرئيس الراحل أنور السادات السفر إلى القدس وعقد معاهدة سلام مع العدو الإسرائيلي. تم إبراز الآيات التي تدعو للسلم والسلام، والتذكير بأن الرسول – صلى الله عليه وسلم- عقد معاهدات مع اليهود وكان يقف توقيرا لجنازة متوفى يهودي مرت بجواره. ما أقصده هو أن سماع جماعات الإسلام السياسي تصرخ “وادستوراه” و”ديمقراطيتاه” أمر يجعل أي شخص موضوعي في أحكامه يصاب بالدهشة، إن لم يكن بالغثيان. عن أي دستور وقانون تتحدثون أيها الإخوة، بينما كثير منكم يلقن أتباعه أن الدستور فكرة غربية كافرة صنعها الاستعمار، مقابل القرآن المقدس، الدستور الإلهي الذي تفسرونه أنتم بمفردكم ووفقا لاهواءكم؟

رغم ذلك، فإن كنت تحسب نفسك مدافعا عن الديمقراطية والدستور والقانون والدولة المدنية، فهذا لا يمكن أن يعني حرمان منافسيك وخصومك من نفس الحقوق التي تمنحها لنفسك. وكاتب المقال بدوره يجد نفسه في موقف صعب للغاية. فلقد كنت متحدثا بإسم جبهة الانقاذ الوطني في العام 2012، وعندما تصاعدت المعارضة لحكم جماعة الإخوان المسلمين الفاشل من وجهة نظري، بدأنا الدعوة لرحيل الرئيس الراحل محمد مرسي قبل أن ينهي مدته التي نص عليها الدستور، ثم تم طرح فكرة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة كمخرج للمأزق السياسي الذي شهدناه في تلك الفترة.

كنت أرى بنفسي في شوارع القاهرة، ومنذ إصرار الإخوان على المضي قدما في عقد الانتخابات البرلمانية قبل صياغة الدستور، والاشتباكات التي جرت بيننا كمواطنين عاديين يحق لهم التظاهر والاعتراض مع ميليشيات الإخوان أمام مجلس الشعب، ولاحقا وبشكل أعنف وأكثر دموية أمام قصر الاتحادية في ديسمبر 2012 بعد صدور الإعلان الدستوري الديكتاتوري، كنت أرى وأشهد بذور وبوادر الحرب الأهلية بين من يرون أنفسهم مصريين وفقط مقابل أنصار جماعة الإخوان المسلمين الزاعمين تمثيل الله على الأرض.

قناعتي أن جماعة الإخوان كانت تدفعنا دفعا نحو حرب أهلية زعزعت تمسكي بضرورة احترام ما ينص عليه الدستور، والدفاع عن الرأي القائل إن بقاء الإخوان كان يمثل خطرا حقيقيا على بقاء مصر نفسها كدولة كنت آمل ان تتطور لتكون دولة مدنية ديمقراطية حديثة

نعم كنت اتمنى وأحلم بعد ثلاثة عقود من حكم الرئيس المخلوع مبارك بأن يكون لدينا انتخابات رئاسية تعددية نزيهة وحرة لا يبقى بمقتضاها الرئيس في منصبه إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، أو يتعرض للاغتيال أو يتم الإطاحة به في ثورة شعبية. ولكن خوفي الحقيقي على بلدي وقناعتي أن جماعة الإخوان كانت تدفعنا دفعا نحو حرب أهلية شهدتها بأم عيني أمام قصر الاتحادية بين مصريين يهاجمون مصريين مثلهم وهم يصرخون “الله أكبر” على اعتبار أنهم في مواجهة دينية أمام الكفار، زعزعت تمسكي بضرورة احترام ما ينص عليه الدستور، والدفاع عن الرأي القائل بأن بقاء الإخوان كان يمثل خطرا حقيقيا على بقاء مصر نفسها كدولة كنت آمل أن تتطور لتكون دولة مدنية ديمقراطية حديثة. وما زلت حتى الآن أرفض الزعم بأننا كقوى مدنية دعمنا “انقلابا عسكريا” في ذلك الوقت.

دعمت خرق الدستور وإقالة مرسي، وإن كنت حاولت إقناع نفسي أن البديل هو عقد انتخابات رئاسية مبكرة نعود بعدها مرة أخرى لاحترام دولة الدستور والقانون. لا أرى أننا أخطأنا في الإصرار على ضرورة إنهاء حكم الإخوان، ولكن فشلنا فشلا ذريعا كمعارضة مدنية في تشكيل جبهة قوية تضمن تحقيق مطالب ثورة يناير. كما تمكنت الدولة العميقة بكل ما لها من خبرات وامكانيات من العودة سريعا للسيطرة على كل مفاصل الدولة، بما في ذلك وسائل الإغراء لضم المعارضين للإخوان إلى صفوفها ودعم “مرشح الضرورة” والمنقذ من الإرهاب والفوضى، وزير الدفاع في ذلك الوقت المشير عبد الفتاح السيسي.

وماذا عن تونس الآن؟ نفس المعضلة مع اختلاف الأشخاص والظروف. الدستور التونسي واضح في عدم جواز حل البرلمان، والأمر يتطلب ترزي قوانين محترف كما أستاذ القانون الدستوري الرئيس قيس سعيد للقول أن ما تم هو “تجميد” وليس “حل” للبرلمان. نعم حركة النهضة، فرع الإخوان المسلمين تونس، يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية في فشل التجربة الديمقراطية لأن الحركة نفسها، كما الجماعة الأم، لا تعتبر الديمقراطية أو الدستور أولوية. ولكن هذه الحقيقية لا تمنع من الإقرار بأن ما قام به الرئيس التونسي هو خرق فاضح للدستور في إطار أننا، سواء في مصر أو تونس أو ليبيا واليمن، ورغم اختلاف الظروف والتركيبة السكانية، ما زلنا بعيدين عن ترسيخ فكرة دولة المؤسسات واحترام الدستور الذي صاغه البشر. وهذا أمر لا يجب أن يثير الاستغراب بعد عقود طويلة من الديكتاتورية وسيادة الثقافة الشمولية بشكل عام، حتى في بعض الأحزاب التي تدعي الدفاع عن الديمقراطية، وبالطبع بين أنصار الجماعات الإسلامية وغالبية أنصار الأحزاب القومية العربية الذين قد يرون في محاربة إسرائيل والوحدة العربية أولوية مقارنة بغاية إقامة دولة الدستور والقانون.

سيستغرق الأمر غالبًا بعض الوقت، وليس بالضرورة وقتا طويلا، حتى ننتقل من مرحلة “دستور يا أسيادنا” إلى مرحلة الاعتماد على دستور يحترمه الجميع ويشعرون أنه يضمن حقوقهم. المهم ألا نتخلى عن الحلم، أو الأمل، وأن نتعلم من أخطاءنا. والمهم كذلك أن نبدأ الآن وفورا ونتمسك بالهدف، حتى لو واجهتنا عقبات وعثرات وانتكاسات كتلك التي نشهدها في تونس الآن، وأن نقر بأن الجماهير لا تأكل ديمقراطية، ولن تعالج الديمقراطية الفشل في مواجهة وباء كوفيد 19، أو العثور على فرص عمل بدلا من دفع الشباب التونسي أو المصري، للتفكير في الهروب عبر قوارب إلى أوروبا، أو الانضمام لداعش والقاعدة سعيا وراء الراحة وحور العين في الآخرة مقابل الذل والمهانة على سطح الأرض.