يمر عام على انفجار مرفأ بيروت الذي يعد أسوأ كارثة مرت بها لبنان منذ الحرب الأهلية دون إحراز أي تقدم في الوصول إلى المسؤولين ومعاقبتهم، أو حتى حصول ذوي الضحايا على تعويضاتهم، في وقت يتعرض لبنان بأكمله لكبوة اقتصادية وسياسية غير مسبوقة.

ذلك الانفجار الذي غير حياة العشرات من الكبار والأطفال، ولكنه لم يغير رأي الساسة في التوافق حول حكومة، او سياسات أقل فسادا، مما أثار الغضب الشعبي، وتوالي الهبات على أمل التغيير، إلا أن المحاصصة الطائفية حبل يلف عنق الجميع هناك. ولا تزال كذلك المساعدات الاقتصادية وإعادة الإعمار من الملفات المعلقة رغم العروض التى تلقتها الحكومة اللبنانية.

وبين هذا وذاك تستيقظ بيروت كل فترة على واقعة جديدة، والتي تعد حادثة المرفأ أشدها وطأة، ربما لايوازيها إلا اختفاء السلع، أو انفجار زيادة الأسعار، والسقوط المدوي للعملة اللبنانية، الذي أصبح معه امكانية الحصول على الطعام والشراب يوميا والحاجات الأساسية أمرا بالغ الصعوبة.

وقد تتداعى رواد وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان وعدد من دول العالم لتأبين الضحايا، وتجديد المطالبات بمحاسبة المتورطين في الجريمة، بينما قال أحدهم على “تويتر” : “لن ننسى هذه اللحظات المخيفة، كما لن ننسى حكومة لم تساهم في حماية مواطنيها فقط بل عرضتهم للخطر ايضا”.

كما طالب عدد من المغردين بالخروج للتظاهر وجعل اليوم مناسبة للثورة على الأوضاع المتدهورة في البلاد، بينما تجمع الأهالي على النصب التذكاري للضحايا حاملين صورهم.

وعلى الطريق تتقاطع الجهات الدولية مع أصوات الضحايا، المنادية بمحاسبة المسؤولين، عن حادث المرفأ الذي يعد في رأيها عنوانا على فساد مستشري ينخر في أوصال البلاد، ويصل بها إلى مرحلة التحلل.

 

انفجار بيروت..سياق فاسد

من جانبها قالت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها الصادر اليوم إن الأدلة تشير إلى تورط مسؤولين لبنانيين كبار في الانفجار الذي وقع في أغسطس 2020 في بيروت وقتل 218 شخصا.

ولكن المنظمة لفتت إلى المشاكل البنيوية في النظام القانوني والسياسي اللبناني التي تسمح لهؤلاء بتجنب المساءلة، مطالبة “مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة” أن يفوض بإجراء تحقيق.

كما طالبت الدول التي تطبق “قانون ماغنيتسكي” العالمي وأنظمة عقوبات مماثلة لحقوق الإنسان والفساد، معاقبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الناجمة عن انفجار بيروت وعرقلة العدالة.

وأشارت المنظمة إلى تقريرها المعنون بـ “’دبحونا من جوا” والذي دللت فيه على السلوك الرسمي، المعبأ بالفساد وسوء الإدارة منذ زمن طويل في المرفأ، والذي سمح بتخزين أطنان من المركّب الكيميائي القابل للانفجار نيترات الأمونيوم عشوائيا وبطريقة غير آمنة لست سنوات تقريبا.

وتسبَّب انفجار المادة الكيميائية بأحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، ودمّر المرفأ، وألحق أضرارا بأكثر من نصف المدينة.

عام على كارثة مرفأ بيروت

انفجار بيروت..جرح لم يندمل

مديرة قسم الأزمات والنزاعات في هيومن رايتس ووتش لما فقيه قالت: “تُظهر الأدلة بشكل كاسح أن انفجار أغسطس 2020 في مرفأ بيروت نتج عن أفعال كبار المسؤولين اللبنانيين وتقصيرهم، إذ لم يبلّغوا بدقة عن المخاطر التي تشكلها نيترات الأمونيوم، وخزّنوا المواد عن سابق علم في ظروف غير آمنة، وتقاعسوا عن حماية الناس، بعد مرور عام، ما زالت جراح ذلك اليوم المدمر محفورة في المدينة بينما تنتظر عائلات الضحايا الإجابات”.

واعتمدت هيومن رايتس ووتش على مراسلات رسمية، بعضها لم ينشر من قبل، متعلقة بالسفينة “روسوس”، التي جلبت نيترات الأمونيوم إلى المرفأ، وحمولتها، إضافة إلى مقابلات مع مسؤولين حكوميين وأمنيين وقضائيين، لتوضيح كيف وصلت المواد الخطرة وخُزّنت في المرفأ.

كما فصّلت هيومن رايتس ووتش ما كان يعرفه المسؤولون الحكوميون عن نيترات الأمونيوم والإجراءات التي اتخذوها أو تقاعسوا عن اتخاذها لحماية السكان.

وبحسب المنظمة تثير الأدلة حتى الآن تساؤلات حول ما إذا كانت نيترات الأمونيوم متوجهة إلى موزامبيق، كما ذكرت وثائق شحن السفينة روسوس، أو ما إذا كانت بيروت هي الوجهة المقصودة.

و قالت هيومن رايتس ووتش إن الأدلة تشير أيضا إلى أن العديد من السلطات اللبنانية كانت، بأقل تقدير، مهملة جنائيا بموجب القانون اللبناني في تعاملها مع الشحنة، ما خلق خطرا غير معقول على الحياة.

علاوة على ذلك، تُظهر الوثائق الرسمية أن بعض المسؤولين الحكوميين توقعوا وقبلوا ضمنيا مخاطر الوفاة التي يشكلها وجود نيترات الأمونيوم في المرفأ، وهو مايرقى بحسب القوانين اللبنانية إلى جريمة قتل .

جريمة متكاملة.. الجميع مذنب

قتل انفجار مرفأ بيروت 218 شخصا وجرح 7 آلاف، مسببا إعاقة جسدية لما لا يقل عن 150 شخصا، كما تسبب بأضرار نفسية لا توصف، وألحق أضرارا بـ 77 ألف شقة، فهجّر أكثر من 300 ألف شخص. وبحسب “البنك الدولي”، تسبب الانفجار بأضرار مادية تقدر بنحو 3.8-4.6 مليار دولار.

وتعهد مسؤولون لبنانيون بإجراء تحقيق جاد وسريع. لكن في العام الذي أعقب الانفجار، أدت العيوب الإجرائية والمنهجية في التحقيق المحلي إلى جعله غير قادر على تحقيق العدالة بشكل موثوق.

وتشمل هذه العيوب عدم استقلال القضاء، وحصانة كبار المسؤولين السياسيين، وعدم احترام معايير المحاكمات العادلة، وانتهاكات الإجراءات القانونية الواجبة.

تعالت أصوات الناجين من الانفجار وأهالي الضحايا في الدعوة إلى تحقيق دولي، معربين عن عدم إيمانهم بالإجراءات المحلية، وعليه تعززت الأسباب الداعية إلى إجراء تحقيق دولي، بحسب المنظمة.

لبنان.. حماية وتحصين المتهمين

ولكن للبنان باع في التحقيقات المحلية،والدولية التي لاتسفر عن شيئ، أو ردع حقيقي للمسؤولين، بفضل الحماية الطائفية، وانطلاقا من كونها ساحة للصراع الإقليمي والعالمي وهو ما أكدته منظمة العفو  الدولية وقالت إن “الجهود التي بذلتها السلطات اللبنانية بلا كلل ولا ملل طوال العام لحماية المسؤولين من الخضوع للتحقيق عرقلت على نحو متكرر سير التحقيق”.

وأقالت السلطات القاضي الأول الذي عين للتحقيق بعدما استدعى شخصيات سياسية للاستجواب، وتستمر حتى الآن برفض وتأخير طلبات قاضي التحقيق الجديد لرفع الحصانة عن أعضاء بمجلس النواب واستجواب كبار المسؤولين في الأجهزة الأمنية بشأن المأساة.

وقالت لين معلوف نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية إن السلطات وعدت بإجراء تحقيق سريع، وبدلا من ذلك أعاقت بوقاحة مجرى العدالة عند كل منعطف، وتلكأت في تحقيقها، رغم الحملة المتواصلة التي قام بها الناجون وأسر الضحايا من أجل العدل والمساءلة الجنائية.

وأضافت “تقاعست الحكومة اللبنانية على نحو مأساوي عن حماية أرواح شعبها، تماما مثلما قصرت لمدة طويلة للغاية في حماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الأساسية. وهي من خلال الوقوف في وجه محاولات القاضي لاستدعاء المسؤولين السياسيين، وجهت صفعة أخرى إلى الشعب اللبناني. ونظرا لحجم هذه المأساة، فمن المذهل أن نرى المدى الذي تستعد السلطات اللبنانية أن تذهب إليه لحماية نفسها من التحقيق”.

وكان قاي التحقيق فادي صوان، سبق وان اتهم وزير المالية السابق علي حسن خليل، والوزيرين السابقين للأشغال العامة يوسف فنيانوس وغازي زعيتر، ورئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال حسان دياب “بالإهمال” الجنائي.

وقد رفضوا جميعهم المثول أمام القاضي. وشجب حسان دياب القرار بوصفه انتهاكا للدستور. كما رفع غازي زعيتر وعلي حسن خليل دعوى قضائية لدى محكمة النقض لإبعاد القاضي صوان عن التحقيق مستشهدين بالحصانة التي يتمتع بها أعضاء المجلس النيابي من المقاضاة الجنائية.

وفي أعقاب ذلك أوقف القاضي صوان التحقيق قرابة الشهرين، ولاحقا أقيل من قبل محكمة النقض في لبنان فيما قوبل قرار إعفائه بغضب شديد من جانب أسر الضحايا الذين خرجوا إلى الشوارع منددين بالتدخل السياسي في التحقيق.

ما بعد الانفجار.. إعمار لبنان

على مدار عام كامل، تعمل خطط الإعمار على تضميد جراح اللبنانيين من حادث انفجار مرفأ بيروت الذي تباينت تقديرات خسائره الاقتصادية والتي لا تزال تلقى بظلالها على الاقتصاد المحلي.

يقدر “غولدمان ساكس” ميزانية إعمار مرفأ بيروت فقط بين 3 و5 مليارات دولار، لكن لا يتضمن ذلك الرقم نحو 300 ألف شخص بلا مأوى، بعدما دمر الانفجار منازلهم.
 
قدمت ألمانيا مشروعا لإعادة إعمار المرفأ، من خلال بنك الاستثمار الأوروبي، بتكلفة ٣.٥ مليار دولار، بينما عرضت شركة «سي.إم.إيه سي.جي.إم» الفرنسية إعادة بنائه خلال ثلاث سنوات.
 
لكن تلك الجهود اصطدمت بالفراغ الحكومي، فالمبادرات الأوروبية اشترطت للتعمير وجود حكومة والقيام باصلاحات اقتصادية.
أزمة اقتصادية طاحنة في لبنان
أزمة اقتصادية طاحنة في لبنان
 
كما تم تدشين خطة عمل دولية لإعادة إعمار الأضرار الناجمة عن انفجار المرفأ، والتي تأتي تحت عنوان “إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار للبنان”، عبر الجهات الثلاث البنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، بتكلفة بـ2.5 مليار دولار.
 
وتسعى مصر للمشاركة في تلك الجهود، ارتكازا على العلاقات بين البلدين، والتنسيق بين نقابات المهندسين المصرية ونظيرتها اللبنانية، تحت مظلة اتحاد المهندسين العرب.
 
وفازت شركة المقاولون العرب بمناقصة تطوير لمطار طرابلس الدولي ومرافق، بحسب منشور للسفارة المصرية في بيروت .ولشركة “المقاولين العرب” رصيد سابق من المشروعات في لبنان بينها مشروع صرف صحي في مدينة صيدا بتكلفة 18 مليون دولار عام ٢٠٠٦.
 
وأبدى قطاع المقاولات المصري استعداده للمشاركة بفاعلية في اعادة إعمار لبنان، وأوفد المهندس سيد الشحات رئيس شركة «إيلجلكت» كممثل له للوقوف علي احتياجات قطاع الكهرباء وامكانية مشاركة شركات القابضة في اعادة الأوضاع لما كانت عليها.
 
ووفقا للبنك الدولي، فإن الانفجار تسبب بأضرار وخسائر اقتصادية تتراوح قيمتها بين 6.7 و8.1 مليارات دولار.
 
أسفر الحادث عن تدمير 67 ألف وحدة سكنية بشكل كامل و16 ألفا بشكل جزئي، بينها مؤسسات ثقافية، وبيوت تراثية تقترب من ١١٢٠ بشكل كامل أو خفيف. ما يجعل الأوضاع صعبة على الأرض، إضافة المنازل المتضررة إلى الوحدات السكنية والمكتبية والمحال المهدمة كلياً في حرب حزب الله واسرائيل في جنوب لبنان ٢٠٠٦ التي تفوق 30 ألف وحدة، موزعة على مساحة تتراوح ما بين 5.5 و6 ملايين متر مربع من البناء في المناطق اللبنانية، بتكلفة 3.4 مليار دولار.