استلمت الجزائر زمام المبادرة هذه المرة في محاولة لحلحة التأزم الذي أصاب ملف سد النهضة. وذلك بعد وساطات دولية وإقليمية فشلت في إيجاد حلول من شأنها خفض حدة التوتر والتصعيد.

وكانت القاهرة المحطة الثالثة لوزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، قادمًا من الخرطوم التي وصلها قادما من أديس أبابا. والتي حملته رسالة تطلب فيها استئناف المفاوضات.

تمتلك الجزائر أوراقًا تحول دون مصير المبادرات السابقة، خاصة كون البادرة إثيوبيا هذه المرة. وذلك رغم أنّ البعض يتخوف من أن تبقى مجرد محاولة دبلوماسية تأخذ موقعها في سجلات ملف السد.

وزيارة “لعمامرة” إلى مصر هي الأولى من نوعها منذ صول الرئيس عبد المجيد تبون إلى السلطة عام 2019. وفي ضوء ذلك دعا الوزير إلى ضرورة عودة الدول الثلاث إلى طاولة المفاوضات بهدف الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف.

دلالات الزيارة

استعادة الدور العربي والأفريقي

بعدما تشكلت الحكومة الجزائرية في يوليو الماضي عاد “لعمامرة” لحقيبة الخارجية خلفًا لصبري بوقادوم. ومعها أعادت الجزائر ترتيب خطواتها على الساحة الأفريقية، حيث بدأ الوزير الجديد زيارة تونس. ثم اتجه إلى إثيوبيا والتي طلبت وساطة الجزائر مع مصر والسودان في ملف سد النهضة. ومنها إلى السودان انتهاءً بمصر.

وجاءت هذه الزيارة بعد أسبوعين من محادثة هاتفية بين الوزير لعمامرة مع نظيره المصري شكري، والتي تطرق فيها الحديث إلى أزمة سد النهضة. كما تستعد الجزائر لاستضافة القمة العربية القادمة في دورتها العادية رقم 31.

وزير الخارجية سامح شكري ونظيره الجزائري
وزير الخارجية سامح شكري ونظيره الجزائري

وتعكس هذه التحركات هدف الجزائر بالانخراط في القضايا الإقليمية، وتحقيق انتصارات دبلوماسية واستراتيجية، بهدف حشد الدول الأفريقية في صفوفها. بالإضافة إلى الحصول على دعم أفريقي في عدد من الملفات مثل مشكلة القبائل الحدودية. وتعزير مكانتها في القارة الأفريقية، من خلال دعم الأمن والاستقرار في دول القارة.

الحد من نفوذ إسرائيل في المنطقة

تأتي هذ الزيارة بعد منح إسرائيل صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي، وهو ما يثير مخاوف عدد من الدول العربية لاسيما الجزائر لاعتبارات تتعلق بالموروثات التاريخية، فيما يرتبط بمشكلة الصراع العربي الإسرائيلي. كما أن إسرائيل تربطها علاقات دبلوماسية وتجارية بالمغرب وهو ما قد يهدد استقرار الجزائر في ظل الخلافات القائمة. خاصة أن الجزائر من الدول العربية التي لا تعترف بإسرائيل، وترفض التطبيع معها. وهو ما تقابله الأخيرة بالالتفاف حول الدول الأفريقية والضغط على الجزائر.

وقالت الجزائر إن القرار “لا يحمل أي شرعية ويتعارض مع المبادئ التأسيسية للاتحاد الأفريقي”. كما بدأت تكوين جبهة أفريقية رافضة للقرار تضم: “جنوب أفريقيا، تونس، إريتريا، السنغال، تنزانيا، النيجر، جزر القمر، الغابون، نيجيريا، زمبابوي، ليبيريا، مالي وسيشل). وذلك وفقًا لتقرير قدمته قناة “الواقع” الجزائرية، بهدف محاصرة المد الصهيوني داخل الاتحاد الأفريقي.

الدوافع الإثيوبية

اختيار الجزائر كوسيط بين الدول الثلاث

تعتبر الجزائر اختيارا مثاليًا للقيام بالوساطة بين الدول الثلاث؛ إذ إنها تتمتع بعلاقات جيدة مع كل منها. ولذلك التزمت الحياد منذ اندلاع الأزمة، وكانت الجزائر الدولة الأولى التي زارها الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد وصوله إلى الحكم. كما يتطابق البلدان في بعض المواقف مثل الملف الليبي.. ونجحت الجزائر في توقيع اتفاقية سلام بين إثيوبيا وإريتريا في ديسمبر 2000.

وعلى وجه الخصوص، يتمتع لعمامرة بتاريخ دبلوماسي ناجح، حيث عمل سابق سفيرًا في إثيوبيا. وكان له دور رئيس في إنهاء النزاع بين الحكومة و”حركة الليبيريين المتحدة من أجل المصالحة والديمقراطية” في ليبريا خلال الفترة بين عامي 2003 و2007. كما قاد المفوضات في مالي إلى أن وقع اتفاق مصالحة برعاية جزائرية في عام 2016.

وكلف الاتحاد الأفريقي لعمامرة بمهمة الوساطة في مدغشقر عام 2018، والتي أسفرت عن الاتفاق بين الحكومة والمعارضة. ومن ثم فهو من أبرز الدبلوماسيين المتخصصين في مجال الوساطة الدولية لحل النزاعات بالأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي. وهو ما أعاده إلى المشهد للمرة الثالثة لرئاسة الخارجية.

تراجع الموقف الإثيوبي في ظل التوترات الداخلية الراهنة

تفاقمت حدة الصراعات الدائرة في إثيوبيا، في ظل تمدد جبهة تحرير تيجراي، والهزائم المتتالية للجيش الإثيوبي. وهو ما يضعف موقف رئيس الحكومة الإثيوبي آبي أحمد، ولذلك لجأ إلى حل الوساطة لعودة المفاوضات مرة أخرى. وذلك بهدف الحصول على الدعم الدولي والأفريقي في مواجهة التيجراي، خاصة بعد كذب الادعاءات بأن إثيوبيا انتهت من الملء الثاني للسد بمقدار 13.5 مليار متر مكعب.

ردود فعل الأطراف المتنازعة

تأتي هذه الوساطة بناء على طلب من أديس أبابا. إذ أكد وزير الخارجية الإثيوبي “ديمقي مكونن” رغبة إثيوبيا في الاستخدام العادل والمنصف لمياه النيل. كما جدد التزام بلاده باستئناف المفاوضات الثلاثية بشأن سد النهضة برعاية الاتحاد الأفريقي.

وبالنسبة للسودان، أكدت وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي أن الخرطوم تسعى للوصول إلى حل دبلوماسي. وأن موقف السودان يتمثل في ضرورة الاتفاق القانوني الملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة. كما رحبت السودان بالمبادرة الجزائرية، وأشارت إلى أنها تتفق مع إعلان المبادئ، وفقا لبيان صادر عن مجلس السيادة الانتقالي.

أما القاهرة، فأكد الرئيس السيسي موقف مصر الثابت بالتمسك بحقوقها التاريخية من مياه النيل وبالحفاظ على الأمن المائي لمصر. مع التشديد على أهمية انخراط الأطراف المعنية في عملية التفاوض بجدية وبإرادة سياسية حقيقية للوصول لاتفاق شامل وملزم قانونا، وذلك حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.

السيناريوهات المحتملة

استئناف المفاوضات

من المتوقع، أن تسفر الوساطة عن عودة الأطراف الثلاثة إلى طاولة المفاوضات مرة أخرى، في ظل الجهود التي تبذلها الجزائر. كما يبدو من المؤشرات الأولية أن الأطراف المعنية ترحب بجهود الوساطة، خاصة أن إثيوبيا هي التي بادرت باقتراح عودة المفاوضات. إذ إن الدول الثلاثة تأمل في حل سلمي دبلوماسي لإنهاء الأزمة درءًا للانزلاق إلى خسائر غير محتملة. ولكن الوساطة الأفريقية تحتاج دعمًا دوليًا من أجل تحريك الملف بجدية والضغط على إثيوبيا للالتزام ببنود الاتفاق المزمع الوصول إليه.

رفض الأطراف المعنية المبادرة الإثيوبية

أظهرت قضية سد النهضة افتقاد إثيوبيا لإرادة سياسية حقيقية، نظرًا لمحاولتها إفشال المفاوضات في المرات السابقة. وهو ما وصف بالتعنت الإثيوبي؛ مما يمثل عائقا رئيسيا أمام عودة المفاوضات مرة أخرى. وأنها قد تتحول إلى مجرد حلقة من سلسلة المفاوضات الخاوية التي تستهدف منها أديس أبابا الاستفادة من عامل الوقت لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.

لذلك، فإن أزمة سد النهضة من القضايا الفاعلة في القارة، ما يجعل ثمة ضرورة للوصول إلى حل في هذه المسألة. ويعتبر الحل السلمي الذي يرضي كافة الأطراف هو الخيار الأمثل للدول المعنية. وإذا استطاعت الجزائر تحقيق خطوت إيجابية ملموسة في هذا الملف، سيترتب عليه إضافة وتأكيد ثقل الدبلوماسية الجزائرية في القارة. فضلا عن إبراز قدرة مختلف دول القارة على التصدي للمشكلات الأفريقية بحلول من داخل البيت الأفريقي.