اعتقاد شائع لدى جموع المصريين. أن مصير الشخص ومستقبله متوقفان على مجموع درجاته في الثانوية العامة. كثير  من الأسر تتعامل مع امتحان الثانوية باعتباره خطبا جلل يحتاج استعدادات غير عادية، تصل أحيانا إلى تخصيص معظم موارد الأسرة المالية لطالب الثانوية العامة، ليحقق أحلام أبويه في الوصول إلى إحدى كليات القمة أملا في ارتقاء درجات في السلم الاجتماعي الطبقي.

المثير للاهتمام أن قواعد اللعبة لم تتغير وفق شروط العرض والطلب في تنسيق القبول بالجامعات 2020. الذي أسفر عن استمرار قائمة “كليات القمة” المعتادة بتصدر كليات الطب والصيدلة لشعبة العلوم. وتصدر كليات الهندسة قائمة شعبة الرياضيات وتصدر كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام والألسن لقائمة الشعبة الأدبية. فالجامعة في النهاية ينطبق عليها ما ينطبق على أي سلعة من السلع.

بلغ عدد المقبولين بكليات الطب في العام الماضي 9000 طالب بزيادة 10% عن عام 2019. بينما انخفض عدد المقبولين بكليات الصيدلة بنفس النسبة ليبلغ 7500 طالب. بالإضافة إلى 7500 آخرين تم قبولهم بكليات طب الأسنان والعلاج الطبيعي. ليبلغ عدد المقبولين بكليات القمة لشعبة العلوم 24 ألف طالب.

وبلغ الحد الأدنى للقبول بكليات القمة لشعبة العلوم 403.5 درجة بنسبة 98.4% بكليات الطب و403 درجة بكليات طب الأسنان بنسبة 93.9%، فيما تم قبول 18 ألف طالب بكليات الهندسة من شعبة الرياضيات وهي كلية القمة الوحيدة للشعبة، وبلغ الحد الأدنى للقبول بها 385 درجة بنسبة 93.9%.

وحصل طلاب الشعبة الأدبية على خمسة آلاف مقعد في كليات القمة التي تشمل الاقتصاد والعلوم السياسية وكليات الإعلام وكليات الألسن، وسجل الحد الأدنى للقبول بها 395 درجة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بنسبة 96.34%، و391.5 درجة بنسبة 95.49% لكلية الألسن، و387 درجة بنسبة 94.39% لكليات الإعلام.

هذه الأعداد المقبولة بكليات القمة هل تعبر بشكل واقعي عن احتياجات سوق العمل من الأطباء والمهندسين والإعلاميين والباحثين وغيرها، ويبقى السؤال هنا هل التنسيق مرتبط حاجة سوق العمل في مصر؟

من المتحكم في كليات القمة؟

كليات الطب التي تتصدر المشهد الآن وتضمن لخريجيها وظيفة تأخذه بعيدا عن شبح البطالة كانت تحتل  في ستينيات القرن الماضي المرتبة الرابعة وتسبقها كليات (الفنية العسكرية، الهندسة، الاقتصاد والعلوم السياسية). غير أن تلك الكليات قد تراجعت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي لصالح المجموعة الطبية. وبوجه خاص كلية الطب. وفي نفس الفترة كانت كلية التربية منافسا قويا للمجموعة الطبية في الإقبال الطلابي. وظل الوضع كذلك إلى عام 1998حين تم إلغاء نظام التكليف بكليات التربية في عهد الدكتور كمال الجنزوري. وهو ما ترتب عليه تراجع نسبى في الإقبال عليها، لأن التكليف جعل من فرصة العمل أمرا مؤكدا لخريجي تلك الكلية.

سوق العمل ليس المتحكم الأوحد في توجيه رغبات طلاب الثانوية العامة
سوق العمل ليس المتحكم الأوحد في توجيه رغبات طلاب الثانوية العامة

وفي سبعينات وثمانينيات القرن الماضي أثناء الطفرة الإنشائية الكبرى التي شهدتها مصر. وظهور الأبراج وتحول أغلب بيوت الريف إلى الطوب الأحمر في البناء كانت أقسام المدني تشهد إقبالا هائلا من طلاب كليات الهندسة. ومع مطلع التسعينات والطفرة الهائلة في وسائل الاتصال والإنترنت. وأصبحت أقسام الاتصالات هي الأعلى إقبالا وتقييما في كليات الهندسة بمختلف الجامعات.

قد لا يكون سوق العمل هو المتحكم الأوحد في توجيه رغبات طلاب الثانوية العامة في المرحلة الجامعية. بل يتشارك معه عناصر أخرى مثل الوجاهة الاجتماعية والتقدير المجتمعي الذي تحظى به بعض المهن في مصر. وكذلك رغبات الأهل في توريث المهن في بعض القطاعات خاصة الطب والهندسة.

نقص الأطباء ونزيف الهجرة

يبدو وضع القطاع الطبي هو الأفضل بين قطاعات التشغيل، فالبطالة في هذا القطاع تبلغ صفر %، بل إن مصر لا تزال تحتاج إلى متخصصين في المهن الطبية لتغطية احتياجاتها والوصول للمعدل العالمي في هذا القطاع بالنسبة لعدد السكان.

ويبلغ عدد الأطباء في مصر بالقطاع الحكومي وفقا لبيانات نقابة الأطباء 188535 طبيب بمعدل 1.88 طبيب لكل ألف مواطن. بينما يبلغ عدد الأطباء في القطاعين الحكومي والخاص 212835 طبيب بمعدل 2.1 طبيب لكل ألف مواطن. هذا الرقم غير دقيق، حيث إن 120 ألف طبيب من إجمالي المسجلين بالنقابة إما هاجروا أو يعملون بالخارج، مما يهبط بمعدل الأطباء لكل ألف مواطن إلى نسبة 0.9% فقط.

هذا الرقم يمثل خطرا كبيرا على حالة الصحة في مصر، حيث يبلغ المعدل العالمي طبيبا واحدا لكل 350 مواطنا، أي 3 أطباء لكل ألف مواطن، مما يعني أن مصر ما تزال في احتياج لأعداد كبيرة من خريجي كليات الطب والمهن الطبية، حتى تتمكن من تغطية احتياجاتها الداخلية وتعويض نزيف الهجرة والعمل بالخارج لخريجي هذا القطاع.

زيادة أعداد الصيادلة

على العكس من الوضع بين خريجي كليات الطب يبدو الأمر في قطاع الصيدلة، حيث ذكر نقيب صيادلة القاهرة الدكتور محمد الشيخ، عن ارتفاع معدل الصيادلة في مصر بخمسة أضعاف مقارنة بالمعدل العالمي البالغ صيدلي واحد لكل خمسة آلاف مواطن، بينما يبلغ هذا المعدل في مصر صيدلي لكل 400 مواطن.

كليات الطب التي تتصدر المشهد الآن وتضمن لخرجيها وظيفة تأخذه بعيدا عن شبح البطالة
كليات الطب التي تتصدر المشهد الآن وتضمن لخرجيها وظيفة تأخذه بعيدا عن شبح البطالة

دفع هذا الوضع بنقابة الصيادلة لطلب تخفيض أعداد المقبولين بكليات الصيدلة وهو ما استجاب له المجلس الأعلى للجامعات في العام الماضي مخفضاً عدد المقبولين من 14 ألف سنويا إلى 7500 طالب فقط في العام الماضي 2020.

وأكد الشيخ، أن هناك تكدس كبير ونسبة بطالة مرتفعة بين خريجي كليات الصيدلة يستلزم إجراء المزيد من التخفيضات في الأعوام المقبلة للحفاظ على التوازن في سوق العمل بالنسبة للخريجين في هذا القطاع، خصوصا بعد استغناء دول الخليج عن أعداد كبيرة من الصيادلة المصريين العاملين بها.

المشروعات القومية تنقذ المهندسين

يبلغ عدد المهندسين المسجلين في مصر 850 ألف مهندس في كل التخصصات وفقا لبيانات نقابة المهندسين المصرية، وليس هناك رقم دقيق لنسبة البطالة بين المهندسين، وصرح عضو لجنة التعليم الهندسي بالنقابة ياسر شعبان بأنه “لا توجد بطالة بين المهندسين في مصر، ولكن يوجد خريجون غير مؤهلين للعمل”.

وتبدو مشكلة المهندسين مختلفة نوعيا، حيث يوجد في مصر أكثر من 55 معهدا تدرس الهندسة. وتدفع بعشرات الآلاف من الخريجين لسوق العمل سنويا، وهو ما دفع نقيب المهندسين “طارق النبراوي” لطلب وقف تراخيص المعاهد الهندسية لمدة خمس سنوات، واستجاب له المجلس الأعلى للجامعات بدءا من العام الماضي.

وكان اتحاد المهندسين العرب قد حدد 22 معهدا دراسيا خاصا للهندسة في مصر يرفض السماح للخريجين بالعمل في الدول العربية لضعف مستواهم وتأهيلهم المهني.

محمد كمال: التنسيق هو البوابة الوحيدة للطالب لدخول أي كلية يريدها في الجامعات الحكومية التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. مؤكدًا على أنه لا توجد طريقة أخرى للتقديم في الجامعات لطلاب الثانوية العامة

وساهمت المشروعات القومية مثل خطوط المترو والمونوريل والعاصمة الإدارية وغيرها من المدن الجديدة في تقليل نسب البطالة بين المهندسين وزيادة الطلب على توظيفهم. كما أن قطاعا كبيرا من الشركات العالمية يعتمد على المهندسين المصريين من خريجي الجامعات الحكومية في تنفيذ مشاريع تلك الشركات حول العالم.

وكان تقرير صادر عن هيئة اليونسكو بعنوان “الهندسة.. قضايا وتحديات وفرص التنمية”. كشف عن احتياج العالم لحلول هندسية إبداعية بغية التصدي لأكبر التحديات التي يواجهها بدءا بالفقر وانتهاء بتغير المناخ. ويسلط التقرير الضوء على النقص في أعداد المهندسين المطلوبين في العالم. مقدرا احتياجات أفريقيا جنوب الصحراء فقط بـ 2.5 مليون مهندس وأخصائي تقني لتحقيق أهدافها التنموية المتمثلة في توصيل المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي لمواطنيها.

الثانوية العامة وسوق العمل

لا يبدو أن هناك تنسيق دقيق بين احتياجات سوق العمل ومعايير التنسيق للحاصلين على الثانوية العامة، وهو ما يستدعي تدخلات من باقي أطراف المنظومة مثل النقابات المهنية ووزارة القوي العاملة بين وقت وأخر.

ويذكر أستاذ القيم والأخلاق بكلية الآداب جامعة كفر الشيخ، الدكتور محمد كمال أن “التنسيق هو البوابة الوحيدة للطالب لدخول أي كلية يريدها في الجامعات الحكومية التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي. مؤكدًا على أنه لا توجد طريقة أخرى للتقديم في الجامعات لطلاب الثانوية العامة”. لكن السوق أيضا له آلياته في توجيه اختيارات الطلاب وتحديد توجهاتهم الدراسية ما بعد المدرسية.