“التار ولا العار”، عبارة ارتبطت بصعيد مصر، توارثتها الأجيال وراح ضحيتها الكثير من الأرواح. واستمر سلسال الدم رغم تغير الزمن وما وصلنا له من تقدم علمي ووعي، لكن مازالت تلك الموروثات راسخة ومستقرة في وجدان أهالي الصعيد.
شكلت قسوة وقائع الثأر في مصر وجدان المحامية أماني أبو سحلي. التي ترفض استمرار هذه العادات السيئة حتى يومنا هذا، قائلة “مازال الثأر ينتشر في جنوب مصر، لكننا نسعى بكل الطرق للحد منه، وهو عادة سيئة موروثه من قديم الأزل حصدت الكثير من الأرواح”.
ووفق إحصاءات رسمية صادرة عن وزارة الصحة، فإن أعداد ضحايا الثأر في محافظتي سوهاج وقنا في الصعيد فاقت أعداد ضحايا حوادث السير رغم كثرتها.
مبادرات لوقف سلسال الدم
مبادرة وليدة خرجت من رحم الحزن أسستها أماني أبو سحلى على عكس المتوقع من النساء الصعيديات. بعد أن خطف الثأر وليدها في عمر الـ 16 عاما، أثناء خطواته متجها إلى مدرسته، بمركز فرشوط التابع لمحافظة قنا، واضعة حدا للصراع الممتد عبر الزمن بين العائلتين.
قررت أماني هي وزوجها خلع جذور القصة الممتدة عبر سنوات والتوقف عن الثأر، متسائلة “هل يعيد الثأر ابني؟”. معلنة رفضها أي تدخل عائلي في الأمر حتى لا يفقد آخرون من أبناء العائلة حياتهم مثلما حدث من قبل بفقدان 17 من أبناء العائلة في حادث ثأر. ويستمر سلسال الدم بين العائلتين، لذا قررت أن يتوقف الصراع الدائر بقتل ابنها.
وأسست أماني “لجنة المصالحات النسائية بالصعيد”، لتمثل حد الكفاية من القتل والثأر، منطلقة للحديث مع المرأة باعتبارها المحرك الأساس في عمليات الثأر، فتقول:” أقابل والدة المتوفى أو زوجته وأعمل على إقناعهن بعدم أخذ الثأر أو تربية الأطفال عليه للتوقف عن إراقة الدماء”.
وتوضح أماني أن الحلول التي تتوصل إليها لجنة المصالحات تتمثل في تقديم الكفن والعفو والتسامح أو اللجوء للقضاء بشرط اتهام مرتكبي الفعل، في عملية قد تستغرق أعوام لإقناع الأسرة، قائلة “لن أتوقف ومستمرة فيإقناع الأسر بالتوقف عن الثأر”.
النساء المحرك الرئيسي للثأر
يرتبط الثأر بأولياء الدم “من أقارب القتيل” الذين يرغبون في الحصول على القصاص من القاتل أو أبنائه أو أقاربه انتقاما له. لكن دون مراعاة للقانون ولا الأحكام القضائية، وتعد المرأة الصعيدية هي الأكثر حرصا على الأخذ بالثأر لأبنائها أو لزوجها. وكذلك الأكثر تأثيرا في عائلتها وفي دوائرها الأوسع أيضا.
ولطالما جسدت الدراما المصرية المرأة في صورة المحرض الأكبر على الأخذ بالثأر، اتكاء إلى مكانتها في المجتمع الصعيدي.
وفي حالة أماني تغيرت كل قواعد اللعبة. وكسرت حاجز الأعراف لوقف نزيف الدم ووضع حدا لحالة الرعب التي تعيشها الأسر. انتظارا لخطف روح جديدة لتحقيق التعادل في الدم.
عقبات في طريق الصلح
لم يكن الأمر سهلا على أماني بعد تخليها عن ثأر ابنها، حيث تعرضت لمقاطعات ومضايقات من عائلتها وقاطعتها بعض الأسر، لكن موقفها من قضية الثأر ظل ثابتا ولم تتراجع رغم الضغوط التي تمارسها العائلة.. وعن كيفية إقناع الأسر، تقول: “بكون أقرب وأصدق لمن مروا بالتجربة، بيتم تصديقي لأني شعرت بالوجع مثلهن. وتشعر أماني بأن حديثها مع السيدات حقيقي نظرا لفقدانها طفلها في عملية ثأر”، مشيرة إلى أن مدة الجلسة تصل أحيانا لـ 5 ساعات وقد تطول عن ذلك.
اقتحام مجالس الرجال والثأر
خطوة جريئة اتخذتها بنت الأقصر صفاء عسران، مؤسسة لمبادرة “درع التسامح.. صعيد بلا ثأر”، تلك الفتاة الصعيدية التي تتحدى العادات والتقاليد، واستطاعت أن تقتحم مجالس الرجال، لتحضر جلسات الصلح بين الطرفين.
حاولت صفاء أن تكسر التقاليد الصعيدية، لتكون أول فتاة تحضر الجلسات العرفية، فبعد تخرجها من كلية الآداب قسم الإعلام أرادت أن تكون أداة لتغيير أفكار الصعيد.
بداية من 2013، حضرت صفاء أول مصالحة في دشنا وسط الآلاف من الرجال، الأمر الذي لم يمر سهلا على أهالي الصعيد بقبول فتاة وسط جلساتهم، ولكن استمرار تواجد صفاء وحرصها على ما تؤمن به جعل قبولها طبيعيا، وتقول: “واجهت رفضا شديدا في البداية وكانت تلاحقني النظرات الرافضة لوجودي ولما أفعل إلا أن هذا لم يوقفني عن حل الخصومات الثأرية”.
حرصت الفتاة الصعيدية على عدم الاكتفاء بالجلسة. ولكنها عملت على توصيل رسائل خارج حدود القرية والمراكز عبر نشرها لمقاطع الصلح ومواجهات الطرفين من أسر الجاني والمجني عليه والإجابة عن ماذا استفاد الطرفان. وتتلخص في إجابة واحدة هي “خسارة الطرفين في الخصومات الثأرية، نصف العائلة في الحبس والنصف الآخر بين حكم الإعدام والحبس مدى الحياة”.
درع التسامح
دعمت عسران مبادرتها بإدخال شيء جديد لتعظيم مكانة صاحب العفو والتوقف عن سلسال الدم، وهو ما سمي بدرع التسامح.
وتقول عسران:” المبادرة لا تقتصر على دوري كقاضية عرفية، بل أضفت شيئا سيظل موجودا لسنوات، في مواجهة ما يفعله أهل الفتنة من محاولة لتشويه النظرة لفكرة تقديم الكفن، لذا أدخلت درع التسامح الذي يسلمه للشخص لولي الدم أو من يستلم الكفن لتكريمه بشكل يليق به وسط الأهالي”.
“العفو من شيم الرجال”، كتبت عسران تلك العبارة على درع التسامح لتسليمه لولي الدم مع الحرص على إبلاغه بأن الحكومة ومؤسساتها تبلغه التكريم أمام الآلاف لقبوله وقف الدم، عقب “المفاوضات التي تستمر لأعوام قد تطول أو تقصر نظرا لعدم قبول أهل المجني للكفن”، بحسب عسران.
نصب الصوان
تفرغت 8 سنوات لقصة الثأر سواء لتدخلات عرفية أو تغطية، تقول عسران، مشيرة إلى طريقة عملها وتحقيق الصلح بين الأسر المتخاصمة: مضيفة “أبدأ بالحديث مع ولي الدم، ولكن أولا لابد من دراسة كل ملف وتحديد مداخله والوقوف على بعض النقاط مثل طريقة القتل وهل كانت بقصد أو بدون، صلة القرابة، وأطراف الفتنة في الخصومة، والتجاوزات التي وقعت وكذلك التساوي بين عدد القتلى.
صفاء عسران: واجهت رفضا شديدا في البداية وكانت تلاحقني النظرات الرافضة لوجودي ولما أفعل إلا أن هذا لم يجعلني أتوقف عن حل الخصومات الثأرية
وتحرص عسران على أن تنتهي الجلسات إلى الصلح، ونصب الصوان الذي يتم خلاله إعلان التصالح والتسامح وكذلك تسليم الكفن.
أماني وصفاء تشعران بالفخر والتمسك بما حققتاه، خاصة أن مجهوداتهما لم تضع، وتتوج بالشكر دائما، بعد محاولتهن تغيير الثقافة المجتمعية للصعيد، وإعادة التنمية مرة أخرى، وكذا محاولة تغيير نظرة الفن للصعيد من أجل تبديل الموروثات والعادات والتقاليد التي لا ينتج عنها سوى خسارة الأرواح.