منذ عشر سنوات كتبت مقالا تحت عنوان “مصر ليست تونس” اعترض علية البعض وزايد علية البعض الآخر وتقبله البعض الثالث، واعتبره البعض الرابع (مؤخرا) صحيحا لأن رسالته الأساسية لم تكن قضية الثورة، إنما كيف أن اختلاف السياق السياسي والاجتماعي بين البلدين سيؤدي إلى بناء نظامين سياسيين مختلفين، وهو لا يعني أن هناك بلاد مؤهله للديمقراطية وأخري لا، إنما يعني أن مسارات الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون ستختلف تبعا للفاعلين السياسيين والسياق الاجتماعي.

ولعل ماجري في تونس مؤخرا في أعقاب قرارات الرئيس قيس سعيد بتجميد عمل البرلمان وإعفاء الحكومة يعيد الجملة السابقة معكوسة: “تونس ليست مصر”، وإن كل من يتصور أنها ستعيد تكرار التجربة المصرية مخطأ لأن واقعها وطبيعة التحديات التي تواجهها تختلف كثيرا عن السياق المصري، وأن النصيحة الأمينة لتونس هو أن تكون مخلصة لسياقها المجتمعي والسياسي الذي سيفرض عليها اختياراتها الخاصة التي ستساعدها على النجاح.

مصر وتونس

من المؤكد أن حركة النهضة أحد الأسباب الرئيسية وراء الأزمة التي شهدتها تونس ودفعت الرئيس قيس سعيد إلي تجميد عمل البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه بدعم شعبي واضح.

وتعتبر النهضة مسئولة عن جملة من “الخطايا السياسية” أدت إلى تفاقم الوضع السياسي منذ الانتخابات البرلمانية في 2019 (حصلت على 54 من أصل 217 مقعدا)، فقد شغل تفكير قادتها ومعهم أطراف داخل النخبة البرلمانية الحاكمة التمسك بالنظام البرلماني أو المختلط حتى لو دعموا النظام الرئاسي في تركيا، وتقدموا في مايو الماضي بمشروع قانون لتحويل صلاحية الدعوة للانتخابات أو الاستفتاء، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الحكومة، لتهميش الأول وتقوية الثاني.

كما تغول رئيس الحركة ورئيس البرلمان راشد الغنوشي على الصلاحيات المحدودة لرئيس الجمهورية في مجال السياسة الخارجية، وصال وجال في بلاد الأرض يقابل زعماء الدول، ويدفع بلده إلى الاصطفاف في محور “الإسلام السياسي” المدعوم تركيا وقطريا، حتى لو كان على حساب “حياد تونس” ومصالحها العليا وأيضا خارج صلاحيات رئيس البرلمان الدستورية.

قيس والغنوشي
قيس والغنوشي

 

ومع ذلك فإن حركة النهضة هي حزب سياسي مدني وليس ذراع سياسي لجماعة دينية مثلما فعل الإخوان في مصر، صحيح أن جانب كبير من قيادات النهضة تربوا داخل جماعة الإخوان وتنظيمها الدولي، حتى لو أعلنوا بعد ذلك خروجهم منه، إلا أن هناك عشر سنوات من عمر الحركة قضتها كحزب سياسي انضم إلية آلاف التونسيين من الموظفين والعمال والتجار وآلاف الفتيات “غير المحجبات” قناعة ببرنامج الحزب السياسي، وليس بأوهام أستاذية العالم والاستعلاء الإيماني والجماعة الربانية التي يرددها الإخوان، وتفرض على كل عضو أن يبقي محبا للجماعة لسنوات قبل أن تقبله كعضو عامل فيها.

ولعل ذلك ما جعل هناك قدر من المرونة السياسية في أداء النهضة، فقدمت في 2013 تنازلات لمعارضيها ولانتفاضة الشارع ضد الحكم التي كانت شريك رئيسي فيه، وقبلت بحكومة كفاءات مستقلة، وهو عكس ما فعله الإخوان في مصر أثناء حكمهم حين ضموا مزيد من الوزراء والمحافظين الإخوان ردا على الاحتجاجات الشعبية، كما عاد العنوشي مؤخرا بعد أن وصف إجراءات الرئيس سعيد بالانقلاب وقال في اجتماع مجلس شورى الحركة أمس الأربعاء إنها فرصة للإصلاح.

احتجاجات شعبية ضد حركة النهضة
احتجاجات شعبية ضد حركة النهضة

تواجه تونس حركة سياسية مراوغة تمثل عقبة أمام الانتقال الديمقراطي ولكنها لست جماعة دينية وهو فارق مهم في التحليل والنتائج وأيضا أدوات المواجهة ولا يمكن تصور أن حل إشكالية النهضة في تونس سيكون بنفس الطريقة التي اضطرت فيها مصر أن تتعامل مع جماعة دينية عقائدية مغلقة مثل الإخوان المسلمين.

السياق التونسي

يمكن القول إن توجهات النهضة في السياسة وليس الدين كانت عقبة في مسار الانتقال الديمقراطي، كما إن أداء رئيس الحكومة هشام المشيشي المدعوم من النهضة كان أيضا عقبة أمام نجاح عملية الانتقال الديمقراطي، فقد قرر إجراء تعديل وزاري دون الرجوع للرئيس، وهو ما رفضه الأخير حتى اندلاع الأزمة الأخيرة وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه.

كما أقدم المشيشي على إقالة وزير الصحة ليس بسبب عدم كفاءاته أو فشله في مواجهة جائحة كورونا إنما لكونه “محسوب” على الرئيس ودعم قراره باستدعاء الجيش لمواجهة الجائحة في بلد تدهور فيه الوضع الصحي.

والحقيقة أن ما شهدته تونس منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2019 كان عبارة عن محاولات “استعراض صلاحيات” بين الرؤساء الثلاثة: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان وهو ما أصاب النظام السياسي بالشلل التام وأدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية.

أما الجيش التونسي فقد ظل خارج دهاليز الحكم وبعيد عن التأثير السياسي والاقتصادي ومن الصعب أن يتدخل مباشرة في العملية السياسية، رغم احترام الناس له لكونه ينتمي لقائمة الجيوش الوطنية العربية المرتبطة أساسا بالدولة والشعب ودعمها للنظام السياسي يكون باعتباره ممثل الشرعية.

ويصبح من غير المفهوم أن يحتفي البعض بدور منفصل للجيش التونسي خارج إطار دعم الرئيس المدني المنتخب قيس سعيد وباعتباره أيضا القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن السياق التونسي لا يساعد مطلقا على أن يكون هناك حكم عسكري.

ويبقي دور الاتحاد التونسي للشغل وهو منظمة ظلت دائما جزء من مشروع الدولة الوطنية التونسية، ومع ذلك فإن هذا لم يمنعها من الصدام أحيانا مع بعض الرؤساء السابقين (بورقيبة وبن علي) وعمل موائمات معهم في أغلب الأحيان إلا أنها بقيت كيان وطني ونقابي شامخ، وحجر زاوية رئيسي في تفاهمات كثيرة شهدتها البلاد وخاصة في 2014. ويكفي قراءه البيان الذي أصدره الاتحاد أول أمس الثلاثاء وكيف إنه دعم عمليا قرارات قيس سعيد دون نفاق أو تزلف وأقر برصيدها الشعبي، وطالبه في نفس الوقت بضرورة تعيين رئيس حكومة في أسرع وقت ممكن وعدم السماح لاستمرار الفترة الانتقالية أكثر من شهر.

مقر الاتحاد التونسي للشغل
مقر الاتحاد التونسي للشغل

إن أي مقارنة بين أداء الاتحاد التونسي للشغل وشكل علاقته بأجهزة الدولة مع كثير من النقابات العمالية في العالم العربي، فسيكون الفارق شاسعا في صالح الاتحاد التونسي.

تحديات كبيرة

مطلوب مساعدة تونس على عبور المرحلة الانتقالية بأدوات الخبرة التونسية أي بالسياسة التي لازالت فاعله حتى اللحظة.

فقرارات الرئيس سعيد صائبة حتى لو كان فيها بعض العوار الدستوري، فهي من الناحية السياسية كانت شبه حتمية ويجب أن يبني عليها إجراء استفتاء لتعديل الدستور التونسي في اتجاه بناء نظام رئاسي ديمقراطي، فتونس تكاد تكون البلد الوحيدة في الكرة الأرضية التي ينتخب فيها رئيس الجمهورية بشكل مباشر من الشعب “منزوع الصلاحيات” ليكتشف إن رئيس الحكومة المنتخب من البرلمان صلاحياته أوسع منه.

كما أن هذا الصراع الفج بين الرئيسيين (رئيس الحكومة والجمهورية) لم يكن فقط وليد اللحظة إنما حدث أيضا في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس وزراءه يوسف الشاهد الذي تحالف مع النهضة في مواجهة رئيس الجمهورية، وهو وضع مسئول عنه بشكل أساسي الدستور التونسي الذي قلص صلاحيات رئيسي الجمهورية حتى أصبحت أقل من صلاحيات رئيس الحكومة، وهو أمر غير وارد في النظم الرئاسية أو شبه الرئاسية التي ينتخب فيها الرئيس من الشعب.

كما أنه غير مطروح في السياق التونسي تصفية النهضة أو إنهاء وجودها كما يتصور البعض، إنما مطلوب إضعافها كما يحدث في كل بلاد الدنيا (ديمقراطية أو في مرحلة الانتقال الديمقراطي) تجاه الأحزاب المتطرفة يمينا أو يسارا، ومن الوارد أيضا انشقاقها على ضوء الخلافات العميقة التي تعاني منها وقد تؤدي إلى ظهور جيل ما بعد الغنوشي وما بعد الإخوان.

إن أمام الرئيس التونسي فرصة حقيقية لكي يتجاوز هذه الأزمة بتحويل الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها إلى خريطة طريق تجدد النظام السياسي دستوريا وسياسيا.

ستبقي التجربة التونسية ملهمة وستبقي أمامها فرص كبيرة للنجاح رغم التحديات الكثيرة التي تواجها، وإن محاولة البعض تصفية الحسابات مع ” الربيع العربي” أو الموجه الأولي من الانتفاضات العربية عبر إفشال تونس خطيئة كبري، فالمطلوب مساعدتها على النجاح، كما أن هناك موجة ثانية من هذه الانتفاضات عرفتها العراق ولبنان والجزائر والسودان وأسفرت عن مسار سياسي جديد في بلدين، بل أن الثورة في السودان قامت ضد حكم “إخواني”، بما يعني أن الأمر ليس مرتبط بفشل تونس أو نجاحها، فستظل الشعوب تدافع عن حقها في الحرية والعدالة ودولة القانون حتى لو تعثرت مرة أو مرات فإن هذه الأهداف ستبقي حاضرة بقوة.