لا اهتم بـ(لغة الأغنياء) التي يستخدمونها في قوائم الطعام الموجودة في المطاعم والكافيهات أو الفنادق وأماكن السهر، وأكاد لا أعرف منها الكثير، فهي لغة زائفة تحاول أن تخفي ضعف، ومركبات نقص، وفيها شيء من الدجل.

لكنني مغرم بـ(لغة الفقراء) فهي كلمات ومصطلحات صادقة وحقيقية ومعبرة ومعتقة كالجبنة القديمة (المش) والنبيذ ولها جذور تمتد في العقول والقلوب.

“جرجوشة ” كلمة نطقها فلاح مصري أصيل كان يحضر(ندوة توعية)، كنت متحدث فيها بمقر إحدى الجمعيات الزراعية  في قرية في مركز الفيوم في إطار مشروع تنفذه منظمة العمل الدولية يهدف إلى  “القضاء علي عمل الأطفال في الزراعة”، وفي الجزء الخاص بضوابط عمل الأطفال التي أقرتها منظمة العمل ونظمها القانون المصري، كنت أتكلم عن أهمية تغذية الطفل وتوفير وجبة إفطار متكاملة  قبل خروجه للعمل بشروط أخرى منها انتظامه في الدراسة، وأن لا يعمل في مجالات عمل خطرة تؤثر علي نموه وصحته وأخلاقه، وأن لا يقل سن الطفل عن 15عاما.

وبعد سردي لهذه الشروط والضمانات والمعايير لعمل الأطفال.

استوقفني ذلك المزارع الصادق بجملته: ” يا بيه عايز الحق ولا ابن عمه؟

هو العيل لو أمه اديته حتة جرجوشة في سيالته، ياكلها ساعة الضهرية لما يعضه الجوع وتلفحه الشمس يبقي خير وبركة.

عمالة الأطفال
عمالة الأطفال

“السيالة” هي جيب الجلابية، أعرفها جيدا فكثيرا ما ارتديت الجلابية في بلدة أمي في كفر الزيات وفي بلدة أبي في قنا في زيارات أجازه الصيف ونص العام.

“عضة الجوع” تعبير يصف قسوة الجوع وقد قالت أم حاتم  الطائي –وهي من علمته الكرم – في بيت شعر تصف فيه إصرارها على العطاء والكرم حتى بعد أن منع عنها إخوتها المال وحرموها منه:

لَعمرُك لقدماً عضّني الجوع عضّةً     فَآليتُ أن لا أمنع الدهر جائِعا

“الجرجوشة “ أفهم أنها قطعة خبز لكن كان علي أن استفسر عن شكلها ونوعها، هل هي قطعة من الخبز الفلاحي ام قطعة خبز بلدي؟

وجاءت الإجابة من الحضور أن” الجرجوشة ” في الغالب رغيف عيش بلدي مدعم (أبو خمس قروش)، فالفقراء لا يخبزون إلا نادرا. ذلك أن خبيز العيش الفلاحي أصبح رفاهية لا يمتلكها الفقراء.

أفتح صفحة جديدة في قاموسي الخاص وأكتب

 

“الجرجوشة” هي سلاح ذلك الطفل لمواجهة يوم عمل شاق تحت لهيب الشمس في الصيف وشدة البرد في الشتاء وانحناء الظهر لساعات طويلة، “الجرجوشة ” هي نصيبه كمواطن من ميزانية الدولة بعد أن حرمته الظروف من التعليم وباقي حقوقه الاقتصادية والاجتماعية.

(الجرجوشة ) أو (رغيف العيش ) سلاح استراتيجي يمتلكه المصريون، خاصة الفقراء منهم لمواجهة ظروف قاسية.

“رغيف العيش” عند المصريين ليس مجرد أكل أو طعام يصلب العود لكنه أيقونة من أيقونات الحياة عندهم يحلفون به وعليه ” طب والنعمة ده على عيني”، هذا القسم من أغلظ الأيمان عند المصريين، الحلفان على المصحف والحلفان على النعمة “لقمة العيش”.

لن تجد لقمة عيش مرمية في الطريق إلا وتعامل معها الناس بتقديس واحترام، لازم توطي وتشيل لقمة العيش تمسحها وترفعها على جبهتك وتبوسها، ثم تضعها على جانب الطريق في مكان آمن لا تصل إليه أقدام المارة، حرام تدوس النعمة أو تفرط فيها.

يكره المصريين “قطع العيش”، وهو يعني الفصل من العمل أو الطرد منه، فلا يوجد مبرر لقطع العيش مهما كان خطأ العامل، دائما قطع العيش حرام وخصوصا لو صاحب عيال.

ويقدسون “العيش والملح “، ذلك المصطلح الذي يعبر عن العشرة والصداقة والجيرة، ويا ويل مين يخون العيش والملح.

أذكر جيدا أن الذهاب إلى فرن العيش كان أول مهمة يتم تكليفي بها كطفل من أمي  لقياس مهاراتي وتدريبي على مواجهة الحياة، فرن العيش حيث الزحمة والطابور ومعارك الوصول إلى البائع مع الاحتفاظ  بالنقود وعدم ضياعها أو سرقتها، ثم التعامل بحكمة مع رغيف العيش الساخن بعد خروجه من الفرن مباشرة، مع كل هذا الازدحام يجب أن أجمع أرغفة العيش، وأضعها على “سبت العيش” المصنوع من جريد النخل   بدون ما يتعجن، وليظل رغيف العيش منفوخ ومنفوش في أبهي صورة له، وأخرج من هذا الطابور حاملا جائزتي وفخورا بها، حتى أصل إلى البيت  بتلك الغنيمة وهذا الانتصار اليومي.

بداية من الإعدادية خرجت للعمل في أعمال بسيطة لاكتساب القدرة على جلب رغيف العيش بعرق الجبين،  فرغيف العيش –وليس علبة السجائر- هو وحدة قياس النضوج والاستقلالية والقدرة على مواجهة متطلبات الحياة،  فالقافلة  تسير بقدر احتمال أضعفها.