“تحال أوراق القضية إلى مفتي الديار” هذه الجملة التي طالما سمعناها في الأفلام والمسلسلات. في إشارة إلى الحكم بالإعدام كما بات في أذهاننا. إلا أنها لا تعبر عن الواقع الذي يختلف قليلا عما ترسخه الدراما والسينما. فرأي المفتي غير ملزم وللمحكمة الأخذ بقراره أو عدم الأخذ به خاصة إذا كان مخالفا لرأى المحكمة. ولكن يتم الأخذ به لكي تطمئن المحكمة إلى حكمها وتتأكد من موافقة الشرع على تطبيق حكم الإعدام على المتهم لأن هذه القضايا حساسة ويترتب عليها إزهاق روح.
وفي ظل صدور أحكام إعدام بالجملة في عدد من القضايا، حيث تتراوح بين العشرات في الجلسة الواحدة أغلبهم ينتهي قرار المحكمة بالتصديق على حكم الإعدام. رغم المناشدات الدولية بإلغاء تلك العقوبة التي وضعت مصر في المرتبة الثالثة في تنفيذ أحكام الإعدام.
وتعمل المنظمات الحقوقية المهتمة على الضغط والمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام. لانتهاكها الحق الأصيل في الحياة، والتي جاء آخرها مناشدة أسرة الناشط علاء عبد الفتاح لمفتي الجمهورية في عدم التصديق على قرار محكمة الجنايات في حق 24 متهما.
“محلة الأمير”
وفي محاولة للعدول عن حكم صادر في حق 24 متهما من محافظة البحيرة، بعد إحالة أوراقهم للمفتي تمهيدا للحكم عليهم بالإعدام. أرسلت الناشطة ليلى سويف ومنى سيف، مناشدة لمفتي الديار المصرية شوقي علام. بالتدخل لإنقاذهم بعد إحالة أوراقهم للمفتي في قضيتين منفصلتين في جلسة واحدة، الشهر الماضي. مؤكدة “هذه الأحكام التي ستصدر بعد أخذ رأيكم لن يتمكن المتهمين من الطعن عليها بسبب قانون الطوارئ، وبالتالي فضيلتكم الملاذ الأخير لهم”.
وأشارت عائلة الناشط علاء عبد الفتاح في بيانها، إلى أن حكم الإعدام الصادر من الدائرة الأولى بمحكمة جنايات دمنهور. والذي ضم 26 شخصا، منهم 16 في قضية 303 لسنة 2018 أمن دولة عليا طوارئ مركز رشيد. وعشرة أشخاص من قرية واحدة هي “محلة الأمير”، من بينهم شقيقان، فضلا عن عشرة في قضية أخرى”.
يأتي الحكم بعد 6 سنوات من المحاكمات، حيث تعود أحداث القضية لعام 2015. حين تم تفجير أتوبيس نقل أفراد شرطة، عن طريق عبوة ناسفة مزروعة على جانب حافة ترعة الرشيدية. ما أسفر عن مقتل ثلاثة أمناء شرطة وإصابة 39 آخرين من أفراد الشرطة. ولفتت أسرة الناشط علاء عبد الفتاح: “قرار الإحالة تأخر أربع سنوات، وأثناء ذلك أخلى سبيل المتهمين بعد عاميين”.
وطالب البيان المفتي، “بمراجعة أوراق القضية والاطلاع على مذكرات المحامين، واستكشاف عقيدة المتهمين للوصول لقرار”.
أحكام لم يصدق عليها
وعلى عكس القابع في الأذهان أن المفتي يقر دائما بأحكام الإعدام، فرغم أن العُرف السائد ألا يتدخل المفتي في تفاصيل أحكام الإعدام. إلا إن هناك سوابق لتعديل أحكام بناء على الرأي الشرعي في حالة الأحكام الجماعية والإجراءات الباطلة، بحسب المناشدة.
ومن تاريخ الأحكام الصادرة من محاكم الجنايات، هناك قضايا أثبتت أن تقرير المفتي مرجع قوي ورغم أن قرار المفتي استشاري إلا إنه كثيرا ما يعتد به.
ففي قضية إحالة أوراق محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان، من محكمة جنايات الجيزة. و13 قياديا إخواني بينهم محمد البلتاجي، وعصام العريان، وعاصم عبد الماجد، وباسم عودة وزير التموين السابق، إلى مفتي الجمهورية لإبداء الرأي الشرعي في إعدام المتهمين. والتي أجلت القضية فيها إلى جلسة 30 أغسطس ٢٠١٤ للنطق بالحكم. وأشارت المحكمة إلى أن تقرير المفتي لم يسعف المحكمة في الوصول إلى قرارها النهائي في القضية.
وجاء في تقرير دار الإفتاء “أنه بمطالعة أوراق القضية وجد أنها خلت من دليل”. مما يفي بإدلاء المفتي برأي في الدليل الفني الجنائي للدعوى. حيث رأى أن دلائل القضية غير كافية للحكم على المتهمين وبالتالي كان على المحكمة أن تطلب كتابة التقرير مرة أخرى. حتى تتمكن من الفصل في الدعوى، وشهدت تلك القضية سابقة أولى بعد إحالة الدعوى مرتين إلى المفتي.
رفض المفتي مرتين
في أغسطس 2014، انتهت محكمة الجنايات إلى إحالة أوراق المتهمين في قضية “أحداث مسجد الاستقامة” إلى مفتي الجمهورية لاستطلاع رأيه في حكم الإعدام. استناداً لاتهامهم بقتل 10 مواطنين، وإصابة 20 آخرين، والتحريض على العنف.
وفي انتظار للرد الذي جاء صادما للمحكمة متسببا في وقوع أزمة بين دار الإفتاء ورئيس المحكمة المستشار محمد ناجي شحاته. حيث رفض المفتي التصديق على حكم الإعدام مرتين، كانت المرة الأولى منهما لخلو أوراق القضية من دليل إلا أقوال ضابط الأمن الوطني. الذي لم يؤيده بدليل آخر سوى ترديد البعض لأقوال مرسلة، وهو ما لا يمكن الاعتماد عليه في إنزال عقوبة الإعدام على المتهمين.
فما كان من المحكمة إلا أنها أحالت أوراق المتهمين مرة ثانية للمفتي، وأكدت أن تقرير المفتي لم يسعف المحكمة في الوصول إلى قرارها النهائي في القضية. فيما أصر المفتي للمرة الثانية على موقفه رافضًا التصديق على حكم الإعدام. مفوضاً المحكمة بإنزال الحكم المناسب على المتهمين.
من الإعدام للسجن عشر سنوات
وفي أحد القضايا التي نظرت أمام محكمة الجنائيات، قررت الدائرة 5 في أبريل الماضي 2019 بإحالة أوراق 6 متهمين للمفتي لأخذ الرأي الشرعي. في القضية رقم 301 لسنة 2016 جنايات الطالبية والمعروفة بقضية فندق الأهرامات الثلاثة.
وقال المحامي أحمد راغب والموكل من أحد المتهمين في هذه القضية. إن الحكم جاء صادما في البداية خاصة وأن المتهم الذي يدافع عنه وقت وقوع الجريمة كان عمره يبلغ 17 عاما. وهو وفقا لقانون الطفل لا يجوز توقيع عقوبة الإعدام عليه وفقا للمادة 111 من قانون الطفل.
بعد 6 أشهر، قررت المحكمة تحديد جلسة للنطق بالحكم بعد تأجيلها أكثر من مرة. بعد أن تقدم محامي المتهم بطلبات للدائرة وبعض الجهات المختصة لبيان الموقف القانوني الثابت بمستندات القضية. لتقرر المحكمة على المتهم الذي سبق وإحالة أوراقه للمفتي لأخذ الرأي الشرعي في إعدامه بعشر سنين سجن فقط واستبعدت أسمه من المحكوم عليهم بعقوبة الإعدام.
رفض تاريخي
وتاريخيا هناك قضايا أخرى أحيلت لمفتي الديار ورفض الإقرار بالإعدام. بالعودة لعام 1910 رفض المفتي إعدام متهم في القضية رقم 14 جنايات عابدين. والمعروفة باسم “إعدام الورداني” الصيدلي والمتهم بقتل وزير خارجية مصر بطرس غالي منفردا. بعد أن تضمنت القائمة 9 متهمين آخرين ولكن تمت تبرئتهم فيها بعد.
كان تم تحويل الورداني إلى محكمة جنايات مصر في أبريل 1910. وفي 18 مايو أحالت هيئة المحكمة أوراق المتهم إلى المفتي بكري الصدفي ليصادق عليه. بعد أن رفضت طلب الدفاع بإحالة الورداني إلى لجنة طبية لاختبار قواه العقلية.
ولأسباب شرعيه، رفض المفتي بكري الصدفي، أن يصدر فتوى بالمصادقة على الحكم بالإعدام. وأخذ بوجهة نظر الدفاع القائلة باختلال قوى المتهم العقلية وضرورة إحالته إلى لجنة طبية لمراقبته. وفقا لرواية الدكتور والكاتب الصحفي ياسر ثابت.
يذكر أن من مهمة المفتي والهيئة المعاونة له النظر في سؤال حول هل يستحق المتهم الإعدام أم لا وفقا للنصوص الشرعية.
ونصت المادة 381 من قانون الإجراءات الجنائية. على أنه “لا يجوز لمحكمة الجنايات أن تصدر حكما بالإعدام إلا بإجماع آراء أعضائها، ويجب عليها قبل أن تصدر هذا الحكم أن تأخذ رأي مفتي الجمهورية، ويجب إرسال أوراق القضية إليه، فإذا لم يصل رأيه إلى المحكمة خلال 10 أيام تالية لإرسال الأوراق إليه حكمت المحكمة في الدعوى، وفي حالة خلو وظيفة المفتي أو غيابه أو قيام مانع لديه يندب وزير العدل بقرار منه من يقوم مقامه”.
رأي استشاري
المحامي ياسر سعد أوضح أنه في حالة قرار المحكمة بالحكم بالإعدام هنا وجب عليها الرجوع إلى هيئة المفتي، والتي بدورها ترد برفض أو القبول. وأيضا في تلك الحالة المحكمة غير ملزمة برأي المفتي نظرا لأن رأيها استشاري.
وأضاف، سعد أنه في حالة القضاء بالإعدام أمام قرار المفتي بالرفض. هنا وجب على المحكمة الرد على إحالة المفتي بالدليل.
مراحل قضايا الإعدام بدار الافتاء
تحال الأوراق الخاصة بالإعدام للدار تنفيذا للمادة 2/183 من قانون الإجراءات الجنائية. حيث تحيل محاكم الجنايات هذه القضايا بشكل وجوبي وملزم إلى المفتي وإلا يُعد الحكم باطلا. وبعد إرسال تقرير المفتي إلى المحكمة، تقوم المحكمة بالنطق بالحكم.
وتمر أوراق قضايا الإعدام بثلاث مراحل داخل دار الإفتاء المصرية وهي: مرحلة الإحالة، ومرحلة الدراسة والتأصيل الشرعي، ثم مرحلة التكييف الشرعي والقانوني.
وتتضمن مرحلة الإحالة، قيام دار الإفتاء بفحص القضية المحالة إليها ودراسة الأوراق منذ بدايتها. وذلك قبل النطق بالحكم، ثم تأتي مرحلة الدراسة والتأصيل الشرعي. وفيها تقوم دار الإفتاء بفحص القضية المحالة إليها والالتزام بعرض الواقعة والأدلة. حسب ما تحمله أوراق القضية على الأدلة الشرعية بمعاييرها الموضوعية المقررة في الفقه الإسلامي. وتكييف الواقعة ذاتها وتوصيفها بأنها قتل عمد إذا تحققت فيها الأوصاف التي انتهى الفقه الإسلامي إلى تقريرها لهذا النوع من الجرائم.
ويلي ذلك مرحلة التكييف الشرعي والقانوني، وفي هذه المرحلة يعاون المفتي هيئة مكونة من ثلاثة من المستشارين من رؤساء محاكم الاستئناف. تكون مهمتها دراسة ملف القضية لبيان ما إذا كان الجُرم الذي اقترفه المدانون يستوجب إنزال عقوبة القصاص حداً أو تعزيراً أو قصاصاً أو غير ذلك.
وتهدف هذه المرحلة لطمأنة القاضي إلى مشروعية حكمه، لأن هذه القضايا حساسة ويترتب عليها إزهاق روح. لذلك نصّ المشرع على أن يصدر حكم الإعدام بالإجماع. كما أن حكم الإعدام لا بد أن يصدر من قبل أشخاص يتمتعون باستقرار نفسي وذهني، لذلك يتم إحالة القضية للمفتي لأخذ رأيه فيها.
تقليل عقوبة الإعدام
تناشد المنظمات الدولية بضرورة إلغاء الإعدام. حيث أطلقت العديد من المنظمات الحقوقية، ومن بينهم المفوضية المصرية للحقوق الشخصية، حملة للمطالبة بوقف تنفيذ أحكام الإعدام. سواء في الجرائم السياسية أو الجنائية.
وترى منظمة العفو الدولية، أن أربع من أصل الدول الخمس الأوائل المنفذة للإعدامات في العالم خلال 2020 هي من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأن عدد الإعدامات المسجل بمصر ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف. متجاوزًا بذلك المملكة العربية السعودية. لتصبح مصر ثالث أكثر دولة تنفيذًا للإعدامات في العام الماضي. مؤكدة على أن عقوبة الإعدام انتهاكًا لحقوق الإنسان، ومنها: الحق في الحياة، وعدم التعرض للتعذيب، أو العقوبة القاسية.
منظمة العفو الدولية: عدد الإعدامات المسجل بمصر ارتفع أكثر من ثلاثة أضعاف. متجاوزًا بذلك المملكة العربية السعودية. لتصبح مصر ثالث أكثر دولة تنفيذًا للإعدامات في العام الماضي
وذكرت منظمة العفو الدولية في بيانات عدة لها، أن عقوبة الإعدام ليست وسيلة لردع المتهمين عن ارتكاب الجرائم الكبرى. ويمكن استبدالها بالسجن مدى الحياة، موضحةً أنه ليس هناك أدلة موثوقة على أن الإعدام أكثر فعالية من السجن كعقوبة رادعة للجريمة.
وفي نفس السياق أشار المحامي طاهر أبو النصر أنه يتطلب للحد من الجرائم التي تصل عقوبتها للإعدام إلى تعديل تشريعي. يتعلق بإلغاء عقوبة الإعدام وجعل الحد الأقصى للعقوبة السجن المؤبد.
ولردع الجريمة، أشار أبو النصر إلى أن السجن المؤبد أكثر ردعا من الإعدام. وإن أصبح لدينا عقوبة السجن مدى الحياة سيكون ذلك أكثر ردعا من المؤبد.
المحامي محمود حيدر قال إن أكثر من 150 دولة قامت بإلغاء عقوبة الإعدام وبدلتها بالسجن مدى الحياة. مقابل الخدمة العامة التي يقوم بها السجين خلال فترة احتجازه. مشيرا إلى أن ذلك رادع قوي للحد عن جريمة القتل والجرائم شديدة الخطورة. لاسيما الدول النامية والتي تلجأ لعقوبة الإعدام لم تنخفض بها نسبة الجرائم.