في مقابلة أجراها معه الصحفي روبرت وورث، قال سيف الإسلام نجل الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي إن المقاتلين الذين اعتقوله قبل عشر سنوات تحرروا من وهم الثورة وأدركوا في نهاية المطاف أنه قد يكون حليفا قويا لهم، «هل لك أن تتخيل.. الرجال الذين كانوا حراسي هم الآن أصدقائي».
ويروي سيف الإسلام في اللقاء الذي جمعه بالصحفي الأمريكي بمدينة الزنتان الليبية في مايو الماضي ونشرته «نيويورك تايمز» قبل أيام، كيف جاء إليه أحد حراسه معتذرا بعد أن قُتل ابن له نتيجة الفوضى التي اجتاحت البلاد، مؤكدا له أن تلك «الثورة التي قاموا بها لم تكن صحيحة»، ويشير القذافي «الابن» إلى أن هذه الواقعة كانت بداية تحوله من أسير إلى رجل حر طليق، بل جعلته مقدرا بين آسريه الذين كفروا بالثورة ونتائجها على هذا البلد الذي شهد حربا أهلية لم تهدأ إلا قبل شهور.
عقب الإطاحة بحكم القذافي «الأب» في 2011، اعتقل القذافي «الابن» على حدود النيجر، وتم احتجازه في مدينة الزنتان، واختفى عن الأنظار تماما لدرجة أن البعض أشاروا إلى وفاته في إحدى غارات الأطلسي، دعم ذلك غيابه وعدم تطرق خاطفيه إلى الحديث عنه في وسائل الإعلام، وفي عام 2015 صدر ضده حكما بالإعدام رميا بالرصاص من محكمة في طرابلس بعد إدانته بقتل المتظاهرين والتحريض على العنف خلال الثورة الليبية، وفي عام 2017 أطلقت كتيبة «أبو بكر الصديق» بمدينة الزنتان سراح نجل القذافي بموجب قانون العفو العام الصادر من البرلمان الليبي، لكنه مازال ملاحقا من المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
استغلّ سيف الإسلام غيابه عن الساحة في مراقبة الأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط والعمل بهدوء على إعادة تنظيم القوة السياسية التابعة لأبيه والمعروفة باسم «الحركة الخضراء»، ويقول الصحفي وورث في المقابلة التي نشرت منها نسخة بالعربية على موقع «نيويورك تايمز» تحت عنوان «ابن القذافي مازال حيا ويريد أن يستعيد ليبيا»، أنه رغم تحفّظ سيف الإسلام بشأن الحديث عن احتمالية ترشّحه للرئاسة، فهو يعتقد أن الحركة التي يقودها بإمكانها أن تعيد للبلاد وحدتها المفقودة، «الحقيقة أن الشعار الذي اختاره لحملته نجح في العديد من الدول، وهو: السياسيون لم يقدّموا لكم شيئًا سوى المعاناة.. حان وقت العودة إلى الماضي».
سيف الإسلام قال لمحدثه واصفا ما جرى في ليبيا خلال السنوات العشر الماضية: «لقد اغتصبوا بلادنا وأذلّوها، ليس لدينا مالٌ ولا أمنٌ ولا حياة.. إذا ذهبتَ إلى محطة الوقود، فلن تجد وقودًا.. نحن نصدّر النفط والغاز إلى إيطاليا – نحن نضيء نصف إيطاليا – ونعاني من انقطاع الكهرباء.. ما يحدث تخطّى حدود الفشل.. إنه مهزلة».
الأطراف الليبية التي لجأت إلى الحوار والتفاوض برعاية أطراف إقليمية ودولية وتنتظر إجراء الانتخابات في ديسمبر المقبل تتعامل مع تطلعات سيف الإسلام في رئاسة ليبيا على محمل الجد، فالعديد من استطلاعات الرأي التي أجرتها مراكز وجهات مختلفة أشارت إلى أن قطاعات كبيرة من الشعب الليبي تثق في أن القذافي «الابن» سيعيد إلى البلاد الهدوء والاستقرار المفقود.
في ديسمبر عام 2018 أجرت حركة «مانديلا ليبيا» استطلاعا للرأي حول انتخابات الرئاسة المنتظرة، نتائج الاستطلاع كشفت أن 90% من المشاركين اختاروا تأييد سيف الإسلام القذافي رئيسا للبلاد لـ«إعادة بناء الدولة واستكمال المشاريع في ليبيا»، فيما أظهرت نتائج استطلاع آخر أن 57% من منطقة واحدة يثقون في وصول سيف الإسلام إلى منصب الرئاسة.
وبغض النظر عن دقة نتائج استطلاعات الرأي، فإن شعبية القذافي «الابن» لا يمكن إغفالها بحسب ما رصده مراقبين ومتابعين للمشهد الليبي. لم يصنع سيف الإسلام شعبيته بل استمدها من حنين الليبيين لنظام حكم أبيه الاستبدادي الذي فرض الاستقرار والهدوء في ربوع ليبيا لأكثر من 40 عاما، رغم المنعطفات والصراعات الكبيرة التي مرت بها البلاد خلال فترة حكمه.
يسجل وورث في تحقيقه الموسع عن المشهد الليبي، الذي تضمن مقابلة ابن القذافي أنه سمح لمؤيدي سيف الإسلام المشاركة في المحادثات التي أسفرت عن تشكيل الحكومة الليبية الحالية، «نجح هؤلاء بمهارة خلال جلسات الحوار التي أجريت في برلين وتونس العام الماضي، في إلغاء شروط للانتخابات كانت ستحول بينه وبين الترشح».
في فارس القديمة جرت العادة عندما يموت الملك أن يُترك الناس لخمسة أيام بغير ملك وبغير قانون وبغير سلطة تنظم أمور المواطنين، فتعم الفوضى والاضطراب جميع أنحاء البلاد ويتقاتل الناس في الشوارع. كان الهدف من حالة الفوضى المتعمدة أو المصنوعة، أنه وبنهاية الأيام الخمسة، وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب والقتل مداه، يصبح ولاء من يبقى من الناس على قيد الحياة بعد هذه الفوضى الطاحنة للملك الجديد حقيقا وصادقا فلا ينظر الناس إلى أخطائه أو تعسفه واستبداده، إذ تكون التجربة حفرت في أذهانهم حالة الرعب التي يكون عليها المجتمع إذا غابت سلطة الملك.
شيء من العرف القاسي الذي اتبعه حُكام الفرس قديما، يجري حاليا في دول الربيع العربي التي شهدت فوضى واضطراب وقتال دفعت الناس إلى الحنين للأنظمة المستبدة الساقطة وجعلتهم يكفرون بالثورات والانتفاضات رغبة في عودة الاستقرار والهدوء، فعلى قدر ما كان هناك أشواق لتغيير وإزاحة السلطات الديكتاتورية وإحلال حكومات ديمقراطية بديلا عنها تحترم حرية المواطن وكرامته، صار هناك شوق حقيقي لأن يعود الناس لممارسة حياتهم الطبيعية دون أن يتعرضوا للخطر.
أما دول الربيع العربي التي لم تصل فيها الاضطرابات إلى حد الاقتتال الداخلي، فنتيجة لزيادة منسوب القمع والاستبداد والفشل الاقتصادي وتردي الأحوال المعيشية وزيادة نسبة الفقر بين المواطنين، أصبح هناك حنين إلى الأنظمة الديكتاتورية التي تمكنت من تحقيق قدر من الاستقرار لعقود طويلة، فضلا عن مراعاتها للبعد الاجتماعي في قرارتها وسياستها الاقتصادية، فلم تقترب رغم سوء أدائها من دعم المواد الغذائية والبترولية ولم تفكر في رفع سعر رغيف الخبز خشية غضبة الناس، كانت تلك الأنظمة ورغم ارتكابها جرائم في ملفات الحريات وحقوق الإنسان والانتخابات إلا أنها كانت تتحسب من ردة فعل المواطن العادي الذي يحفظ عليها مشروعية بقائها.
قايضت الأنظمة التي أسقطتها ثورات الربيع العربي مواطنيها، قيدت حقوقهم السياسية في اختيار الحكومات والبرلمانات وحقهم في التعبير عن آرائهم مقابل توفير لقمة العيش والحد الأدنى من الاحتياجات الاجتماعية والأمنية.. الآن وبعد أن فسدت تلك المقايضة كفر الناس بالثورات التي أطاحت بحكامهم السابقين ووضعت محلهم حكام آخرين احتكروا السلطة وقمعوا الشعوب وارتكبوا كل الموبقات السياسية، وكما أداروا ظهورهم لمطالب الحرية والديمقراطية، ضنوا على الناس ومنعوا عنهم دعم الخبز والمواد الغذائية والطاقة ولم يوفروا لهم لا تعليم جيد ولا فرص عمل كريمة ولا خدمة صحية تحترم أدمية المواطن.
حتى في تونس الدولة التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي وكانت ثورتها قصة النجاح الوحيدة في المنطقة، ضربت فيها حركة النهضة «إخوان تونس» مسار العملية الديمقراطية عندما دفعت بفشلها وتحكمها وإصرارها على الهيمنة الرئيس قيس سعيد دفعا إلى القفز على الدستور والمسار الديمقراطي فجمد البرلمان وأقال الحكومة، ما وضع التجربة الديمقراطية هناك في مهب الريح.
الفوضى السياسية في ليبيا قد تدفع بالقذافي «الابن» إلى المراحل النهائية للانتخابات الرئاسية، وسيمثل ذلك «انتصار رمزيا للحكام العرب المستبدين الذين يشاركونه كراهية الربيع العربي»، فالفوضى السياسية التي شهدتها ليبيا في السنوات الأخيرة جعلت المواطنين ناقمين على الأوضاع، و«أمراء الحرب» الذين عاثوا في البلاد فسادا وكدسوا الثروات ترفع من حظوظ نجل القذافي الذي أشار في حواره إلى أن بلاده أنفقت في العقد الأخير مليارات الدولارات دون بناء مشروع واحد، ودون وضع حجر بناء واحد، «تلك الأموال ذهبت إلى المتربحين الذين يمولون ويدعمون الميليشيات الصغيرة حتى يضمنوا استمرارية هذه اللعبة».
في 20 فبرير 2011، ألقى القذافي الابن كلمة متلفزة للشعب الليبي حذر فيها من أن ليبيا ليست تونس ولا مصر، لأن طبيعتها القبلية قد تفككها بسهولة إلى دويلات وإمارات، تنبّأ سيف الإسلام بحدوث حرب أهلية، واختراق حدود البلاد، وحدوث هجرة جماعية، وبأن ليبيا ستصبح معقلًا للجماعات الإرهابية، وأشار في خطابه إلى أنه سيتم حرق وتدمير كل شيء في ليبيا، «سنحتاج إلى 40 سنة أخرى حتى نتفق على إدارة هذه البلاد، لأن كلّ واحد منا سينصّب نفسه رئيسًا، وسينصّب نفسه أميرًا، وكل واحد سيجعل من منطقته دولة».
يتذكر الليبيون كلمات القذافي الابن في هذا الخطاب، ويستدعون تحذيراته وكأنه كان قارئا للغيب، فما حذر منه قد حدث.. دخلت ليبيا في عشرية سوداء أسوء من العشرية التي مرت بها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، لذا يراهن العديد من المواطنين الليبيين على أن سيف الإسلام هو الوحيد على الساحة الليبية القادر على إعادة الاستقرار إلى البلاد، بما له من خبرة ورثها عن والده على جمع هذا الشتات تحت علم واحد ونظام واحد.
بالطبع معادلة إعادة الاستقرار في ليبيا بإعادة القذافي الابن إلى رأس السلطة، لها حسابات أخرى، فإذا كان سيف الإسلام يحظى بدعم شعبي حقيقي وفق استطلاعات الرأي، فالقوى السياسية والمليشيات المسلحة الموجودة على الأرض لها رأي آخر وصاحبة كلمة بما تملكه من دعم سوء قبلي أو إقليمي ودولي، عودة القذافي إلى السلطة قد تفتح باب الصراع في ليبيا مرة أخرى بعد شهور من الهدوء الحذر.
لا أريد أن أبدو متشائما وأنقل ما طرحه مفكرون غربيون بأن الاستبداد أصله شرقي، وأن هذه المنطقة من العالم كتب على أهلها أن يحيوا في ظله، يستجيرون به من لهيب التغيير المشوب بالاضطرابات والدم.
لكن التجارب التي مرت بها بلادنا في العصر الحديث منذ محاولات أحمد عرابي باشا ورفاقه نهاية القرن التاسع عشر الثورة على أسرة محمد علي وحتى هبة الربيع العربي الأخيرة أثبت أنه لايزال أمامنا الكثير حتى نستطيع تقديم تجربة ديمقراطية تملك القدرة على البقاء والاستمرار، تحتاج بلادنا إلى رفع منسوب الوعي بأهمية الديمقراطية حتى تتمكن النخب المتعلمة من مقاومة الأنظمة المستبدة ومواجهتها دون أن تقع في محظورات الخلافات الدموية أو استغلال الدين في ساحات السياسة، نحتاج إلى أن تتحول الديمقراطية إلى سلوك يومي يمارسه الناس في حياتهم، نحتاج إلى أن تعمل الكتل والمجموعات السياسية المؤمنة بالديمقراطية على صياغة خطط ومشروعات بديلة للاستبداد والفوضى.
في كتابه «الطاغية.. دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسى»، يجيب المفكر المصري الدكتور إمام عبد الفتاح عن سؤال كيف تتخلص المجتمعات الشرقية من حكم الطغاة فيقول: «لا سبيل أمامنا سوى حل واحد هو أن نفعل ما فعل الغرب، فنفر منه إلى الحكم الديمقراطي، ونتمسك به ونحرص عليه، وعلينا إدراك أن الديمقراطية ممارسة وإنها تجربة إنسانية تصحح نفسها بنفسها، وبالتالي لابد أن نتوقع ظهور كثير من الأخطاء في بداية المسيرة، لكن ذلك لا يصح أن يقلقنا وليكن شعارنا: إن أفضل علاج لأخطاء الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية»، مضيفا «الديمقراطية الناقصة أو العرجاء خير ألف مرة من حكم الطغيان».
وفي نهاية كتابه القيم يقترح إمام حلا بسيطا يكسبنا مناعة ضد الطغيان ويمكننا من الإفلات من قبضته الجهنمية، ويقضي على الانقلابات العسكرية وغير العسكرية التي أصبحت من سمات المجتمعات المتخلفة وحدها، وهذا الحل هو «الشروع في التطبيق الدقيق للديمقراطية، بحيث تتحول قيمها إلى سلوك يومي يمارسه المواطن على نحو طبيعي وبغير افتعال».
قد يبدو أن عقارب الساعة عادت إلى الخلف. يأس الناس وكفرهم بما جرى وحنينهم إلى ما كان قبل ثورات الربيع العربي لا يعني قبولهم بالواقع الحالي بكل ما يحمله من خيبات وأوجاع، استدعائهم الماضي وتحسرهم عليه هو فقط محاولة للهروب من الحاضر المؤلم.