تحتل أفريقيا مكانًا استراتيجيًا واقتصاديًا هامًا في السياسة التوسعية التي تسعي إليها تركيا. متنافسة في ذلك مع القوى الجديدة المتكالبة على القارة كالصين، والخليج، وإيران، والبرازيل. بالإضافة إلى القوى الاستعمارية التقليدية كفرنسا وبريطانيا. ما جعل من أفريقيا قارة متعددة الأقطاب المتنازعة.

عند النظر إلى تطور الوجود التركي في أفريقيا. سيكون مختلفًا عن القوى الأكثر تقدمًا مثل الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا.

التغلغل الناعم

فتاريخ العلاقات بين هذه القوي وأفريقيا قائم على الاستعمار المباشر المحمل بأهداف سياسية واستراتيجية في المقام الأول. في حين أن تركيا دخلت أفريقيا انطلاقًا من الاقتصاد ذو الأبعاد الاستراتيجية والسياسية. ساعية في ذلك إلى تأمين عمقها الاستراتيجي الاقتصادي.

وفي هذا الصدد قال وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو إن رؤية بلاده للتعاون مع أفريقيا تستند إلى سياسة المنفعة المتبادلة القائمة على المساواة والشفافية والاستدامة.

الأمر نفسه أكد عليه رجب طيب أردوغان بالقول الشهير “أفريقيا ملك للأفارقة، نحن لسنا هنا من أجل ذهبك .”وهذا يعني أن سلوك تركيا تجاه أفريقيا يمكن أن يطلق عليه “بالتغلغل الناعم” وإعطاء الأفارقة شعورًا واهيًا بأن العلاقة تقوم على المنفعة المتبادلة.

ثلاث ركائز

يتمحور توسع تركيا في أفريقيا حول ثلاث ركائز: العلاقات الاقتصادية، وتوسيع البعثات الدبلوماسية، والمساعدات الإنسانية.

 الانفتاح الاقتصادي على إفريقيا

بدأت العلاقات التركية الأفريقية تدخل مرحلة جديدة من الانفتاح منذ عام 1998. من أجل تحقيق نقلة نوعية على الصعيد الاقتصادي.

وفي هذا السياق، أعدت مستشارة التجارة الخارجية في الجمهورية التركية في بداية عام 2003 “استراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية” . التي أدت إلى إعلان تركيا في عام 2005 بأنه “عام أفريقيا”.

أردوغان في موزمبيق
أردوغان في موزمبيق

وحصلت تركيا في نفس العام على عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي. كما أصبحت عضوا في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ECOWAS) وكذلك في مجموعة دول أفريقيا الشرقية (EAC).

وفي عام 2008 منحت قمة الاتحاد الإفريقي. التي عُقدت في أديس أبابا تركيا وصف “حليف استراتيجي”. ما أدى إلى تصاعد منحنى العلاقات التجارية والاقتصادية. حيث نمت حجم التجارة إلى ما يزيد عن 26 مليار دولار. مسجلًا بذلك زيادة قدرها 14.5% عن عام 2017.

وتسعى تركيا إلى أن يصل حجم التجارة بينها وبين أفريقيا 50 مليار دولار تقريبًا عام 2023. ما يعني زيادة إلى ما يقرب من الضعف.

فدائما تحاول تركيا رفع مستوى العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية. خاصة أن بعض تلك الدول دخلت قائمة الاقتصادات الأسرع  نموًا على مستوى العالم. فضلاً عن أن القارة تمتلك إمكانيات جاذبة للشراكة الاقتصادية. سواء على مستوى التبادل التجاري أو على صعيد التدفق الاستثمارى.

حاجة تركيا لمواد الطاقة

في ظل اتساع السوق الأفريقي الذي ما زال بكرًا ويتمتع بمميزات وفرص هائلة للنمو والتعاون. يعد تزايد حجم السوق الأفريقي من مميزات القارة. الذي يحتاج إلى مختلف المنتجات في ظل ضعف قطاع الإنتاج. ما يجعل تدفق المنتجات التركية أكثر سهولة خاصة أن القوى الشرائية الاستهلاكية في القارة مرتفعة بين الشباب، الذين يمثلون أكثر من 60% من الكتلة السكانية. ما يجعل أفريقيا في حاجة إلى المزيد من المنتجات ذات الأسعار التنافسية وعالية الجودة.

سهل هذا من دخول المنتجات التركية بدءا من مساحيق الغسيل حتى الملابس الجاهزة.

 شركات المقاولات التركية تساهم في بناء المطارات والمساكن والسدود في أفريقيا. وبلغت قيمة المشاريع التي أنجزتها الشركات التركية في أفريقيا حتى نهاية 2019، نحو 70 مليار دولار. التي يبلغ عددها 1500 مشروعًا، فضلًا عن أن تركيا وقعت اتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي مع أكثر من 49 دولة أفريقية. واتفاقية تحفيز وحماية الاستثمارات المشتركة مع 28 دولة. واتفاقية تجنب الإزدواج الضريبي مع 12 دولة أفريقية.

كما تعقد تركيا  اجتماعات اللجنة الاقتصادية المشتركة مع أكثر من 47 دولة أفريقية، وبموجب هذه الاتفاقات أصبحت تركيا بالفعل تسهم في النهضة التنموية والاقتصادية للقارة، ومن ناحية أخري فهي مصدر لاستيراد الموارد الطبيعية منها؛ بعد اكتشاف الكثير من احتياطيات النفط واليورانيوم والذهب في عدة دول أفريقية. فواردات الطاقة تمثل أهمية ضرورية لتركيا. حيث بلغت أكثر من 41.1 مليار دولار عام 2019، وهو ما يعني احتياج تركيا بشكل كبير إلى النفط والغاز، فهي تعد ثاني بلد بعد الصين في استيراد الغاز، حيث تستورد أكثر من 95% من حاجتها لهذا المورد، ولذا اختراقها للقارة يؤمن هذا الاحتياج الاستراتيجي من مواد الطاقة، عبر شركات النفط والسيارات المستثمرة في أفريقيا، بخلاف تدخلاتها  العسكرية غير المبررة.

إحياء الإمبراطورية عبر المساعدات

يعد تحرك سياسات تركيا في أفريقيا، مرتبطًا فى مجمله بالصراع على النفوذ من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر. وخلق مسارات جديدة تتيح لها مزيدًا من النفوذ في تحقيق عودة الإمبراطورية العثمانية، فهذا مرتبطًا بالسياسة الإمبريالية لأردوغان.

وبدأ الأمر جليًا في من خلال رغبتها في هيمنة “للقومية الإسلامية” تحت مظلتها عام 2011 مع حدوث ثورات الربيع العربي. ما اتضح من رعايتها لجماعة الإخوان المسلمين.

تعمل تركيا على زيادة تواجدها في القارة الأفريقية باستخدام “الجمعيات والمنظمات الخيرية”. وتقديم معونات، ومساعدات، في عدة دول أفريقية، كما حدث في الصومال ومالي.

وأصبحت المساعدات الإنمائية الرسمية المتزايدة جزءا لا يتجزأ من السياسة الخارجية التركية تجاه أفريقيا. وزادت المساعدات المقدمة إلى أفريقيا بنسبة 67٪ حيث زادت المساعدات من 30.9 مليون دولار 71 مليون دولار، وبلغت أيضًا المساعدات المقدمة إلى البلدان الأقل نموا 158.95 مليون دولار، إن هذه الأرقام كشفت أن المساعدات التركية قد وصلت إلى معظم دول أفريقيا، كما تعكس أيضًا حرص تركيا بأن تكون شريكًا ناشطًا في التنمية في القارة.

ركزت تركيا مساعداتها من المنظور القطاعي على البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية.

إن السبب الرئيسي وراء هذا التركيز هو سياسة تركيا لتقديم الخدمات في هذه القطاعات، الاستجابة لدعوة بعض الدول الطالبة للمنح لتلبية احتياجاتها الأساسية من تعليم وصحة ومياة والصرف الصحي. ما أعطي لتركيا فرصًا للتركيز على مشروعات البنية التحتية العملاقة، وعمل العقود الكبيرة في أفريقيا، بداية من حمام سباحة أولمبي في السنغال، إلى أكبر قاعدة عسكرية تركية في الصومال. التي كانت تتويجاً للعلاقات الاقتصادية بين البلدين.

وبلغ حجم التجارة بين تركيا والصومال 5 ملايين دولار عام 2010. وارتفع إلى 123 مليون دولار عام 2016. بالإضافة إلى قيام الوكالة التركية للتعاون الدولي والتنمية بتقديم 400 مليون دولار من المساعدات للصومال. حتى وصل الأمر عام 2020، بأن تحصل تركيا على موافقة الحكومة الصومالية للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية الصومالية.

تركيا والصومال
تركيا والصومال

القرن الإفريقي في استراتيجية تركيا

لا يمكن فصل المصلحة الاقتصادية لتركيا عن المصلحة الاستراتيجية من جراء تواجدها في منطقة القرن الأفريقي، ربما بشكل أكبر من باقي القارة الأفريقية. حيث اتخذت تركيا من وثيقة الاستراتيجية البحرية التركية الصادرة عام 2014 أن كلًا من البحر الأحمر وخليج عدن، سيكون حلقة الوصل الأساسية بين تركيا، وشرق المتوسط، والمحيط الهندي.  ومن ثّم اكتسبت دول القرن الإفريقي أهمية خاصة، وأكدت ضرورة تفعيل العلاقات العسكرية الثنائية مع هذه الدول. من خلال تبادل الزيارات مع القوات البحرية، فضلًا عن تعزيز دور الملحقين العسكريين في هذا المجال.

ما يعكس الأهداف الأمنية والاستراتيجية التركية في الوجود بالقرب من الممرات البحرية. خاصة مضيق باب المندب. وقعت تركيا مع جيبوتي عام 2017 على إنشاء منطقة تجارة حرة تبلغ مساحتها 12 مليون متر مربع، برأس مال قدره واحد تريليون دولار، وتحديدًا أن جيبوتي تمتع بموقع استراتيجي هام عند المدخل الجنوبي لحوض البحر الأحمر، وإطلالتها المتميزة على مضيق باب المندب، الذي يمثل عنق الزجاجة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي.

السودان في السياسة التركية

تحتل السودان أيضًا أهمية مباشرة في السياسة التركية. فبعد رفع العقوبات الأمريكية عام 2017، بدأت تركيا على الفور بالاستثمار فيها حيث وقع أردوغان اتفاقات بقيمة 650 مليون دولار. وتشمل 300 مليون دولار من الاستثمارات المباشرة، كما وقعا اتفاقًا بقيمة 100 مليون دولار للتنقيب عن النفط ، واتفاقًا آخر لتخصيص آلاف الأميال المربعة من الأراضي الزراعية السودانية لتستثمر فيها الشركات التركية. بالإضافة إلى موافقة السودان لتركيا على تطوير جزيرة سواكن المطلة على البحر اللأحمر وإدارتها، وهذا يمنح تركيا ميزة استراتيجية هامة، ومن خلاله يمكنها النفاذ إلى العمق الإفريقي، الذي تسعى إلى النشاط فيه بقوة، كما أن جزءًا كبيرًا من الصادرات التركية ستمر عبر هذا الميناء.