حملت شهادة الشيخ محمد حسان أمام المحكمة، كثيرا مما يمكن اعتباره تناقضا مع الأفكار والمواقف والممارسات السلفية المعتادة.. حديث حسان عن “الحجر الدعوي” لمواجهة من يعتلي المنابر دون إذن رسمي، أو يتصدى للعمل الدعوي دون تأهل، يتناقض بالكلية مع ممارسات المنتمين إلى التيار السلفي خلال العقود الأربعة الماضية.. فكم شهدت المساجد معارك على النفوذ بين شباب يعتبرون حسان مرجعية كبيرة من مراجعهم، وبين أفراد من جماعة الإخوان، أو حتى أئمة رسميين معينين من قبل وزارة الأوقاف.. بلغت هذه المعارك أحيانا حد الاشتباك بالأيدي، أو الاستعانة بـ”الإخوة” المتدربين على رياضات قتالية، وعرفت القرى والنجوع حالات لا يحيط بها الحصر تتمثل في اشتباكات على إمامة التراويح، أو خطبة الجمعة.

وإذا كان لسان الحال أبلغ من لسان المقال، فإن هذه الممارسات التي تمت دائما برعاية شيوخ السلفية ومن بينهم محمد حسان، تسير في اتجاه يعاكس تماما شهادة الرجل، التي قدم فيها تنظيرا شرعيا لضرورة أن تكون المساجد، والمؤسسات الخيرية والدعوية، كلها تحت الإشراف الحكومي، وألا تترك للاجتهاد الشخصي، أو بنص تعبيره “بل هذا هو الواجب، حتى لا يتصدى للحديث عن الله وعن رسول الله في ظل هذه الفتن من لا يحسن فهم الأدلة ومراميها”.

https://www.youtube.com/watch?v=kcJhg5D2SJY

كما يتضح التناقض في كلام حسان عن جماعة الإخوان، مع الموقف الذي اتخذه شيوخ التيار السلفي من الجماعة بعد ثورة يناير، لاسيما بعد فوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، حيث قرر السلفيون غض الطرف عن كل الخلافات التاريخية مع الإخوان، والتحالف سياسيا مع الجماعة ورئيسها، وحشد الأنصار لمساندته ومحاربة خصومه.. وقد استمر هذا الموقف حتى لحظة الإعلان عن إسقاط حكم الجماعة.. يقرر حسان في شهادته أن الإخوان بدأت جماعة دعوية، ثم تحولت في السنوات الأخيرة إلى السياسة، فخلطت بين فقه الجماعة ذات الطيف الواحد، وبين فقه الدولة التي تتعدد فيها الأطياف.. لكن حسان في حديثه يتجاهل أن الانغماس السياسي للإخوان، وأخطائهم الكارثية، بل وجرائم عنفهم بدأت منذ عهد المؤسس حسن البنا، وليس منذ سنوات قليلة.. حسان يعرض مسار الإخوان، وكأن أخطاءهم السياسية بدأت بعد 25 يناير أو أثناء فترة حكم محمد مرسي.

وإذا كان موقف حسان من سيطرة الدولة على المنابر، يمثل تناقضا كبيرا مع الممارسة السلفية، وإذا كان انتقاد الرجل لجماعة الإخوان وطريقة إدارتها للدولة يتعارض مع التحالف الاستراتيجي الذي قام بين التيار السلفي والجماعة، إلا أن هذه التناقضات يمكن تبريرها فقهيا وسياسيا لجمهور التيارات السلفية وأنصار شيوخهم في كل مكان.. ويبقى التناقض الأكبر، الذي يبلغ حد الانقلاب الذي لا يُحتمل سلفيا، ولا يمكن تبريره وفق المباني الفكرية للتيار السلفي، يتمثل في موقف حسان من “الأشعرية”، وتعريفهم أمام المحكمة بأنهم “أهل السنة والجماعة”، والإقرار بأن أبا الحسن الأشعري إمام من أئمة أهل السنة الكبار.

موقف حسان من “الأشعرية” يمثل في التفكير السلفي، والوجدان السلفي، والتركيبتين النفسية والعقلية للسلفيين، زلزالا يهدم ما بناه التيار في نصف قرن، عبر عشرات آلاف الخطب والدروس والمحاضرات والكتيبات وشرائط الكاسيت ثم الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي.. فقد كان محور هذا النشاط الكبير يدور حول فكرة أساسية تتلخص في أن: الأشعرية مبتدعة.. ضالون عقائديا.. لا يمثلون أهل السنة والجماعة.. ويخالفون عقيدة السلف.. وبهذه الفكرة، استقطب السلفيون آلاف الشباب، الذين أرادوا أن “يصححوا” عقيدتهم، وأن يبرأوا من البدع والضلال وتعطيل صفات الله، بزعمهم.

وليس هناك من شك، في أن موقف حسان من “الأشعرية”، ومن “أبي الحسن الأشعري” سيكون له تبعاته الجدلية الواسعة داخل التيار السلفي، وسيكون له أثره على قواعد السلفيين وتماسكهم.. ولن يكون مجديا تبرير هذا الموقف “العقائدي” بالظرف السياسي، ولا بمراعاة المآلات.. فالمسألة عقائدية لا فقهية، وهي محورية لا فرعية، وظهور مشايخ السلفيين رموزهم وكأنهم يمارسون “التقية” التي طالما انتقدوها من الشيعة الإمامية، يهز مصداقية هؤلاء الشيوخ بين أتباعهم وأنصارهم الذين يحترمونهم إلى حد التعصب، وإضفاء “عصمة عملية” على أقوالهم وأفعالهم.

وإلى جوار الانقلاب الكبير في موقف حسان من الأشعرية، يأتي كذلك موقفه من الأزهر واعتباره مؤسسة العلم الشرعي الصحيح، التي تمنح “الشهادة الصالحة” لممارسة الدعوة والاشتغال بالعلم الشرعي، ليمثل هزة كبيرة لم يعتد عليها السلفيون.. فشباب التيار عبر عقود، لم يسمعوا من شيوخهم إلا كل ما يقلل من شأن الأزهر وشيخه وعلمائه.. أدبيات السلفيين تعتبر الأزهر مؤسسة أشعرية ضالة، وتعتبر شيوخه مقلدين يقدسون الأئمة ولا يأخذون بالدليل الشرعي، وترى الأزاهرة صوفية قبوريين مبتدعة.

والأزهريون يعرفون جيدا حجم الجهود التي بذلها السلفيون للسيطرة على الأزهر، أو استقطاب طلبته، ومدى محاربتهم للفكر الأزهري الذي يقوم على أركان ثلاثة، هي: الأشعرية في الاعتقاد، والمذهبية في الفقه، والتصوف في السلوك.. وقد كان السلفيون عبر نصف قرن حربا على هذه الأركان الثلاثة: حاربو العقيدة الأشعرية بنشر الفكر الوهابي المجسم، والزعم بأن الأشعرية لا يمثلون أهل السنة.. وحاربوا المذهبية بما يسمى فقه الدليل، وعلموا أتباعهم أن أئمة المذاهب منحرفون عن الدليل الشرعي والقول الراجح.. وحاربوا التصوف بتبديع المتصوفة، وتفسيق شيوخهم، واعتبارهم ضالين مضلين قبوريين لا تؤخذ منهم عقيدة دينية ولا علم شرعي.

قد تبدو شهادة محمد حسان متناقضة تماما مع أدبيات السلفيين ومواقفهم، وهو ما يبرر تلك الضجة الإعلامية التي صاحبتها، لكن من يدرس الجذور الفكرية لهذا التيار، ويستقرئ مواقفه السياسية والفكرية في مختلف بلدان العالم الإسلامي، يدرك أن ليس تحت غطرة الشيخ حسان جديد.. فالسلفيون كانوا دائما تيارا وظيفيا، يضعون أنفسهم حيثما تضعهم السلطة.. وبالرغم من أنهم يظهرون للوهلة الأولى بعيدين عن الانغماس في السياسة، إلا أنهم عبر عقود، مارسوا ما يمكن أن نسميه “سياسة التكيف المرن”، وهي ممارسة أطالت عمر التيار، وساعدت على انتشاره، وحفظته من تلقي الضربات الاستئصالية.. السلفيون قادرون على التعامل مع الحكومات المختلفة، ومع الأنظمة المتعاقبة في البلد الواحد.. وبالتكيف المرن، يميلون مع السلطة حيث تميل، وهم في هذا قادرون على إبداء قدر مذهل من المرونة، وتغيير الخطاب.. ومن خلال النظر إلى السلفيين عبر اختبار التكيف المرن، يمكن فهم مواقف شيوخهم من التغييرات التي يقدوها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وبالطبع يمكن من خلالها فهم مواقفهم من مبارك أو المجلس العسكري أو محمد مرسي أو الرئيس السيسي.. الأمر ليس مجرد تناقض.