من يرى التصميمات المقترحة الجديدة لعملاتنا الورقية، أو حتى القديمة منها. قد يظن أننا بلد بلا فن ولا أدب ولا ثقافة، بلا علم ولا فلسفة أو حتى رياضة، كأننا حتى بلد بلا بشر.
وعلى الرغم من أن البنك المركزي أعلن أن التصميمات الجديدة لا تزال قيد المراجعة. ربما لأن الانطباعات التي أبداها الرأي العام لم تكن مرحبة بها، أو لأن التصميمات الحالية لا تزال الأزهى والأجمل فنيا. من جميع الجوانب والأسهل تمييزا بين فئاتها المختلفة. إلا أنه ليس من إشارة تقول إن المنهج الأساسي لتصميم عملاتنا سوف يتغير. ربما ستتغير الألوان أو المقاييس، أما ما تحمله العملات من صور أو رموز بصرية. فلا يزال سجين المشهدين الأساسيين، الفرعوني والإسلامي. لا يزال جامدا صامتا، متلخصا في تماثيل بناها الفراعنة، أو مساجد بناها السلاطين. ولا عيب في أن يطل معلميّ الهوية البارزين عبر عملاتنا الورقية، لكن العيب أن تقتصر رموز هويتنا على الحجر ناسية البشر، وأيّ بشر.
مصر ليست فترة عابرة في التاريخين القديم والحديث، وإذا كان القديم لا جدال حوله. فإن عصرنا الحديث لم يكن إمبراطوريا كما كان الحال في مصر القديمة، عصرنا الحديث هو عصر العبقرية الفردية. عصر المصري الفنان والأديب والمبدع الذي شكّل الهوية المصرية ممتدا منها إلى العربية أيضا. ولأن العملة الورقية ليست مجرد سند مالي بل تذكار وصورة هوية ووسيلة تعريف عن الذات. فقد حفلت عملات العالم بالعباقرة والأبطال، بالفنانين والشعراء والفلاسفة، بالعلماء والآباء المؤسسين. من توماس جفرسون وإلكسندر هاملتون وإبراهام لنكولن على الدولار، إلى إليزابيث فراي وجين أوستن على الإسترليني. إلى فوكوزا يوكيتشي وهيغوتشي إيتشي على الين الياباني إلى هانز أندرسن على الكرونا الدنماركية وهلم جرا.
وفي مصر ثمة إصدارات خجولة، كإصدار عملة تذكارية فضية حملت وجه أديبنا العظيم نجيب محفوظ بعد فوزه بجائزة نوبل. ولأنها تذكارية ليست للتداول العام الجدي فإنك غالبا لم ترها أبدا، ولا أنا أيضا.
وكما يخلو عَلَمنا المصري من الإشارات الأبرز على بلادنا، كالأهرامات والنيل. فإن لك أن تتسائل: كيف تخلو عملاتنا الورقية المتداولة من صورة لنجيب محفوظ أو طه حسين، لتوفيق الحكيم أو يوسف إدريس. بل كيف تخلو من صورة لكوكب الشرق أم كلثوم أو رائد الموسيقى العربية سيد درويش؟ وأتكلم هنا فحسب عن كواكب تراثنا الفني والأدبي الذين زّينوا سماء بها آلاف النجوم. الكواكب التي رسمت ثقافتنا ومزاجنا وشكّلت وجداننا كمصريين مع كامل الاحترام لرمسيس الثاني والسلطان حسن بن قلاوون.
إن المسألة تتجاوز مجرد الإهمال المعتاد، الإهمال الذي خرّب بيت سيد درويش في كوم الدكة. وأطاح بفيلا أم كلثوم في الزمالك، فقبل وقت ليس بالبعيد تقرر إطلاق اسم السيدة الإعلامية صفاء حجازي. على محطة المترو الأقرب إلى بيت أم كلثوم، وكأن إطلاق لقب فنانة – ولو كانت كوكب الشرق الوحيد- غير ممكن وغير مطروح على محطة مترو. وبالرجوع إلى أسماء محطات الخطوط الثلاثة فإننا نعثر على أسامي الزعماء والرؤساء – حتى المؤقتين منهم- ولا نجد محطة باسم فنان أو أديب. هل هي صدفة؟ هل هو عدم اهتمام أم هو خوف من شيء أو تيار ما؟ أم عدم قدرة ذاتية على الانتماء إلى الحداثة؟ ألا زالت مصر- العميقة- تحتقر الفن والفنانين كما كانت المحاكم في الماضي لا تأخذ بشهادتهم في المحكمة؟
في انطباعات كثير من السائحين والأجانب ليست مصر أكثر من صحراء ورجال معممين يركبون جمالا تطوف بالأهرامات، ويبدو من عملاتنا الجديدة أن تلك لا تزال صورتنا “الرسمية” عن ذاتنا.