أعاد المقال الافتتاحي لصحيفة واشنطن بوست يوم ٤ أغسطس الحالي التذكير بخطوط الانقسام، أو بالأحرى خطوط التفاعل خلافا واتفاقا في العاصمة الأمريكية حول العلاقات مع مصر، وكما أوضح المقال فإنه ينشر قبل أسابيع قليلة من نظر الكونجرس في التصديق على مبلغ ٣٠٠ مليون دولار ضمن حزمة المعونة الأمريكية المقررة سنويا للدولة المصرية.

أيضا كما كان متوقعا، لم تخيب الصحيفة ظن معارضي الوضع الحالي في مصر في الداخل وفِي الخارج علي وجه الخصوص، فحثت أنتوني بلينكن وزير خارجية الولايات المتحدة على الربط بين طلب الإدارة من الكونجرس ذلك التصديق وبين تحسين حالة حقوق الإنسان في مصر، وقالت إن هذه المناسبة ستمثل اختبارا بالغ الأهمية لمصداقية إدارة الرئيس جوزيف بايدن حول قضايا الديمقراطية في العالم كله، وليس في مصر وحدها، واستشهدت  ببيان سابق للسيناتور الديمقراطي كريس ميرفي يرفض فيه مبررات الإدارات الأمريكية المتعاقبة  لعدم الربط بين  المعونة وبين مسألة  حقوق الإنسان، ويقول إن دور مصر في توطيد خيارات السلام والتطبيع مع إسرائيل، والوساطة بين الإسرائيليين وحماس في غزة، وفي مكافحة الإرهاب هو دور يخدم المصالح المصرية بقدر ما يخدم المصالح الأمريكية .

وزير الخارجية الأمريكي
وزير الخارجية الأمريكي

 

من المفهوم أن هذه المطالبات بالضغط على مصر تبهج جماعات المعارضة للنظام المصري، لاسيما جماعة الإخوان المسلمين، مثلما ابتهجوا بنتيجة انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة التي جاءت ببايدن الديمقراطي إلى البيت الأبيض،  ليشطح بهم أو بكثير منهم الخيال إلى حد توقع أنه لن يكون للرئيس الأمريكي “شغلة ولا مشغلة” إلا مصر والإخوان والنظام المصري، وأن هذا الرجل هو مبعوث السماء لحل مشكلات جماعتهم، بل إن كثيرين من خصوم الإخوان المسلمين في مصر أوجسوا في أنفسهم خيفة من بايدن، مستذكرين فقط لا غير تغريدته (الانتخابية) عن وقف الشيكات على بياض للنظام المصري.  وهذا ما وصفته حينها -ولم أزل أصفه -بأنه كلام هواة معدومي الخبرة بكيفية صنع السياسة الأمريكية عموما، والسياسة الخارجية خصوصا، والسياسة نحو مصر على الأخص. أو هو في غالبه تفكير بالتمني من جانب المبتهجين، وتفكير بالتوجس من جانب الآخرين .

 

فالسياسة الأمريكية داخليا وخارجيا تصنع وتمارس من خلال تسويات للخلافات أو توافقات بين قوي عديدة، ومتفاوتة النفوذ فيما بينها، ومن قضية إلى أخرى.

 

وفي حالة مصر فهي مثل كل دول العالم لديها أصدقاء ولديها خصوم في واشنطن، ومن حصيلة الصراع أو الجدل (الديالكتيك) بينهم تتقرر السياسة الأمريكية نحوها، في خطوطها الرئيسية وفي بعض تفصيلاتها الفرعية، وكما سيتضح من استعراض أصدقاء مصر وخصومها على الساحة الأمريكية فيما يلي من السطور، سوف يظهر أن كفة أصدقاء مصر هي الأرجح علي كفة خصومها .

نبدأ بقائمة الخصوم وهي تشمل الكونجرس في معظم الأحيان، وغالبية الصحف الكبرى، وكثيرا من مراكز البحوث الاستراتيجة غير المنتمية للمحافظين، بل وكان بين هذه المراكز جماعة المحافظين الجدد، وبالطبع تشمل جميع منظمات حقوق الإنسان بقيادة هيومان رايتس ووتش، واللوبي الإخواني في الحزب الديمقراطي، وبعض الدوائر في وزارة الخارجية، وكذلك بعض دوائر مجلس الأمن القومي للبيت الأبيض، وكثيرا من الدوائر الأكاديمية في كبريات الجامعات الأمريكية.

الكحونجرس الأمريكي
الكحونجرس الأمريكي

أما قائمة الأصدقاء فتبدأ بالبنتاجون والمخابرات المركزية ومعظم مكونات المؤسسة الأمن/عسكرية الأمريكية، ثم اللوبي المصري ممثلا في تعاقدات رسمية مع القاهرة وناشطين مصريين من مشارب شتى يرفضون الإسلام السياسي، وكذلك اللوبي الإماراتي واللوبي السعودي معا أو كل على حدة، وكذلك قيادات مؤثرة في الحزب الجمهوري، وقد انضم إليهم كما نعلم اللوبي اليهودي بغرض محدد وهو مناهضة أي تغيير في المنطقة العربية يجدد أو يزيد العداء لإسرائيل، وأخيرا مراكز البحوث الاستراتيجية اليمينية.

الآن ماذا تخبرنا سوابق الديالكتيك المصري في واشنطن؟

في الأغلب الأعم -وكما سبق القول – فقد كانت كفة أصدقاء مصر أرجح، إلا من مرات قليلة، كان سببها ظهور متغيرات ضخمة مفاجئة، من بينها مثلا أحداث ١١ سبتمبر الإرهابية في نيويورك وواشنطن، التي مكنت للمحافظين الجدد في إدارة الرئيس جورج بوش الابن من اقناعه بأن تحولا ديمقراطيا في مصر يدمج من يسمونهم بالمعتدلين الإسلاميين في الحياة السياسية سيقود إلى تحول في المنطقة كلها، يؤدي إلى عزل التيارات الإرهابية ثم اضمحلالها، فدخل بوش في مواجهات عدائية علنية مع مصر أثناء حكم حسني مبارك، وبطبيعة الحال كانت ثورة يناير ٢٠١١ من تلك المتغيرات الكبرى، التي أرغمت إدارة باراك  أوباما في نهاية المطاف على التخلي عن مبارك كلية، غير أن هذه الإدارة لم تستطع الصمود أمام ضغوط البنتاجون والمخابرات المركزية واللوبي اليهودي فتراجعت عن موقفها المتحفظ على النظام الذي أطاح بحكم جماعة الإخوان المسلمين .

لقد كانت مشاركة مصر في المناورات البحرية تحت القيادة الأمريكية في البحر الأسود منذ أسابيع دليلا -لمن يريد أن يفهم – على عمق اهتمام البنتاجون بالعلاقات الاستراتيجية مع مصر و في الديالكتيك المصري في أمريكا يتفوق البنتاجون على واشنطن بوست. وكل بوست أخرى.