100 عام من العشوائيات.. كانت فترة كافية تماما لتغيير ملامح هذا البلد. وإفراز أنماط جديدة من الحياة والبشر، بدأت تسود وتفرض ثقافتها وسيطرتها على المشهد. بتصدر هذه الفئة الدراما والسينما والأغاني وكل ما يحيط بنا. لنقع جميعا في صراع مع الثقافة التي بدأت تسود وتكتسح أحيانا تاركة آثارها بوضوح على المجتمع وأبنائه.
بدأ ظهور العشوائيات بمصر في عشرينيات القرن الماضي. بسبب عدم الالتزام بالمنشور الوزاري رقم 28 لعام 1914 والذي نص على عودة جميع المسطحات الخاصة بالدولة. التي انتهى الغرض من تخصيصها للمنفعة العامة إلى مصلحة الأملاك الأميرية. بالإضافة لتزايد نسبة البطالة والفقر والهجرة من الريف للمدن وساء الأمر أكثر في الستينات وحتى التسعينات لتنتشر العشوائيات لتصل إلى 60% من سكان مصر.
بداية العشوائيات
ذكرت أحد الروايات أن بداية ظهور العشوائيات في مدينة القاهرة. عندما نزح أحد “الصعايدة” إلى القاهرة مستقرا في حي الزمالك الراقي في عشته التي بناها. وتبعه أقاربه الذين عاشوا في عشش بناها وأجرها هو لهم. الأمر الذي أزعج سكان الحي الهادئ، فساومته الحكومة بقطعة أرض في منطقة إمبابة. حيث انتقل بالفعل إلى هناك وتبع هذا ظهور العديد من مناطق وضع اليد العشوائية على استحياء.
وساء الأمر حينما بيعت أراض بطرق غير مشروعة وتم البناء عليها دون تخطيط. فظهر العديد من المدن السكنية غير المنظمة وغير ملائمة للمعيشة ومن هنا أنتجت الفوضى الحالية.
وحسب تصريح المهندس خليل شعث المشرف على وحدة تطوير العشوائيات بمحافظة القاهرة. فإن 50% من سكان العاصمة يسكنون في مناطق عشوائية.
ويُعرف المتخصصون العشوائيات بأنها مناطق نشأت في غياب القانون وبعيدا عن التخطيط العام وأحيانا تعديا على أملاك الدولة. وهي مناطق محرومة من المرافق الأساسية والخدمات.
العشوائيات في أرقام
وتذكر الأرقام الرسمية الصادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار. أن عدد المناطق العشوائية المطلوب إزالتها على مستوى الجمهورية يبلغ 81 منطقة. بينما عدد المناطق المطلوب تطويرها يصل إلى أكثر من880 منطقة في 20 محافظة بطول الجمهورية.
ويذكر مركز المعلومات أيضا أن 81% من سكان العشوائيات يعملون في القطاع غير الرسمي. وتعكس المهن التي يعملون بها انخفاضا شديدا في مستوى مهاراتهم. و20% من رجالها من المتعطلين عن العمل و38% من عدد أسرها لا يزيد دخلهم علي200 جنيه شهريا.
ويبين مركز معلومات واتخاذ القرار أن سبب نمو العشوائيات لا يعود إلى الزيادة في المواليد فحسب. وإنما يعود إلى استمرار تدفق الهجرة الداخلية.
تستحوذ مدينة القاهرة على النصيب الأكبر من المناطق العشوائية تضم 68 منطقة. مطلوب تطويرها و12 منطقة أخري مطلوب إزالتها تماما لأسباب أمنية.
وفي القاهرة الكبرى وحدها بلغ عدد سكان العشوائيات 8 ملايين و614 ألف نسمة يسكنون مساحة 137,9 كم مربع.
ويطلق الاقتصاديون على المناطق العشوائية في مصر وصف “أحزمة الفقر” وتحاصر العاصمة من الشمال مناطق شبرا الخيمة المطرية وعين شمس. وفي الجنوب مناطق دار السلام البساتين حلوان والتبين وفي الوسط توجد الفسطاط واسطبل عنتر وفي الشرق منشية ناصر والزبالين.
وعلى الحدود المشتركة بين محافظتي القاهرة والجيزة تتمركز العشوائيات بمناطق بولاق الدكرور والهرم وإمبابة. ويعد انتشار الأمراض وارتفاع معدلات الجريمة نتيجة مباشرة لتفشي الفقر والجهل.
فقدان الأمان
وتكشف دراسة للدكتورة نادية حليم سليمان المستشارة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. أن الأمية والنقص في المهارات يدفع نساء العشوائيات خاصة اللائي يعلن أسرا للعمل في القطاع غير الرسمي. وأظهرت الدراسة أن نساء تلك الفئة لا يملكن القدرة على حماية أنفسهن أو القدرة على الخروج من دائرة الفقر. نتيجة افتقارهن للوعي بالكثير من الحقوق أو إجراءات الحصول على تلك الحقوق مثل لحق في الحصول على نفقة لهن ولأطفالهن.
وأشارت حليم في دراستها أن المناطق العشوائية تعاني من نقص أو انعدام المرافق الأساسية والخدمات. ولذلك فهي تفرز العديد من المشكلات التي تؤرق المجتمع وتؤثر سلبياً على أمنه وأمانه. وينتشر بين سكانها الفقر والبطالة والانحراف والجريمة والإدمان وغيرها من المشكلات وهي من الخصائص العامة لهذه المناطق.
النصف المُر
عندما تعرضت مصر لهجمة مرتدة أو “غزو عشوائي” أدى إلى تراجع القيم والذوق العام والتعليم والثقافة والأخلاق. سادت الفوضى وانعكس ذلك على نُسق المجتمع مثل “الفن” فجسد الانحلال والبلطجة والجريمة. التي تصدرت المشهد ما أحدث تحولات واسعة في المجتمع أدت إلى تراجعه.
وعلى مدار 100 عام من العشوائيات ما الآثار الناتجة ومدى التحول الذي أحدثته على قيم وثوابت المجتمع المصري في كل المجالات؟
الدكتور طه أبو حسين أستاذ التربية النفسية بكلية التربية جامعة الأزهر. يحدد الخصائص الاجتماعية لهذه البيئات فيقول إن أولى سمات هذه المجتمعات هو عدم الشعور بالأمان بالمعنى الشامل للكلمة متضمنة الأمان الغذائي والاجتماعي والثقافي وعدم الشعور بالاستقرار والخصوصية.
ويلفت أبو حسين إلى أن هذه البيئات تخلق إنسان ضحل الفكر غالبا ما يشعر بالنقص أمام المجتمعات الأخرى. ويتولد لديه حالة من الحقد والحسد على من هم أعلى منه في الطبقات الاجتماعية نتيجة حرمانه من الحاجات الأساسية.
وأشار إلى أن بيئة الحرمان تعد بيئة مرضية يشعر الرجل فيها بالعجز أمام أبنائه أو أسرته. فلا يستطيع تلبية طلباتهم فيضطر إلى العمل في أعمال غير شريفة أو وظائف متدنية. سواء الرجل أو المرأة لتدر له دخلا ليتخلص من الشعور بعدم الأمان المجتمعي.
ويبين أبو حسين أن الأماكن العشوائية تنتج نموذجين من الشباب: إما شاب يعتمد على الفهلوة وأعمال البلطجة. أو شخص جبان ليست لديه القدرة على المواجهة، ولا تصنع مفكرا أو قائد. موضحا أن السلوكيات الناتجة عن هذه البيئة هي الفهلوة والبلطجة والمخدرات والكذب والتزييف واستغلال الجسد في جلب المال. حتى أصبح أمرا واقعا مقبولا في هذه البيئات وتم ترويج هذا النمط في الفن عبر الأغاني والسينما والدراما.
ويؤكد أبو الحسن أن هذه السلوكيات ناتجة في الأصل عن احتكاكات وانفعالات اجتماعية نتيجة تلاصق المباني لبعضها. بشكل حرم الجميع هناك من الخصوصية الأسرية والفردية. وتم تكريسه في نفوس البشر الذين تربوا في أسرة تتكون من 7 أو 8 أخوة وأب وأم في غرفة واحدة حياتهم على المشاع تنعدم فيها أي خصوصية. فانعكست حياة المشاع على المجتمع بهذا الشكل الفج ويتشاركها الفرد مع جيرانه والمحيطين به. بدون وعي أو قصد وأصبح ذلك من الثوابت الحياتية وأصبحت عادة.
أثر العشوائيات في الفن والثقافة
الدكتور إيمان يحي الروائي والكاتب الكبير يري أن تدني الذوق العام في الفن والأدب. ناتج أو رافد من روافد الغزو العشوائي الذي حدث نتيجة عمليات الهجرة لبعض الفئات. التي اعتبرها إيمان هامشية في الريف نتيجة إهمال عملية التنمية. حيث لجأوا إلى مناطق متاخمة للعاصمة المركزية للقاهرة وسكنوها وتوسعوا فيها وعبر تراكم سنوات من التردي، ما أدى إلى تفشي الظاهرة خاصة منذ فترة السبعينيات والثمانينيات.
وتابع يحيي أن المهاجرون الذين يعيشون في العشوائيات يفقدون قيم التضامن الاجتماعي والأسرة الممتدة في الريف. بعد الهجرة وقد انعكس ذلك في الفن والأدب. وذكر أن من بين الأدباء الذين جسدوا في كتاباتهم هذه الظاهرة وانتقدوها. مكاوي سعيد وإسماعيل ولي الدين والمخرج خالد يوسف في الفن في فلمه “كلمني شكرا” و”حين ميسرة”.
ووصف إيمان قائلا: “هذه المناطق بأنها أحزمة ناسفة للقيم انتشرت فيها تجارة المخدرات وأعمال البلطجة والبطالة. التي غزت المدن وميادين الإبداع وظهرت في شكل ما يسمي أغاني المهرجانات وجدت منابر تعبر عنها بطرق مختلفة في السينما والموسيقي. وأصبح أغلب انتجاها تجسيد لحياة الناس في العشوائيات وتصدرت المشهد الفني وكأن هذه هي مصر فقط”.
وقال إن المكاسب المادية السريعة لبعض المنتجين والكُتاب نتيجة تصدير هذه المشاهد. فيما يعتبرونه كتابات على حد وصفه هو ما زاد من تفاقم المشكلة. واجتاح الطوفان المجتمع بكل قيمه وثوابته وأصبحت ثقافة العشوائية هي السائدة.
وتقول خيرية البشلاوي الناقدة الفنية أن النماذج الفنية التي تمثل العشوائيات في السينما والتلفزيون. نماذج تعتمد على العنف والبطحة والنصب والكذب وهي أسهل طريقة جسدت حسب وصفها للانتهازية. وأفسدت الطبقة الوسطي التي تنتج عناصر الفن وتشكل مكوناته .
وأكدت أن ما يتم تجسيده وتقديمه الآن لا يمكن اعتباره فنا إنما هو عملية “صناعة للترفيه” لا تعتمد على استخدام العناصر الفنية. وإنما تستخدم بعض الممثلين المشاهير تقوم بدفع أموال باهظة للترويج للعمل باسم الممثل وليس بالقيم الفنية. سواء في السينما أو الغناء، واعتبرت البشلاوي هذه النماذج نفاق فني لا يقدم فنون رفيعة.
وأشارت إلى أن العشوائية آفة اجتماعية ازدادت وتضخمت في ظل تعليم هش لا يحمل معاني القيم والإبداع والفن. أنتجت هذه العشوائية معلم وطبيب وعامل ومهندس يحملون شهادات بدون وعي حقيقي.
الخروج من الأزمة
تتضمن خطط تطوير العشوائيات الجديدة التي تضعها الحكومة حاليا. مشاركة المواطنين في هذه المناطق في نظافة شوارعهم وتشجيرها ودهان واجهاتها. وتوفير معلومات مباشرة عن المدارس والوحدات الصحية وكافة الخدمات. وكيفية التعامل معها وإقناع السكان بتقنين أوضاعهم وإقناعهم بالمخططات الجديدة.
محمود ربيع: للخروج من هذه الأزمة على الدولة أن تقوم بتخطيط استراتيجي وعمل حزمة من الإجراءات والقوانين. تحدد المستهدف من تطوير هذه المناطق بعد دعمها بالخدمات الأساسية والبنية التحتية وإعادة توزيع المدارس والجماعات والتركيز على التعليم والصحة
دكتور محمود ربيع، خبير الإدارة العامة والمحلية، يري أن خطوات الدولة في الوقت الراهن لتطوير المناطق العشوائية وإعادة تأهيلها اجتماعيا. غير مسبوقة بالمقارنة بالعهود السابقة التي كرست لتضخم العشوائيات نتيجة عدم الاهتمام بتنمية الريف. مما أحدث عمليات هجرة غير منظمة بحثا عن سبل حياة وفرص عمل أفضل نتيجة فقر الخدمات ببلد المنشأ.
وقال ربيع: “للخروج من هذه الأزمة على الدولة أن تقوم بتخطيط استراتيجي وعمل حزمة من الإجراءات والقوانين. تحدد المستهدف من تطوير هذه المناطق بعد دعمها بالخدمات الأساسية والبنية التحتية وإعادة توزيع المدارس والجماعات والتركيز على التعليم والصحة”.
ويري محمود أن تضخم العشوائيات في مصر أثر على النسيج الاجتماعي لكنها مع التخطيط الحالي سوف تتغير بمرور الوقت. خاصة مع اهتمام الدولة بالمشروعات المتناهية الصغر وهو ما تعمل عليه حاليا مبادرة حياة كريمة. التي أطلقها الرئيس لتنمية الريف لوقف عمليات الهجرة المتدفقة من القري للحضر.
وأوضح محمود أن حجم الأماكن غير المخططة في مصر ما بين مناطق خطرة تحتاج إلى إزالة كاملة. وأماكن تحتاج إلي تطوير تبلغ حوالي 60% تقريبا.
وأشار إلى أن الدولة لا تستهدف فقط تغيير المسكن لهذه الفئات إنما تعمل لتغيير الواقع الثقافي والاجتماعي. ورفع الوعي لدي سكان هذه المناطق بالكامل وان هناك تعاون بين كل الوزارات لعمل برامج تعمل على هذه الجزئية.