في تطور خطير للتوتر الدامي بين قوات التيجراي والحكومة الإثيوبية الفيدرالية، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي. آبي أحمد أمس الثلاثاء، الاستنفار العام ضد قوات تحرير شعب التيجراي، قائلاً: “حان الوقت لجميع الإثيوبيين. المؤهلين والبالغين للانضمام إلى قوات الدفاع والقوات الخاصة والميليشيات وإظهار وطنيتهم”. دعوة أحمد تأتي في إطار محاولات رئيس الوزراء الإثيوبي تشكيل ميليشيات إقليمية قائمة على أساس عرقي. في مواجهة انتصارات التيجراي المتوالية ضد قوة الدفاع الوطني الإثيوبية الفيدرالية. إلا أن التطور السريع للمشهد السياسي في إثيوبيا يؤكد محدودية قدرة حكومة آبي أحمد في أديس أبابا للسيطرة على هذه الميليشيات. وسط أجواء الاحتقان التي أصبحت تملأ أغلب الأقاليم الإثيوبية دون التيجراي وحدهم. وهو ما ينذر بتداعيات سلبية تصل إلى حد التهديد لاستقرار إثيوبيا ووحدة أراضيها بخاصة القدرة على تحقيق التعايش السلمي بين العرقيات والقوميات الإثيوبية.

دعوة آبي أحمد للمشاركة في القتال ضد التيجراي تأتي رغم إعلانه وقف إطلاق النار من جانب واحد قبل 6 أسابيع. في يونيو الماضي بسبب ضغوط دولية وهزيمة القوات الحكومية أمام المتمردين من التيجراي. وفرار مسؤولين حكوميين بعد استعادة قوات التيجراي لأجزاء واسعة من الإقليم تشمل عاصمة الإقليم ميقلي. إلا أن عدم تقدم قوات التيجراي للسيطرة على الأقاليم المجاورة في عفار بحجة تأمين وصول المساعدات الإنسانية التي تمنعها الحكومة عن الإقليم. كان السبب الرئيسي في استنفار الحكومة في أديس أبابا من جديد.

ويأتي تطور الأحداث في أديس أبابا في الوقت الذي تستمر فيه حكومة آبي أحمد في رفض أي تدخلات أو وساطات دولية أو إقليمية للحوار. مع جبهة تحرير شعب التيجراي، أو قادة الجبهة بعد تصنيفهم منظمة إرهابية.

تطور العمليات العسكرية

لم يكن مجيء آبي أحمد للسلطة مرحبا به من قبل القوميات الإثيوبية المختلفة، رغم تنصيبه من قبل البرلمان بعد ثورة أطاحت بحكومة جبهة تحرير شعب التيجراي. التي قبضت سلطتها على البلاد لأكثر من 30 عاما، إضافة إلى رفض التيجراي تنحيهم عن المشهد السياسي وتهميش وجودهم وتقليص سلطتهم الممتدة. إلى مفاصل الدولة السياسية والعسكرية والاقتصادية ساعدت السياسيات الأمنية القمعية لآبي أحمد. في زيادة التوتر وخلق تيارات واسعة ترفض بقاءه في السلطة خاصة بعد اعتقال منافسه السياسي جوهر محمد. ومقتل المغني الشهير هاشالو هونديسا الذي فجر موجه من الغضب في إثيوبيا.

وبسبب اعتراض إقليم تيجراي على تأجيل الانتخابات بحجة تفشي جائحة كورونا في نوفمبر من العام الماضي. أعلنت الحكومة الإقليمية في تيجراي إقامة انتخابات خاصة بها لم تعترف بها حكومة أديس أبابا. وقررت المواجهة العسكرية مع قوات التيجراي بمساعدة الجارة اريتريا التي تكن عداء تاريخي مع التيجراي.

وتجددت الاشتباكات بسبب تقدم قوات إقليم التجراي في أراضي الأقاليم المجاورة في أمهرة وعفار. بعد تحرير أرضهم من سيطرة قوات الحكومة الإثيوبية المركزية. وهو ما دفع لحالة الاستنفار والتعبئة العسكرية من خلال زعماء الأمهرة المتحالفين مع الحكومة المركزية. وتجهيز الميليشيات المحلية غير النظامية وتسليح أفرادها لمواجهة قوات التيجراي. وهو ما يزيد من رقعة الصراع ليشمل أقاليم إثيوبية أخرى دون اقليم التيجراي. حيث خلف النزاع حتى الآن ألاف الضحايا وتشريد ما يزيد عن 2 مليون مواطن.

الجنرال تسادكان جبريتنساي العقل المدبر لمتمردي إقيلم تيجراي الإثيوبي
الجنرال تسادكان جبريتنساي العقل المدبر لمتمردي إقيلم تيجراي الإثيوبي

كانت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، قد تعهدت باستعادة جميع الأراضي الواقعة داخل حدود الإقليم والتي فقدتها منذ سيطرة القوات الاتحادية الإثيوبية على الإقليم في نوفمبر. إلا أن جزء من الأراضي الخصبة الواقعة في غرب وجنوب تيجراي وتسيطر عليها يرى أقليم الأمهرة أنها تحق له.

كان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد توجه إلى إقليم عفار المجاور للتيجراي مرتديا بدلته العسكرية. وبرفقة قادة الجيش من رئيس الأركان وقائد القوات الجوية ومدير جهاز الأمن والمخابرات ليكونوا على الجبهات الأمامية للمواجهات مع مسلحي جبهة تحرير تجراي.

وفقا لاتصال هاتفي لزعيم الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي دبرصيون جبرئيل مع وكالة رويترز. فإن الهدف الرئيسي من توجه قواته لإقليم عفار هو استهداف قوات من إقليم أمهرة المجاور تقاتل لصالح الحكومة الفيدرالية. إلا أن الحكومة الإثيوبية تتهم جبهة التيجراي بإغلاق طريق المساعدات الإنسانية من خلال تنفيذ هجمات على الممرات الإنسانية بإقليم عفار.

تتحدد أهمية موقع إقليم عفار الإستراتيجية، كونه يمر عبره الطريق الرئيسي وخط السكك الحديدية اللذان يربطان العاصمة أديس أبابا بميناء جيبوتي البحري. وهو الاتهام الذي يأتي في وقت ترفض فيه الحكومة الإثيوبية فتح أي ممرات للمساعدات الإنسانية عبر الحدود السودانية. باعتبار أن ممرات إقليم عفار ودولة جيبوتي كافية لإدخال المساعدات لإقليم تجراي.

هشاشة الإطار السياسي لحكومة آبي أحمد

لم يكن التوتر وتسارع وتيرة المواجهة بين آبي أحمد والتيجراي هو الوحيد في المشهد السياسي الإثيوبي. إذ إن مقاطعة أحزاب المعارضة الرئيسية في إثيوبيا بخاصة في إقليم أوروميا للانتخابات الأخيرة. التي فاز فيها حزب أحمد بأغلبية ساحقة واتهام قوات الأمن الإقليمية بالترهيب يعكس استمرار وامتداد التوتر ليشمل أقليم وعرقيات أخرى دون التيجراي.

آبي أحمد
آبي أحمد

وتصنف سياسات آبي أحمد القمعية في مواجهة الاحتجاجات والغضب المتصاعد ضده ضمن سياسات العنف الإثني ضد عرقيات إثنية محددة. وهو ما كشفت عنه رؤية أبي أحمد الذي يسعى لخلق قاعدة شرعية يضمن بها الولاء له. وفق فكرة الإثيوبانية والتخلي عن التقسيم العرقي التاريخي للشعب الإثيوبي من خلال السعي لإلغاء الفيدرالية العرقية. وهو ما يصطدم مع رؤية وإيمان العرقيات الإثيوبية المختلفة بالسيطرة المحلية والمطلقة على الأراضي التابعة لهم. حيث تستهدف بعض الأقاليم الإثيوبية الاستمرار في تعزيز سياسات الحكم الذاتي تحت الفيدرالية الإثيوبية. إلا أن زيادة التوتر مع إقليم التيجراي واعتقال المعارض السياسي جوهر محمد المنتمى لعرقية الأورومو. وهي نفس العرقية التي ينتمي لها أبي أحمد بسبب طرحه لأفكار تعزز الحكم الذاتي للأقاليم الإثيوبية. إضافة إلى أعمال الشغب التي اندلعت إثر مقتل المغني الشهير هاشالو هونديسا العام الماضي أعادت التخوف من زيادة الخلاف واتساع هوه التوتر بسبب الانتماءات العرقية والإثنية.

في نظرة سريعة على الانتخابات البرلمانية في إثيوبيا والتي فاز فيها حزب الرخاء برئاسة أبي أحمد باكتساح. نجد أنها تمت بعد إقصاء عدد من الأقاليم الرئيسية مثل أوروميا الغربية وبني شنقول جوميز والتيجراي. فضلا عن تأجيل الانتخابات في الصومال وهرار، وهو ما يؤكد أن انتصار آبي أحمد في الانتخابات المنعقدة في يوليو الماضي. لم يعبر بالضرورة عن رأب الصدع السياسي أو حقن التوتر القائم من بعض العرقيات ضد أفكاره وسياساته.

تعزيز التوتر العرقي.. خطة آبي آحمد في مواجهة أعدائه

اتفقت عدد من الدراسات والآراء لكتاب ومراقبين دوليين وإقلميين للمشهد الإثيوبي على أن زيادة وتيرة الخلافات العرقية هي نتجية أكيدة لسياسات آبي أحمد. ليس فقط بالنظر إلى الأحداث المشتعلة في إقليم التيجراي بل وفقا لتحرك أقاليم أخرى ضده. ومنها دعوة إقليم أوجادين للانفصال عن الدولة، حيث تعامل معها بتدخل الجيش الإثيوبي وإلقاء القبض على الكثيرين من قادة الإقليم. فضلا عن الاضطراب السياسي والأمني الذي يسيطر على إقليم الأمهرة. عقب محاولة انقلاب جاءت على خلفية قيام “أسامنيو تسيجي” بتشكيل جماعة مسلحة قامت بمهاجمة مقرات حكومية في ولاية أمهرا. إضافة إلى محاولات الإنفصال في إقليم أوروميا على خلفية حالة التضييق الأمني لبعض الشخصيات الرمزية وعلى رأسها اعتقال جوهر محمد.

 

قوات الأمن الإثيوبي في شوارع العاصمة
قوات الأمن الإثيوبي في شوارع العاصمة

ويفسر المراقبون إصرار وتشدد آبي أحمد على تطبيق مركزية القرار لإحكام السيطرة على الأقاليم الإثيوبية. وتهميش الأقليات وممارسة العنف والانتهاكات الممنهجة على نطاق واسع مع خصومه السياسيين. لتجاهله واقع التركيبة العرقية الفريدة وتشابكها في إثيوبيا التي يعيش داخلها ما يقرب من 80 مجموعة عرقية وإثنية. وهو ما ينذر بخطورة تفجر الأوضاع والدخول في صراع عرقي لا ينتهي.

في مواجهة الانتقادات الموجهة ضده يحاول آبي أحمد خلط أوراق اللعبة من خلال استدعاء العدو الخارجي. وهو ما حاول استخدامه من خلال تسيس ملف سد النهضة وإظهار عداوة بلاده مع مصر والسودان وأنها ضمن مساعيه لحماية الشعب الإثيوبي. وهي نفس السياسة التي ينتهكها الآن في الحشد الشعبي والعسكري ضد التيجراي باعتبارهم عدو الشعب الإثيوبي. إلا أن الانتهاكات المتزايدة التي ترتكبها الميليشات المسلحة والقوات المجندة من قبل أبي أحمد. لمواجهة عناصر جبهة التيجراي حولت المعركة لحرب أهلية محتملة بعد استهداف المدنيين.

التوتر الأمني يخلف تداعيات اقتصادية

لأسباب مختلفة من بينها استمرار التوتر الأمني واتجاه مؤشراته نحو مزيد من التصعيد قد يصل لحد الحرب الأهلية. أبدى العديد من المستثمرين الذين كانوا قد ضخوا بعض أموالهم في إثيوبيا مخاوفهم من إمكانية الاستمرار في بلد طالما روجت لنفسها خلال العقد الماضي أنها الأسرع نموا في القارة الإفريقية وأكثر البلدان جذبا للاستثمارات الأجنبية.

وتحدثت تقارير دولية عن تخوفات من قدرة الحكومة الإثيوبية الوفاء بالتزاماتها في مشروعات الاتصالات والطاقة وغيرها من الصناعات. التي تشترك فيها مع استشاريين وشركات دولية، بعد توجيه أغلب امكانيات الدولة للحشد العسكري.

وعزز من مخاوف التدهور الاقتصادي الأنباء المتداولة عن الفيضان المحتمل والذي قد يخلف خسائر واسعة في العديد من المناطق. وهي الأحداث التي تأتي جميعاً في ظل ارتفاع معدلات التضخم وتضاعف الأسعار. وإغلاق العديد من المصانع بسبب نقص العملات الأجنبية ومدخلات الإنتاج، وانخفاض التصنيف الائتماني بسبب التخلف عن سداد الديون.

بسبب المشاكل الإقتصادية أغلقت اثيوبيا سفاراتها في عواصم هامة وهي واشنطن، استكهولم، باريس، برلين، كانبيره، لاهاي. في محاولة لخفض النفقات حيث تم الإبقاء على السفير فقط في واشنطن وسحب باقي الدبلوماسين وإلغاء عقود الموظفيين والعمال المحليين.

ضغوط دولية من أجل حماية الحليف العسكري الإقليمي

رغم نجاح حكومة أديس أبابا لتكون الحليف الاستراتيجي للغرب وأمريكا لسنوات طويلة لمواجهة الإرهاب والتطرف في القرن الإفريقي. إلا أن تدهور الأوضاع الإنسانية في إقليم تيجراي أصبح واحدا من بين الملفات التي باتت تحظى باهتمام دولي متزايد. خاصة بعد المواجهات العسكرية الدامية بين الجيش المركزي الإثيوبي والدعم العسكري الإريتري. من جانب وقوات تحرير شعب التيجراي من جانب آخر.

وترى الأطراف الدولية أنه على الرغم من قدرة الجيش الإثيوبي تحقيق انتصارات لتنفيذ الأجندة الدولية في مكافحة الإرهاب. حيث كان الحليف المفضل لأمريكا في القرن الأفريقي والدعامة الأساسية لمكافحة حركة الشباب في الصومال. إلا أن الهزائم التي تكبدها الجيش أمام قوات التيجراي وإن كانت مؤقته إلا أنها تضعف الجيش الإثيوبي. الذي لن يكون قادرا على مواجهة التحديات الأمنية الداخلية بمفرده طويلا بخاصة مع تصاعد وتيرة الغضب والعنف في أوروميا وأوجادين الصومالية.

الاتصالات القوية لزعماء جبهة تحرير التيجراي مع القوى الدولية بخاصة أمريكا بالنظر إلى المصالح المتشعبة لهم. داخل الأروقة السياسية والأمنية في واشنطن منذ عهد رئيس الوزراء الراحل ميلس زيناوي. مكنت القيادات المعارضة في إثيوبيا لوضع حكومة أبي أحمد تحت ضغوط دولية عديدة بدأت مع زيادة حدة الانتقادات الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان.

إقليم التيجراي
إقليم التيجراي

ورغم الضغوط التي تحاول واشنطن التلويح بها حيث كان ملف تخفيض المساعدات الأمريكية لإثيوبيا مطروحا. خلال زيارة المسؤولة الأمريكية سامانثا باور، مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أديس أبابا. إلا أن مراقبين أمريكيين قللوا من قدرة واشنطن على التصدي للتحولات الديناميكية السريعة في إثيوبيا والتداعيات الخطيرة. التي قد تنعكس على المنطقة بنقل الصراع إلى الدول المجاورة بخاصة اريتريا والسودان والصومال. وهو ما يضفي الطابع الإقليمي على الصراع الإثيوبي الداخلي.

لكن التوقعات الضعيفة بامكانية وقف الصراع المتصاعد، يمكن للمجتمع الدولي إيجاد صيغة للتدخل الفوري من أجل وقف تشكيل الميليشيات العرقية. وإطلاق يدها لتنفيذ عمليات ضد عرقيات بعينها، بخاصة مع سياسة أبي أحمد. الذي يبدو وأنه سيجعل من الميليشات الذراع الأقوى في مواجهة التيجراي وأي قومية أخرى ترفض سياساته المركزية. بإحكام السيطرة على الأقاليم الفيدرالية دون إعطاء أي حقوق للحكم الذاتي. وهو ما تتنبئ له بقوة العديد من مراكز الفكر والمراقبون الدوليين بدخول إثيوبيا في نفق التطهير العرقي المظلم. الذي سبق وخلق ملايين الضحايا في القارة الإفريقية على رأسها التجربة الرواندية التي لا تزال تتعافى من آثاره منذ التسعينيات.