ظلت إحدى أزمات كثير من النظم العربية تكمن في تطبيق دساتيرها، ومع ذلك ظل الدستور حاضرا في النقاش العام في بلاد كثيرة ومنها تونس التي حرصت نخبتها السياسية على إعلان احترامها للدستور على خلاف بلاد أخري.
ومع ذلك ظلت هناك عيوب هيكلية في فصول الدستور التونسي وفلسفته، أدت إلى خلق نظام يقود سلطته التنفيذية “رئيسان” (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء) فانطبق عليه المثل المصري الشهير “المركب اللي فيها ريسين تغرق”.
لقد ولد الدستور التونسي بعيوب مرحلة “ما بعد الثورة” التي اعتبرت أن مواجهه الاستبداد يكون بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية وتحصين البرلمان حتى وضعت صلاحيات الرئيس في منازعة مع رئيس الحكومة وأصابت النظام السياسي بالشلل.
في المقابل يمكن القول إن كثيرا من مواد الدستور المصري كانت أكثر قربا من الواقع المجتمعي والسياسي من نصوص الدستور التونسي، بصرف النظر عن تطبيقها، وإن أي مقارنة بين النصين ستوضح لنا كيف أن جانب رئيسي من الأزمة الحالية في تونس يعود إلى كثير من فصول الدستور التونسي.
بين النصين
أعطى الدستور التونسي مساحة كبيرة (نسبيا) في بابه الخامس للسلطة القضائية (من صفحة 18 حتى 24) فأشار للقضاء العدلي والإداري والمالي والمجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية، وفي بابة السادس نص على الهيئات الدستورية والانتخابات والإعلام وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، وهنا كانت هذه الأبواب كما يقول التوانسة “خارقة للعادة” وملهمة ولا تختلف كثيرا عن باب الحقوق والحريات المتميز في الدستور المصري.
أما باب السلطة التنفيذية الرابع فجاء في عدد صفحات محدود نسبيا، وكأن هناك خوفا من التأكيد على دور السلطة التنفيذية حتى لا يتهم من كتبوا الدستور بفتح أبواب الاستبداد، ونسي المشرع أن هذه السلطة مطالبة بأن تنجز وتنمي البلد في ظل رقابة سلطة تشريعية قوية ومنتخبه.
ومنذ الفصل الأول (71) في باب السلطة التنفيذية، اتضح أن تونس اختارت نظرية “المركب ذات الريسين” فنصت: “يمارس السلطة التنفيذية رئيس الجمهورية وحكومة يرأسها رئيس الحكومة”. وهو أمر كرس منذ البداية التساوي بينهما وفتح الباب لصراع “الريسين” والذي يشل أي نظام سياسي، وهو ما حدث بين رئيس الوزراء الأسبق يوسف الشاهد ورئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي، وتكرر مع الرئيس قيس سعيد ورئيس حكومته المعفى من منصبة هشام المشيشي
ويلاحظ أن معظم الفصول المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية في تونس جاءت محدودة وباهته، فالدستور التونسي لا يعطي لرئيس الجمهورية الحق في حل البرلمان وهو أمر جيد، ولكنه لا يعطي الشعب الحق في أن يستفتى على سحب الثقة من البرلمان وهو كارثة، ولنا أن نتصور لو كان الدستور التونسي نص على أن من حق الرئيس أن يدعوا الشعب للاستفتاء على سحب الثقة من البرلمان لكانت النتيجة بأغلبية كبيرة مع سحب الثقة ولم يكن قيس سعيد في حاجة إلى اتخاذ قرارات استثنائية بتجميد عمل البرلمان، واعتبرها كثيرون بما فيها مؤيديه غير دستورية.
وقد نصت الفصل 80 من الباب الرابع من الدستور التونسي والتي استند عليها الرئيس قيس سعيد في قراراته:
“رئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”.
صحيح أن الرئيس اعتبر أداء البرلمان وخاصة نواب النهضة يمثل خطرا داهما على البلاد مما استوجب التجميد، ومع ذلك فإن عدم نص هذا الفصل بأي صورة من الصور على أنه من حق رئيس الجمهورية تجميد عمل البرلمان أو الاستفتاء على حله، جعل في قرارات رئيس الجمهورية عوار دستوري بصرف النظر عن الرأي السياسي فيها.
والواضح أن الوثيقة الدستورية التونسية كانت في الباب الرابع الخاص بالسلطة التنفيذية رد فعل لمناخ الخوف من عودة الاستبداد، وهو تخوف مشروع وقتها ولكنه لم ير مخاطر بناء نظام بلا رأس وغير قادر على الإنجاز ويعيش على المعارك السياسية الصغيرة ودون أي قدرة على التنمية السياسية والاقتصادية.
وأذكر أننا عشنا هذا التخوف في لجنة الخمسين أثناء كتابة الدستور المصري، ودخلنا في مناقشات حامية حول النظام السياسي الأفضل لمصر، وكنت من المدافعين عن النظام الرئاسي الديمقراطي داخل اللجنة وخارجها وكان الدكتور محمد أبو الغار من مؤيدي النظام البرلماني أو ما يسمى بالنظام المختلط الذي هو من وجهه نظري نظام برلماني معدل.
ويمكن القول إن الدستور المصري أقرب للنظام شبه الرئاسي (فرنسا) وإن رأس السلطة التنفيذية هو رئيس الجمهورية، وإن رئيس الوزراء يقوم بمهام في الإدارة الداخلية بموافقة البرلمان.
كما سنجد أن لرئيس الجمهورية الحق في استفتاء الشعب على حل البرلمان وفق المادة 137 من الدستور المصري التي تنص على إنه: “المجلس السابق.”
كما أن المادة 146 من الدستور المصري، وهي مادة اقترحتها داخل اللجنة ونالت قبول الأعضاء وتنص: “يكون لرئيس الجمهورية، بالتشاور مع رئيس مجلس الوزراء، اختيار وزراء الدفاع والداخلية والخارجية والعدل”.
والحقيقة أن فلسفة هذه المادة تقوم على فكرة الشراكة بين الدولة والمجتمع السياسي فمن غير الوارد حاليا تصور تعيين وزير الدفاع أو الداخلية من قبل الأحزاب إنما أعطي الحق الدستوري لرئيس الجمهورية لاختيار قادة هذه الوزرات من داخل مؤسسات الدولة وخارج منطق المحاصصة الحزبية والسياسية.
بالمقابل سنجد الفصل 89 من الدستور التونسي نص على: “تتكون الحكومة من رئيس ووزراء وكتاب دولة يختارهم رئيس الحكومة، وبالتشاور مع رئيس الجمهورية بالنسبة لوزارتيْ الخارجية والدفاع”. أي حتى مجال السياسة الخارجية والدفاع الذي أعطي فيه لرئيس الجمهورية التونسية بعض الصلاحيات سحب منه حقه في اختيار وزيري الخارجية والدفاع وأعطي لرئيس الحكومة الذي يكتفي بالتشاور معه.
تطبيق الدساتير
ستبقي مشكلة الدساتير في العالم العربي في عدم تطبيقها، وفي بلد مثل تونس الدستور حاضر بقوة ويحاول كل طرف أن يعلن تمسكه به، وهو سيعني إنه لو كان كتب بطريقة مختلفة لتغير ربما الوضع الحالي، وتبقي فرصة النجاح قائمة بإجراء تعديل على بعض فصوله عبر استفتاء شعبي يساعد البلاد على تجاوز أزماتها.
والمؤكد أن أمام تونس مثل كثير من بلاد الدنيا خيارين: إما أن تذهب إلى خيار النظام البرلماني (أعترض عليه بقوة) وتنتخب رئيس جمهوريتها من البرلمان بصلاحيات رمزية ويكون رأس السلطة التنفيذية هو رئيس الحكومة المنتخب من البرلمان، أو تذهب نحو النظام الرئاسي الديمقراطي (أؤيده بقوة) الذي ينتخب فيه رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب ولديه صلاحيات تنفيذية واسعة ومحدد بقاؤه في السلطة بمدتين غير قابلتين للتمديد.
أما نظم من كل “نظام زهرة” فصل برلماني وآخر رئاسي فنتيجتها شلل كامل في المنظومة السياسية وهذا ما شهدته تونس منذ 2019.